مصر 2013م أين الخلل؟
لُبّ المشاكل التي تُعاني منها مصر اليوم بعد عامين كاملين من الثورة، يتمثّل في طبيعة الشعوب التي نالت حريتها واستردت كرامتها وفرصتها في الحرية والعدالة الاجتماعية تكون في مرحلة ما بعد الثورات محملة بمطالب شعبية ذات طموحات عالية وأمال عريضة، تستدعي إجراء تغييرات جذرية في توزيع القوة والثروة داخل المجتمع، وهذا التغيير الشامل والذي يستهدف البنية التحتية لنظام راسخ عشرات السنين يواجه بعقبات من العيار الثقيل.
اليوم يمر على مصر الذكري الثانية لاندلاع واحدة من أعظم ثورات المنطقة العربية والعالم بأسره، ثورة (25) يناير التي بدت للعالم بأسره كواحدة من إعجازات الإرادة البشرية في تغيير الواقع الأليم مهما كانت ضراوته وضخامته وتوحش باطله، ثورة (25) يناير كانت حدثًا استثنائيًّا فريدًا عجزت أقوى وأدق أجهزة الرصد والمتابعة والمراقبة في كل مخابرات العالم عن توقعه أو استشراف مآلاته، مما جعل دائرة الانبهار والإعجاب بها تتسع لتشمل حتى الدول المعادية قبل الصديقة، والمتقدمة قبل النامية، وصارت هذه الثورة المباركة مصدر إلهام لكثير من الحركات الثورية والتجمعات الشبابية والباحثين عن العدل والحرية.
ولكن مع الوقت أخذ الإعجاب يخبو والانبهار يزول، فقد ذهبت السكرة وبقيت الفكرة، وحان وقت العمل، وانتهى وقت الاحتفال، وأصبح المصريون على موعد مع أيام صعبة كئيبة، ومشاهد درامية مريبة، ولم يبق عالقًا من ذكرى أيام الثورة المجيدة، سوى كلمات المخلوع مبارك التي قالها في آخر خطاب مشئوم ألقاه قبل خلعه، عندما وجهه إنذاره الأخير للمصريين: "اختاروا بيني وبين الفوضى"، فكانت الفوضى التي بشَّر بها المخلوع المصريين قبل رحيله، وأصبحت مصر بعد الثورة تعوم على بحر من المشاكل والاضطراب والتوتر.
فلماذا كل هذا الكم من المشكلات والتوترات والاضطرابات في مصر رغم مرور عامين على الثورة؟
بداية لابد من أن نعترف أن ثمة خطأ بالغ في تقدير حجم المشكلات التي كانت تعاني منها مصر خلال حقبة مبارك الطويلة، فالديكتاتورية والاستبداد والفساد الذي كان عليه نظام مبارك قد أورث البلاد حجمًا مهولاً ومخيفًا من الإشكاليات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، والاعتقاد بأن جرائم مبارك منحصرة في الفساد المالي ونهب خيرات البلاد، محض خيال ووهم كبير وسوء تقدير، أدى لهذه الأوضاع المؤلمة في الشارع المصري، والمظاهر المقلقة التي بدت عليها الفترة الانتقالية في مصر خير مثال على أن مصر ستعاني كثيرًا من ميراث مبارك وتركته الثقيلة التي تركها لحكومة ما بعد الثورة.
ولكن بعيدًا عن ميراث مبارك وتركته الثقيلة، وبعيدًا عن أكليشيهات التفسير النمطية التي تقدم لنا نفس التفسيرات لكل حادثة، وبعيدًا عن المؤثرات الخارجية، لنا أن نتساءل قائلين: أين الخلل؟
لُبّ المشاكل التي تُعاني منها مصر اليوم بعد عامين كاملين من الثورة، يتمثّل في طبيعة الشعوب التي انسحقت أمالها وقُتلت أحلامها تحت الاستبداد والظلم والفساد لفترات طويلة، ثم نالت حريتها واستردت كرامتها وفرصتها في الحرية والعدالة الاجتماعية، فهذه الشعوب وليس الشعب المصري وحده، تكون في مرحلة ما بعد الثورات محملة بمطالب شعبية ذات طموحات عالية وأمال عريضة، تستدعي إجراء تغييرات جذرية في توزيع القوة والثروة داخل المجتمع، وهذا التغيير الشامل والذي يستهدف البنية التحتية لنظام راسخ عشرات السنين يواجه بعقبات من العيار الثقيل، وهذا ما رأيناه صراحة خلال العامين الماضيين في مصر، فاستقراء الأوضاع في بلاد الثورة يكشف لنا موطن الخلل وأصل الداء، ومن أبرز هذه العقبات:
* إثارة الاحتجاجات والمطالب الفئوية والعامة بصورة لا نهائية، في الوقت الذي تواجه مصر حالة من تقلص الموارد، وانهيار الاقتصاد، فالذي لم يكن يعرفه المصريون أن مصر مبارك لم يكن لديها اقتصاد متكامل أو نامي بالمعنى المتعارف عليه، وإنما كان يعتمد اقتصاد البلاد على مدخولات محدودة من قناة السويس وغيرها، في حين تتولى دول الخليج وأمريكا والاتحاد الأوروبي وهي الدول الداعمة لنظام مبارك والمستفيدة من وجوده، تتولى تدعيم الاقتصاد المصري بعشرات المليارات سنويًّا من هبات ومنح ومساعدات وقروض مريحة، فلما سقط مبارك منعت هذه الدول دعمها المادي القوي عن مصر، وانكشفت حقيقة الاقتصاد المصري، فثورة التطلعات الشعبية مع الوقت والوقوف أمام الحقيقة الأليمة قد تحولت إلى ثورة من الإحباطات.
* الصراع السياسي بين أجنحة الثورة، فقد تحوّل مشهد الاتحاد الثوري في ميدان التحرير مع الوقت إلى صراع أيدلوجي بحت بين إسلاميين وعلمانيين، وبدا أكثر عمقًا وجذرية وعنفًا أيضًا، وتحولت الثورة من إقامة نظام ديمقراطي جديد محل نظام ديكتاتوريٍ مستبد إلى صراع على السلطة من ناحية، وصراع على الدولة من ناحية أخرى، حيث تسعى كل القوى إلى إثبات وجودها وحجز حصتها في النظام الجديد، ورسم نطاقاتها المحجوزة، ليس فقط من خلال آليات التحول القائمة على المنافسة السياسية، ولكن باستمرار الحشد الثوري في معركة المليونيات المتبادلة بين الأغلبية الإسلامية والأقلية العلمانية، وأيضًا باللجوء إلى العنف الذي قد يقود يومًا ما لو تزايدت وتيرته إلى إجهاض الثورة كلها، هذا الصراع ولَّد حالة شديدة من الاستقطاب داخل الشارع المصري، سدت أفق التعامل والتوافق الرحبة بين القوى السياسية، وأعاقت بناء النظام الجديد، بدا للعيان أن المسألة قد تحولت لصراع بقاء بين الأغلبية الإسلامية والأقلية العلمانية، وفي هذه الأجواء لا يصلح أبدًا بناء نظام جديد ومؤسسات حكم راشدة، واختيار السياسات والاستراتيجيات السليمة، وتوظيف القادة المؤهلين الأكفاء؛ لأن المسألة برمتها قد خضعت لغير المعايير الطبيعية في البناء والتحول الصحيح.
* الجدل المستمر بين الشرعية الثورية والشرعية الدستورية، ففي الوقت الذي دأب فيه الثوار والمتظاهرون على مطالبة مرسي باتخاذ قراراتٍ ثورية، منعوه وبشدةٍ من استخدام أدوات هذه الآلية الثورية، بدعوى أن ذلك يفتح بابًا للاستبداد والديكتاتورية، مثال ما حدث مع النائب العام، مما أوجد حالة من الثورية المزمنة التي لا تعرف متى تتوقف، فهناك شريحة من الثوار أصبحت الثورة عندهم غاية، ومن ثم فهو يعتقد أنها دائمةً ليس لها حدود، وأصبح شعار الثورات التاريخي "الشعب يريد إسقاط النظام" شعارًا مبتذلاً يرفع كلما كان هناك مطلبٌ ثوري أو فئوي، وهؤلاء الثوار -أو مدّعو الثورية- قد فقدوا بوصلتهم الأصلية، وأصبحوا يرفضون فكرة الخضوع للدولة والنظام مهما كانت درجة استقامته؛ لأن ذلك ينتقص من شعورهم وكيانهم الثوري –بزعمهم- ومن ثم كانت مظاهر الاحتشاد السلبية والمليونيات الفارغة والتظاهرات عديمة الأسباب، وكل ذلك عبءً على كاهل الدولة والنظام الوليد.
* البيروقراطية التي عليها مؤسسات الدولة، والنظم الموروثة المعيبة التي قامت عليها هذه المؤسسات التي ما زالت تعمل بنفس النهج القديم، فالسلبيات المزمنة التي خلفها نظام مبارك ربما تكون أقوى من حكم الإخوان أو أي فصيلٍ آخر، فالبيروقراطية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية التي عليها المؤسسات المصرية تقف حائط صدٍ ومحور ممانعة عنيد ضد محاولات الهيكلة والتغيير، وهذا المحور بالتعاون مع أعداء الثورة في الداخل والخارج هو الذي يقود الثورة المضادة اليوم في مصر، ولعل أجلى مثال لذلك وزارة الداخلية التي باتت تمثِّل هاجسًا ثوريًّا لكل المصريين، الموروث الإداري الذي يعتمد على المركزية الشديدة التي تعيق روح الإنجاز والتطور يلعب دوره بقوة في توقيف أي مسارٍ للإصلاح والنهوض الحقيقي.
* أما أكبر عوائق المرحلة وأكثرها تعقيدًا فهو الشعب المصري نفسه الذي أثبت بعد مرور عامين من الثورة، أن البلاد لم تكن بحاجة لرئيس جديد، بقدر ما هي تحتاج إلى شعب بفكرٍ وعقلٍ جديد، فسياسة التجهيل التي فرضت على المصريين أكثر من ستين سنة أنتجت في النهاية شعبًا مغيبًا لدرجة كبيرة، لا يعرف مسئولياته وَواجباته وحقوقه والتزاماته، لا يعرف حقوقه السياسية وَواجباته الاجتماعية ومسئولياته القانونية، تداخلت عنده المسارات، فلم يعد يعرف ما هو مطلوب منه، وما هو حق أصيل له، وأصبح المواطن المصري يرى نفسه بلا أية مسئولياتٍ أو التزامات، وأن المسئولية تقع وحدها على النظام والحكومة، بالتالي تم إدانة النظام الجديد في كل النكبات الحادثة في مصر بعد الثورة، فأصبح الإهمال والتسيب وعدم الالتزام هو نصيب الحكومة وحدها والمواطن مظلومٌ معها، وصعوبة هذا العائق أن تغيير العقول والأفكار والثقافات يحتاج لوقت طويل وجهد كبير وأجيال متعاقبة، وخطورته أن العنصر البشري هو الأهم في عملية الاستقرار والنهوض.
ورغم كل هذه العوائق إلا إن التفاؤل لن يموت، والأمل لن يخبو، فكل هذه العوارض طبيعية مرّت به معظم البلاد التي قامت بها ثورات شعبية ضد أنظمة فاسدة، والتاريخ شاهد على أن الثورة الروسية قد مكثت (18) سنة قبل أن تصل لمرحلة استقرار الحكم، والثورة الفرنسية مكثت أكثر من ثلاثين سنة، والثورة البرتغالية مكثت (8) سنوات قبل الاستقرار، وغيرها كثير، فالمطالبون بإجهاض الثورة المصرية كثر، ومصالحهم متشابكة ومشاربهم مختلفة، ولكن غايتهم واحدة وهدفهم ثابت، لذلك فإنه ليس من المتوقع أن تستقر البلاد في الوقت القريب، ولكنها من المؤكد أنها ستستقر ولو بعد حين.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: من الآية 21].
شريف عبد العزيز الزهيري
[email protected]
- التصنيف: