منظومة القيم والمفاهيم الإسلامية: مصادرها وأثرها في السلوك / الحلقة الثانية: مفهوم الدين في الإسلام مقارنة به عند الغرب

منذ 2013-02-25

تشبع الغرب المعاصر بالتصور القديم للديانات الوثنية سواء الشرقية كالبوذية والهندوسية أو الغربية كاليونانية والرومانية القديمة القائم على نظام "الكهنوت" ورجال الدين الممتلئين بالأسرار اللاهوتية وممارستهم لشعائره بشكل من الرهبنة والروحانيات المجردة والتصوف كعلامة على "التديّن"، والقائم على منظومة من الرموز والألغاز التي لا يعلم حقيقتها إلا الكهنة ورجال الدين وهذا من مناهج الفرق الباطنية التي أكثرت من الرموز والأسرار والقول بأن لكل "ظاهر" يوجد "باطن" لا يعلمه إلا الخاصة -ويعنون به رجال الدين والكهنة والأئمة والأولياء- وممن تأثر بهذا المنهج من الفرق المنتسبة للإسلام: الشيعة الإمامية والنصيرية والدروز والقرامطة وغلاة المتصوفة، ذلك بالإضافة إلى مجموعة القصص والخرافات والأساطير والميثولوجيا التي يضعها رجال الدين ويعتبرونها تاريخاً وتراثاً لهذا "الدين".


بسم الله الرحمن الرحيم
بعد حمد الله والثناء عليه سبحانه بما هو أهله، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين: محمد بن عبدالله رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أما بعد ،،،

فقد قال تعالى في محكم تنزيله:
{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].
وقال عزّ من قائل: {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل:103].
وقال سبحانه وتعالى عزّ وجلّ: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء:192-195].
وقوله تعالى: {وَهَـٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا} [الأحقاف:12].

لذا فكونُ معرفة لغة العرب وإتقانها أمراً لازماً لمعرفة مراد الله تعالى هو مما استقر عند علماء الأصول ومما يجب أن يستقر عند عوام المسلمين من المعارف وألا يكون عليه خلاف بينهم، فهو مما لا ينكره أي عاقل يعلم شيئاً عما يلزم المرء من إتقان لغة المتكلم حتى يستقيم له فهم مراده من كلامه.


وللسان العربي من القوة في البيان والبلاغة ما يظهر بيّناً جليّاً في تحدي الله تعالى لهم في القرآن في سياق التدليل على إعجازه وأنه من عند اللطيف الخبير، فالمعجزة لا تثبت إلا بما يأتي خارقاً للسنن والعادات، كما كان من تحدي نبي الله موسى عليه السلام لقومه فيما برعوا فيه من السحر بالعصا، وكما تحدى نبي الله عيسى عليه السلام قومه فيما برعوا فيه من الطب بأن أجرى الله على يديه من إبراء الأكمه والأبرص، وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم كانت معجزته الخاتم هي عين الوحي المنزل عليه إعجازاً للعرب في أن يضاهوا فيه أساليب البيان والفصاحة والبلاغة والمعاني مما يدل على قوة ما كانوا عليه من أساليب البيان والفصاحة حتى يتحداهم الله تعالى بكلامه سبحانه وتعالى فعجزوا عنه وهم أربابها غير المتكلفين لها، ليدل بهذا التحدي وعجزهم عنه أنه منزّل من عند الله معجزةً لنبينا صلى الله عليه وسلم.


ولذلك لا يستقيم فهم امرئ مسلم لمراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بما يتم ذلك به من إتقان لسان العرب وأساليبهم في البيان والبلاغة، وبذلك يستقيم لنا الحق في كثير من التصورات فيما يتعلق بكثير من المعاني والمدلولات اللفظية ومراد الله تعالى منها، على الوجه الذي به يستقيم ما ينبني على هذه التصورات من الأقوال والأفعال والسلوكيات، وبالتالي ما يترتب على هذه الأفعال والأقوال من رجاء ثواب أو خشية عقاب.


ومما كثر فيه اللغط من المفاهيم بسبب عدم إتقان هذا الباب هو مفهوم "الدين"، وقبل أن نبين الحق في المسألة نبين أولاً حقيقة تصور الغرب للدين وأثر هذا التصور على المنظومة الأخلاقية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية، فنقول مستعينين بالله تعالى وبحوله وقوته.


مفهوم الدين عند الغرب:
تشبع الغرب المعاصر بالتصور القديم للديانات الوثنية سواء الشرقية كالبوذية والهندوسية أو الغربية كاليونانية والرومانية القديمة القائم على نظام "الكهنوت" ورجال الدين الممتلئين بالأسرار اللاهوتية وممارستهم لشعائره بشكل من الرهبنة والروحانيات المجردة والتصوف كعلامة على "التديّن"، والقائم على منظومة من الرموز والألغاز التي لا يعلم حقيقتها إلا الكهنة ورجال الدين وهذا من مناهج الفرق الباطنية التي أكثرت من الرموز والأسرار والقول بأن لكل "ظاهر" يوجد "باطن" لا يعلمه إلا الخاصة -ويعنون به رجال الدين والكهنة والأئمة والأولياء- وممن تأثر بهذا المنهج من الفرق المنتسبة للإسلام: الشيعة الإمامية والنصيرية والدروز والقرامطة وغلاة المتصوفة، ذلك بالإضافة إلى مجموعة القصص والخرافات والأساطير والميثولوجيا التي يضعها رجال الدين ويعتبرونها تاريخاً وتراثاً لهذا "الدين".


وحتى في عصور انتشار المسيحية لم يسلم لهم تصورهم للدين من الوثنية والخرافة خاصة لما شاب المسيحية الرسمية -ما بعد مجمع نيقية 323م- من الوثنية والخرافات من القول بالفداء والتثليث والصلب وموت الإله وقيامه من موته والتجسد وغيرها من الأمور التي أدخلها بولس الرسول -بزعمهم- في دين عيسى عليه السلام وادّعى أنها من عند الله ونشرها بين الأتباع على أنها تعاليم السيد المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام وهو منها براء.


فلم تطهّر المسيحية الغرب من وثنيته التي تشبع بها مذ أن تعامل مع الدين في عصور الرومان واليونان وحتى الآن: على أنه مجرد "أساطير" و"ميثولوجيا" و"خرافات" لا حقيقة لها ولا تأثير إيجابي في حياتهم. فتأكد عند الغرب التصور المجرد للتدين على أنه مجرد ترهات وخرافات، إذا اعتقدها المؤمن بها فيكفيه إيمانه بها دليلاً على صحتها! فهي "تجربة" من التجارب الإنسانية التي لا يمكن تفسيرها أو التدليل عليها بشكل أو أسلوب علمي موضوعي.


يقول سير "بنستر فلتشر" في كتابه تاريخ العمارة:
"إن الدين في روما القديمة كان جزءاً من الدستور المدني للدولة، حتى أن عبادة الآلهة التي أخذها الرومان من الإغريق، ووضعوا لها أسماءً لاتينية وصفات تلائم الاحتياجات الدينية الرومانية، كان في النهاية أمراً تم الابقاء عليه فقط كجزء من القانون المدني".

"المشاعر الدينية لم تكن ذات تأثير قوي على الرومان كما كانت عند الاغريق، كما أنها لم تكن متعمقة في حياة أفراد المجتمع، حتى أننا لا نجد أنها كانت عامل ترابط بين الولايات المختلفة داخل الامبراطورية، لقد كان منصب الامبراطور كرئيس للكهنة (pontifex maximus) رمزاً يرمز إلى مجد الامبراطورية أكثر منه مجد للدين".

يقول:
"لم يكن المجتمع الروماني يعتبر الدين عاملاً من عوامل الإصلاح، أما بالنسبة للطبقة الحاكمة والنبلاء (patricians) فنستطيع أن نقول أنهم كانوا يستغلون المناصب والألقاب الدينية لتعزيز وتقوية مصالحهم السياسية بين الجماهير لا أكثر".

يقول الدكتور سفر الحوالي في دراسته حول العَلمانية:
"وأما الطبقة المثقفة فأشتات متفرقة، منها أتباع المدرسة الرواقية المغلّة في التجريد والتصوف، ومنها مريدو المدرسة الأبيقورية المفرطة في البهيمية والحسيّات، ومدارس أخرى متأثرة بالفلسفات الوثنية الإغريقية في تصوراتها وأفكارها.

وأما الطبقة العامة من الشعب فهي تميل بطبيعتها إلى التدين لكن التناحر بين الآلهة والصراع المرير بين الفلاسفة أفقدها الثقة في المعتقدات الدينية والفلسفية بجملتها، فآثرت الاستجابة لداعي الهوى والانصياع إلى الملذات الجسدية والإغراق في المتع الحسية.


خلاصة القول أن الروم لم يعتنقوا ديناً اعتناقاً جدياً يجعلهم يستمدون تصوراتهم وعقائدهم ونظام حياتهم منه وحده، نعم كان لهم آلهة ولكنها آلهة تقليدية "لم تكن سوى محاكاة شاحبة للخرافات الوثنية اليونانية، لقد كانت أشباحاً سكت عن وجودها حفاظاً للعرف الإجتماعي ولم يكن يسمح لها قط بالتدخل في أمور الحياة الحقيقية" (الإسلام على مفترق الطرق، محمد أسد:38).

ثم يقول:
"وبذلك نستطيع أن نجزم بأن المجتمع الروماني كان مجتمعاً مادياً لا دينياً يعاني عزلة حادة عن معتقداته –أياً كانت– وبين واقع حياته العملي، وقد عبّر "سيسرو" عن الانفصال العميق بين الدين ونظام الحياة عند الرومان بقوله: "لما كان الممثلون ينشدون في دور التمثيل ما معناه أن الآلهة لا دخل لهم في أمور الدنيا يصغي إليها الناس ويسمعونها بكل رغبة" (ماذا خسر العالم بإنحطاط المسلمين، الندوى: 163)

ويقول الراهب أوغسطين: "إن الروم الوثنين كان يعبدون آلهتهم في المعابد ويهزأون بهم في دور التمثيل" (ماذا خسر العالم بإنحطاط المسلمين، الندوى: 163)

ليس هذا فحسب، بل أن أبيقور -القرن الرابع قبل الميلاد– لـَيُعلن على الملأ دعوة علمانية صريحة، فهو يقول: "إن الآلهة لا يشغلون أنفسهم بأمور بني البشر، إنهم موجودون لأنهم يظهرون من آن لأخر للأشخاص! بيد أن مسائل العالم الأرضي لا تعنيهم، وما من علامة تدل على أنهم يعنون بعقاب الآثم وإثابة الصالح، أيمكن اعتقاد تدخلهم هذا مع ما نراه في هذا العالم؟"
"إن جوبيتير يرسل الآن بالصواعق على معبده، فهلا سحق أبيقور الذي يجدف به؟"
"إن الآلهة يعيشون بعيداً عن العوالم ولا يهتمون إلا بشؤونهم فلا تعنيهم أمورنا. إنهم يعيشون حكماء سعداء ويعظوننا بهذا المثال الذي يجب أن نسير على منواله فلنعظهم كمُثـُل عليا يقتدى بها، غير أنه يجب علينا ألا نشغل أنفسنا بما يريدونه منا، فإنهم لا يريدون منا شيئاً، هم لا يعيروننا بالاً فلنفعل نحوهم كما يفعلون نحونا" (المشكلة الاخلاقية والفلاسفة، كرسون: 67).

يقول د. الحوالي:
"هذا التصور للآلهة تشترك مع أبيقور فيه الغالبية العظمى من الرومان، ومن الطبيعي جداً أن ينشأ عن هذا التصور الخاطئ للإله تصور خاطئ لمهمة الدين في الحياة وواجب المخلوق تجاه خالقه. ولما كان الصراع هو التصور المشترك لطبيعة الحياة عند الرومان، فقد كانوا يتصورون الآلهة وهي تتصارع في الفضاء كما يتصارع أبطالهم على الحلبة، وليس من شأن البطل أن يشرّع للجمهور بل كل همه أن يخرج من الحلبة ظافراً منصوراً.
وبما أن آلهة الرومان بطبعها لم تكن لتشرع لهم شيئاً، فقد كان من الضروري أن يقوم بشر متألهون بمهمة وضع نظم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة، ونتيجة لجهود هؤلاء برز إلى الوجود "القانون الروماني" الذي لا تزال أوروبا تعيش عليه أو على امتداده إلى اليوم، أما النظم الأخلاقية وقوانين الآداب العامة -إن وجدت- فقد كانت أبيقورية محضة.
وهكذا كان للرومان دين لكنه دين وجداني مجرد لا تأثير له في السلوك العملي ولا يفرض التزامات خلقية معينة، ولا ينظم من شؤون الحياة شيئاً، حتى إننا لنكاد نقول أن الامبراطورية الرومانية نسخة قديمة من الولايات المتحدة الأمريكية اليوم.
كان الفرد الروماني -كالأمريكي اليوم- يخرج من نحلة إلى أخرى، ويتنقل من مبدأ إلى نقيضه دون أن يطرأ على حياته العملية وسلوكه الشخصي أي تغيير فالدين في نظره فكرة مجردة وعقيدة وجدانية فحسب" (العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، د/ سفر بن عبد الرحمن الحوالي: ص53-56- 2010- دار العلماء للنشر والتوزيع – القاهرة).


مفهوم الدين في الإسلام:
ما يفترق فيه المنهج المعرفي في الإسلام عن غيره من المناهج المعرفية للديانات الأخرى هو احترامه لقدرات العقل البشري، فلا يلزمه بما لا يطيقه ولا يستخف به ويحتقره، وتقديره لكون ابن آدم ذو احتياجات روحية واحتياجات جسدية، فهو ليس بالمنهج الذي يغرق الإنسان في التصوف الفلسفي الذي يشطح به في غيبات الخرافة، ولا ينزل به إلى أسافل المادية التي تقتل الروح ولا تعترف إلا بما تدركه الحواس ويطلبه الجسد: ونرى ذلك جلياً في منطقية ارتباط مدلولات الألفاظ واصطلاحها الشرعي بمعانيها اللغوية، وارتباط ذلك المعنى اللغوي بآثار مدلول الاصطلاح الشرعي على واقع المسلم إذا هو التزم المنهج والعمل بهذا المدلول.

تفصيل مدلول "الدين" اللغوي من القرآن والسنة ودوواين لسان العرب:
فالدين: لغة: كلمة من أصل "د ي ن" يدل على:
1- العادة والشأن والسيرة.
2- المِلـَّة والعبادة.
3- الجزاء والمكافأة والحساب.
4- القهر والاستعلاء والغلبة والحكم والملك.
5- الطاعة والخضوع والذل والإكراه. (ملحق في نهاية المقال التفصيل من معاجم اللغة العربية ولسان العرب)

ومن كتاب الله تعالى مما يشير إلى هذه المدلولات:
- العادة والشأن والسيرة:
مثل قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّـهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء:125].

قال أبو جعفر الطبري رحمه الله تعالى:
"وهذا قضاء من الله جل ثناؤه للإسلام وأهله بالفضل على سائر الملل غيره وأهلها ، يقول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} أيها الناس، وأصوب طريقاً، وأهدى سبيلاً {مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّـهِ}، يقول: ممن استسلم وجهه لله فانقاد له بالطاعة، مصدقا نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند ربه {وَهُوَ مُحْسِنٌ} يعني: وهو عامل بما أمره به ربه محرم حرامه ومحلل حلاله" اهـ.

وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ} [يوسف:76].

قال القرطبي رحمه الله:
"قوله تعالى: {فِي دِينِ الْمَلِكِ} أي سلطانه: عن ابن عباس. وعن ابن عيسى: عاداته. وعن مجاهد: في حكمه، وهو استرقاق السراق." اهـ.
وذكر البغوي في تفسيره مثله عن ابن عباس وعن قتادة قوله: في حكمه.
وقال الطبري رحمه الله:
"ما كان يوسف ليأخذ أخاه في حكم ملك مصر وقضائه وطاعته منهم ، لأنه لم يكن من حكم ذلك الملك وقضائه أن يسترق أحد بالسرق، فلم يكن ليوسف أخذ أخيه في حكم ملك أرضه" اهـ.

وقوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله -أي فرعون قبحه الله- : {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} يعني : موسى، يخشى فرعون أن يضل موسى الناس ويغير رسومهم وعاداتهم". اهـ.

- الملة والعبادة، والطاعة والخضوع:
مثل قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19].
وقوله تعالى: {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} [النحل:52].

قال ابن كثير رحمه الله:
"أي: له العبادة وحده ممن في السماوات والأرض، كقوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّـهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83]" اهـ.

وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33].

قال ابن كثير رحمه الله:
"ودين الحق: هي الأعمال الصالحة الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة. {ليظهره على الدين كله} أي: على سائر الأديان" اهـ.

ومثل قوله تعالى: {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة:29].
وقوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14]، وقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان:32] وقوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8]
وقوله تعالى: {إٍنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُون} [البقرة:132] وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّـهِ} [البقرة:193].

- الجزاء والمكافأة والحساب، والقهر والاستعلاء والغلبة والحكم والملك:
مثل قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّـهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25] وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المطففين:11] وقوله سبحانه: {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَـٰذَا يَوْمُ الدِّينِ} [الصافات:20] وقوله تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:6] وقوله تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82]
وقوله تعالى:{فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ . تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:86-87].

قال ابن كثير في تفسيره:
"قال ابن عباس : يعني محاسبين . وروي عن مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ، وأبي حزرة مثله، وقال سعيد بن جبير والحسن البصري: {فلولا إن كنتم غير مدينين} غير مصدقين أنكم تدانون وتبعثون وتجزون، فردوا هذه النفس. وعن مجاهد: {غير مدينين} غير موقنين، وقال ميمون بن مهران: غير معذبين مقهورين" اهـ.

وفي الحديث الشريف:
أخرج الامام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد ...»
حتى قال: «ثم انطلق فلبثت ملياً ثم قال لي صلى الله عليه وسلم: يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم».

والحديث فيه سؤال جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم الإحسان، وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك "ديناً".

فالدين هو أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، وأن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، وأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

فالدين هو مجموع الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة وما يعتقده المرء وما يؤمن به ويصدقه من الأمور الغيبية، فهو اعتقاد القلب وما ينجم عنه من عمل الجوارح تصديقاً لما في القلب من صدق المعتقد وانصياعاً لملك الجوارح: قال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (البخاري ومسلم في صحيحهما عن النعمان بن بشير رضي الله عنه).

فالقلب محل الإيمان وعلى قدره يكون صلاح ما يأمر به الجوارح: ولا يصلح إيمان المرء إلا بما أوحى الله تعالى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من الأخبار والأوامر والنواهي، قال تعالى: {أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم} [محمد:14] وقال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّـهُ ۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ . فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ . مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:29-32].
فبيـّن الله تعالى أن اتـّباع الأهواء ينافي الهداية، ثم بيّن سبحانه منهجها في إقامة الوجه للدين حنيفاً -فطرة الله- وأن هذا هو الدين القيم: الإنابة إلى الله (عمل القلب) وإقامة الصلاة (عمل الجوارح) ، وفي مقابل ذلك بيّن هدي المشركين: الذين فرقوا دينهم بأهوائهم كل حزب يظن أنه على الحق، وإنما قد {اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ}.

خلاصة القول:
هو أن مفهوم "الدين" في الإسلام يشمل التصورات التالية:
1- منظومة القوانين والشرائع التي تعبّد الله تعالى بها بني آدم ووضعها لتنظيم تصوراتهم واعتقاداتهم وسلوكياتهم في جميع النواحي الحياتية بشكل يصبح به السلوك المتّبع لهذه القوانين أقرب إلى العادة والسيرة والهدي الثابت. وهذا بالنظر إلى ذات القوانين والشريعة، وما ينبغي أن يكون لها من القدر في حياة ابن آدم ومن الأثر في سلوكه.

2- قهر الله تعالى وملكه وحاكميته على خلقه وأنه السيد الآمر الناهي، فهو واضع هذه القوانين ومشرّعها وناظمها والآمر بها، وهو الديّان الذي يحاسب خلقه عليها، ثم يعاقب من خالفها ويثيب من امتثل بها. وهذا بالنظر إلى من سنَّ هذه القوانين ومقاصد تشريعها، وظهور آثار صفاته سبحانه من كمال العلم والحكمة والعزة والقدرة والكرم والمنة والعدل وغيرها..

3- حقيقة بني آدم وأنهم عبيد لله تعالى واقعون تحت قهره وملكه مؤمنهم وكافرهم، لا يملكون إلا الطاعة والامتثال لما أمرهم به، فالمؤمن قد عبد الله طوعاً والكافر يأتي يوم القيامة عبداً لله كارهاً، فهو سيدهم ومالكهم حقيقة ومن يدينون له يوم يقفون بين يديه يحاسبهم على امتثالهم لأمره أو مخالفتهم له. وهذا بالنظر إلى من له وُضعتْ هذه القوانين وحقيقة ضعفه وعجزه وحاجته إلى ربه وهدايته له عدد أنفاسه.

وبمجموع هذه التصورات لا يستقيم للمرء فقط تصوره عن "الدين" وحقيقته ودوره في حياة ابن آدم كمنظومة للقوانين المنظمة لها، وإنما يظل في استحضار وارتباط دائم بمن شرعها وسنّها ذاكراً قول الله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54]، والتزام دائم بميثاق العبودية بينه وبين خالقه سبحانه، وفي ازدياد من معرفته جل وعلا بدوام شهود آثار صفاته في حسن تدبيره ورحمته بعباده في حكمه وتشريعه عز وجلّ، و كمال علمه وقدرته وقهره لمخلوقاته، وسعة فضله ومنّه وكرمه لمن أعانه فامتثل أوامره وأدى فرائضه وأطاعه راغباً مثوبته وجزيل ثوابه، وحلمه وصبره على من عصاه وخالف أمره، وعزته وخذلانه لمن أشقاه وأضله على علم، وشديد سخطه على من حارب دينه وصدَّ عن سبيله وجاهر بعداوته كبراً وعناداً ،نسأل الله أن ينفعنا بما علّمنا وأن يجعله حجة لنا لا علينا.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

------------------------------------------------
تفصيل مدلولات لفظة "الدين" في لسان العرب:
1- "مختار الصّحّاح" لمحمد بن أبي بكر الرازي مادة دين:
"والدِّينُ بالكسر: العادةُ والشأن. ودانَهُ دِيناً، أي أذلًّه واستعبده. يقال: دِنْتُهُ فدانَ. وفي الحديث: «الكَيِّسُ من دانَ نفسَه وعَمِل لما بعد الموت» (الحديث ضعفه الإمام الألباني في ضعيف الجامع والسلسلة الضعيفة عن شداد بن أوس رضي الله عنه).

الجزاءُ والمكافأةُ. يقال: دانَهُ ديناً، أي جازاه. يقال: كما تَدينُ تُدانُ، أي كما تُجازي تُجازى، أي تُجازى بفعلك وبحسب ما عملت. وقوله تعالى -على لسان القرين-: {إِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] أي مجزيُّون محاسَبون. ومنه الدَيَّانُ في صفة الله تعالى. وقومٌ دينٌ، أي دائنونَ. وقال: وكان الناس إلاَّ نحنُ دينا
والمَدينُ: العبدُ. والمَدينَةُ: الأَمَةُ، كأنَّهما أذلّهما العمل. الفراء: يقال: دَيَّنْتـُهُ: مَلــَّكْتــُهُ. وأنشد للحطيئة يهجو أُمّه:
 

لقد دُيِّنْتِ أمرَ بَنيكَ حتّى *** تَرَكْتِهِمُ أَدَقَّ من الطحينِ

يعني مُلِّكْتِ.
وناسٌ يقولون: ومنه سمي المِصْرُ مَدينَةً. والدينُ الطاعةُ. ودانَ له، أي أطاعه. قال عمرو بن كلثوم:
 

عَصَيْنا المَلْكَ فيها أَنْ نَدينا *** وأيّامٍ لنا ولـهـم طِـوالٍ


ومنه الدينُ؛ والجمع الأدْيانُ. يقال: دانَ بكذا دِيانَةً وتَدَيَّنَ به، فهو دَيِّنٌ ومُتَدَيِّنٌ.
ودَيَّنْتُ الرجل تَدْييناً، إذا وكَلْتَهُ إلى دينِه. وقول ذي الإصبع:
 

عَنِّي ولا أنت دَيَّاني فَتَخْـزونـي *** لاهِ ابْنُ عَمِّكَ لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ

قال ابن السكيت: "أي ولا أنت مالِكُ أمري فتسوسَني." اهـ

2- "مقاييس اللغة" مادة دين:
"الدال والياء والنون أصلٌ واحد إليه يرجع فروعُه كلُّها.
وهو جنسٌ من الانقياد والذُّل. فالدِّين: الطاعة، يقال دان لـه يَدِين دِيناً، إذا أصْحَبَ وانقاد وطَاعَ.
وقومٌ دِينٌ، أي مُطِيعون منقادون. قال الشاعر:والمَدِينة كأنّها مَفْعلة، سمّيت بذلك لأنّها تقام فيها طاعةُ ذَوِي الأمر. والمدينة الأَمَة. والعَبْدُ مَدِينٌ، كأنّهما أذلّهما العمل.
وقال:
 

رَبَتْ وَرَبَا في حِجْرِها ابنُ مدينةٍ *** يظل على مِسحاتِهِ يَترَكَّلُ


فأمَّا قول القائل: فمعناه: يا هذا دِينَ قلبُك، أي أُذِلَّ. فأمّا قولهم إِنّ العادة يقال لها دينٌ، فإن كان صحيحاً فلأنَّ النفسَ إذا اعتادت شيئاً مرَّتْ معه وانقادت له.

وينشدون في هذا:
 

كدِينِكَ مِن أمِّ الحُويرثِ قَبْلَهَا *** وجارتِها أُمِّ الرَّباب بمَأْسَلِ

والرواية "كَدَأبك"، والمعنى قريبٌ. فأمَّا قوله جلّ ثناؤُه: {ما كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ المَلِكِ} [يوسف:76]، فيقال: في طاعته، ويقال في حكمه. ومنه: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة 4]،أي يوم الحكم.
وقال قومٌ: الحساب والجزاء. وأيُّ ذلك كان فهو أمرٌ يُنقاد له."

3- وفي "لسان العرب" لابن منظور مادة ددن: "الدَّيْدانُ والدَّيْدَنُ والدِّين: العادة، تقول: ما زال ذلك دَيدَنَه ودَيدَانه ودِينَه" اهـ.


كريم محمود القزق
13شعبان1432 هـ
14يونيو 2011 م
 

  • 5
  • 2
  • 11,045

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً