أخي.. احذر الإشاعة
"وتتنوّع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته ولكن الهدف يظل ثابتاً أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا، وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحاً غيره، وكلما كلّت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها، والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام، وينبهها إلى الخطر، ويدعوها إلى الصبر على الكيد، والصبر على الحرب وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مُبرّر"
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النِّساء: 1]، {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أمتنا الإسلامية لم تزل وستستمر في مدافعة ما يكاد لها مما يخططه لها أعداءها من إيجاد الثغرات وفتح الجبهات من أجل تفريق الصف، وتشت?ت الكلمة، وتضييع الجهود، وهذا المكر والكيد من أعداء الأمة سنة ماضية وباقية، فهم لا يألون جهداً ولا يدخرون وسعاً في سبيل تحقيق مآربهم وأهدافهم التي يصبون إليها ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا.
فدلالة هذه الآية واضحة جلية في استمرار العِداء بين الحق والباطل، وهذا العِداء نراه صباح مساء على اختلاف أجناسه التي لا تعد فكيف بما هو داخل تحت الأجناس من الأنواع المتنوعة؟! والهدف الذي يريدونه واحد هو كما نص الله تعالى عليه: الردة عن الدين.
قال سيد قطب رحمه الله تعالى عند كلامه حول هذه الآية: "وتتنوّع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته ولكن الهدف يظل ثابتاً أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا، وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحاً غيره، وكلما كلّت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها، والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام، وينبهها إلى الخطر، ويدعوها إلى الصبر على الكيد، والصبر على الحرب وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مُبرّر". انتهى.
وبعد هذا فلا غرابة إذن فيما نرى ونسمع من التخطيط على المدى البعيد، ومن التنفيذ المباشر كلما سنحت فرصة ولاح لهم مدخل، فتراهم يستميتون في بث باطلهم على أي وجه كان مستعينين بشتى الوسائل والسبل في نشر ذلك الباطل على أوسع رقعة من مجتمع المسلمين، غير مُبالين بكثرة الأذى الناتج، وكيف يبالون بذلك وهو مرادهم، {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [أل عمران: من الآية 186].
فكم سمع المسلمون من الأذى والإهانة والتشكيك في وحدة صفهم وكلمتهم، وهذا ليس بغريب بل هو -كما سلف- سُنّة ماضية.
إنما الغريب أن يساعد في نشر أذاهم شريحة من المسلمين لا أعني أولئك الذين يُحسبون على الإسلام فهذا النوع من الناس أدوات مُسيّرة مخلصة في ولائها لأعداء الإسلام، فهي تقوم بواجبها المطلوب منها على أحسن وجهٍ وأتمه، ضاربين عرض الحائط بما يمليه عليه دينهم الذين زعموا كذباً وزوراً لا أنهم من المتمسكين به فحسب بل من المدافعين عنه، {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: من الآية 2].
فهذا القسم من الناس ليسوا هم المعنيين لوضوح اتجاههم عند كل ذي لُبِّ وعقل، فحصوننا مهددة من داخلها، بل إن تلك الشريحة من الناس هم أسرع الناس إلى فتنة، ويحرصون -وهم أهل لذلك- أن يكونوا ممن يتولى كِبره في حمل راية الفتنة وتصدير الإشاعة {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّـهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46].
فلنترك هذا الصنف من الناس غير آسفين عليهم فهم ليسوا المعنيين بالحديث، إنما أعني بذلك بعض الغيورين الذين خرجت عاطفتهم وحماستهم عن الحد الشرعي لها، فأعانوا -على حسن نية- على زيادة الجراح، ومن الأمثلة على ما وقع فيه أولئك أمر الإشاعة، تلك الآفة التي تسري في جسد الأمة سريان النار في يابس الحطب، فتأكل بشراهةٍ وتفسد في لحظات ما يفسد بغيرها في ساعات أو أيام.
ولما كان للإشاعة سوق رائجة، وبضاعة نافقة، مع عدم الاكتراث أو عدم تقدير الآثار الناتجة من بطلان الإشاعة، وهذا هو بيت القصيد أردت أن أقدم هذا المبحث المتواضع عن موضوع الإشاعة، سائلاً ربي عز وجل الإخلاص في القول والعمل، وعوداً على ما سبق فيقال: لو بحثنا عن سبب تلك الآثار المترتبة عند بطلان الإشاعة لوجدنا أن النواة والبذرة الأولى هي عدم التثبت في الأخبار، وأخذها جزافاً دون تمحيص أو نقد.
ولو رجعنا إلى أدب الإسلام في مثل هذه الأمور لما حدث ما حدث، وما يحدث الآن، وما سيحدث -والعلم عند الله- من تناقض الأخبار والمصادر، فهذا ينفي، وهذا يثبت، وذاك يشكك، وآخر يؤكد، فكم من حيٍ قد أُميت، وكم من ميتٍ قد أُحيّ، وكم من ضالٍ شاع أمره بأنه أصبح من الأولياء، وكم من صالحٍ ذُكر أنه نكص على عقبيه، وكم من بريءٍ قد اتُّهِم، وكم من مُتهمٍ حوله قرائن وشواهد قوية قد بُرّي براءةً كاملة كالشمس في كبد السماء ليس دونها سحابة، فاختلط الحابل بالنابل.
فما أدب الإسلام في مثل هذا؟
منهج عظيم، وميزان دقيق أدق من ميزان الذهب في بيان صحيح الأخبار من سقيمها يتمثل في نصوص كثيرة على رأسها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجر: 6].
نداءٌ وأمرٌ بالتبين وتحذير ثم بيان العاقبة الوخيمة في حالة عدم التروي والتثبت.
أمّا النصوص الثابتة في السنة فكثيرة منها:
قوله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع» (رواه مسلم).
قال المناوي رحمه الله تعالى: "أي إذا لم يتثبت لأنه يسمع عادة الصدق والكذب، فإذا حدث بكل ما سمع لا محالة يكذب، والكذب الإخبار عن الشيء على غير ما هو عليه وإن لم يتعمد، لكن التعمد شرط الإثم...".
ومن ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: «بئس مطية الرجل زعموا» (أخرجه البخاري).
قال الخطابي: "... وإنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه وإنما هو شيء حكي عن الألسن على سبيل البلاغ، فذم النبي صلى الله عليه وسلم من الحديث ما كان هذا سبيله، وأمر بالتثبت فيه، والتوثق لما يحكيه من ذلك، فلا يردونه حتى يكون معزياً إلى ثبت، ومروياً عن ثقة".
وجاء في عون المعبود نقلاً عن اللمعات ما نصه: "... والمقصود أن الإخبار بخبر مبناه على الشك والتخمين دون الجزم واليقين قبيح، بل ينبغي أن يكون لخبره سند وثبوت، ويكون على ثقة من ذلك، لا مجرد حكاية على ظن وحُسبان، وفي المثل: زعموا مطية الكذب" انتهى.
وأما ما ورد عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في التثبت في نقل الأخبار فكثير وكثير.
فمن ذلك ما ثبت عن أبي بكر رضي الله عنه عندما سُئل عن ميراث الجدة فلم يعرف في ذلك علماً فسأل الصحابة رضي الله عنهم فأخبره المغيرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه السُدُس فطلب الصديق شاهداً لقول المغيرة فشهد على ذلك محمد بن مسلمة رضي الله عنه.
ومن ذلك أيضاً ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى رضي الله عنه عندما استأذن ثلاثاً للدخول على عمر فلم يُؤذن له فرجع فرده عمر بعدما ذهب، وقال له: ما منعك؟ فذكر أبو موسى الحديث. فقال له عمر: "والله لتُقيمن عليه بينة -يعني شاهداً على ما سمعت-...".
ومن ذلك قول أبي شريح عن ذكر حديث لعمر بن سعيد فقال: "ائذن لي أيها الأمير أُحدثك قولاً قام به النبي صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعتُه أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرتُه عيناي حين تكلم به...".
أما كلام العلماء في التثبت في الرواية فاشهر من أن يحصر، بل عقدوا له أبواباً في كثير من كتبهم وخاصةً فيما يتعلق بكتب مصطلح الحديث، فمن ذلك قول مالك لابن وهب: "اعلم أنه ليس يسلم رجل حدّث بكل ما سمع، ولا يكون إماماً أبداً وهو يحدث بكل ما سمع".
وقال عبد الرحمن بن مهدي: "لا يكون الرجل إماماً يقتدي به حتى يمسك عن بعض ما سمع".
وقال إياس بن معاوية يوصي سفيان بن حسين: "احفظ عليَّ ما أقول لك، إيَّاك والشناعة في الحديث فإنه قلّما حملها أحد إلا ذلَّ في نفسه وكذب في حديثه". إلى غير ذلك من الآثار.
وقبل الشروع في الكلام عن الإشاعة أُحبُّ أن أُنبِّه القارئ الكريم على أنني لم أتطرّق لجميع جوانب الإشاعة، وخاصة الإشاعة في الحرب، فهذه مشهورة في البحوث والمجلات العسكرية.
وإنما مرادي في هذا البحث طرق الموضوع بصفة عامة، لكن التركيز كان على الإشاعات المنسوبة إلى المعروفين بالخير والصلاح
[أعتذر من الأخوة القراء لعدم إكمال الموضوع من جميع جوانبه وعذري في هذا أن أهمية الموضوع جعلتني أقدم هذه المادة بسرعة، وسأحاول إن شاء الله تعالى أن أطرق مواضع النقص في طبعة أخرى فنظرة إلى ميسرة].
والله أسأل أن يجعلنا ممن أخلصوا أعمالهم وأقوالهم لربهم، وأن يكفينا شر الشائعات، وأن نكون ممن يسعى في دفنها وإماتتها، لا ممن يسعى في بثها ونشرها دون تروي أو تثبت اللهم آمين [وقد جمعتُ مادة علمية لكثير من المتداول بين أكثر الناس مما لا أساس له من الصحة كبعض الأحاديث الموضوعة التي تنتشر بين وقت وآخر، وبعض القضايا التاريخية التي سلّم بثبوتها الكثير، وبعض الشائعات المشهورة مع بيان بطلانها، أسأل الله أن يعينني على إتمامه وإخراجه].
الإشاعة لغةً: قال في اللسان تحت مادة "شيع":
"شيعت فلاناً اتبعتُهُ. وشايعه: تابعه وقوَّاه. ويقال: شاعات الخير: أي لا فارقك، ومنه تشييع النار بإلقاء الحطب عليها، وشيعه: خرج معه عند رحيله ليودعه. وتشيَّعَ في المشيء: استهلك في هواه، والشيوع: ما أوقد به النار، يقال شيع الرجل بالنار: أحرقه، والمشيع: العجول، والشَّياع: صوت قصبة الراعي وشبابته. وأشاع بالإبل وشايع بها وشايعها مشايعة: أهاب بمعنى صاح ودعا. وشاع الشيب: انتشر، وشاع الخبر: ذاع، وأشاع ذكر الشيء: أطاره، أشعت المال: فرقته. والشاعة: الأخبار المنتشرة، ورجل مشياع: أي مذياع لا يكتم سرّاً، وشاع الصدع في الزجاجة: استطار " اهـ.
وقال الراغب الأصفهاني في المفردات: "شيع: الشياع: الانتشار والتقوية، يقال: شاع الخبر أي كثر وقوي، وشاع القوم: انتشروا وكثروا، وشيعت النار بالحطب: قويتها، والشيعة: من يتقوى بهم الإنسان وينتشرون عنه، ومنه قيل للشجاع مشيع، يقال: شيعة وشيع وأشياع قال تعالى: {{C}{C}وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبرَاهِيمَ{C}{C}} [الصافات: 83]، {{C}{C}هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ{C}{C}} [القصص: من الآية 15]، {{C}{C}وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا{C}{C}} [القصص: من الآية 4]، {{C}{C}فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ{C}{C}} [الحجر: من الآية 10]، {{C}{C}وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعكُمْ{C}{C}} [القمر: من الآية 51]".
وفي معجم مقاييس اللغة نلاحظ أن المادة "شع" أيضاً تأتي بمعنى قريب من معنى مادة شيع فهي بمعنى: تفرق وانتشر، ومن ذلك شعاع الشمس، والشعاع -بالفتح- الدم المتفرق.
والمعنى المشترك البارز بين هذه المعاني اللغوية لمادة شيع ?و الانتشار والتكاثر.
الإشاعة في الاصطلاح:
لها عدة تعريفات:
قيل: "كل قضية أو عبارة مقدمة للتصديق تتناقل من شخص إلى شخص دون أن تكون لها معايير أكيدة للصدق".
وقيل: "هي اصطلاح يطلق على رأي موضوعي معين كي يؤمن به من يسمعه، وهي تنتقل عادة من شخص إلى آخر عن طريق الكلمة الشفهية دون أن يتطلب ذلك مستوى من البرهان أو الدليل".
ومن التعاريف أيضاً أنها:
"بث خبر من مصدر ما، في ظرف معين، ولهدف ما يبغيه المصدر، دون علم الآخرين، وانتشار هذا الخبر بين أفراد مجموعة معينة".
أو هي: "الأحاديث والأقوال والأخبار التي يتناقلها الناس، والقصص التي يروونها؛ دون التثبت من صحتها، أو التحقق من صدقها".
ومن التعاريف للإشاعة أيضاً:
أنها: "أخبار مشكوك في صحتها، ويتعذر التحقق من أصلها، وتتعلق بموضوعات لها أهمية لدى الموجهة إليهم، ويؤدي تصديقهم أو نشرهم لها إلى إضعاف روحهم المعنوية".
أو هي:
"النبأ الهادف الذي يكون مصدره مجهولاً، وهي سريعة الانتشار، ذات طابع استفزازي أو هادئ حسب طبيعة ذلك النبأ".
وكما يلاحظ فإن هناك رابطاً بين المعنى اللغوي، والمعنى الاصطلاحي، وعاملاً مشتركاً هو الانتشار والتزايد.
مصادر الإشاعة:
منشأ الإشاعة وأساسها غالباً ما يكون:
- خبر من شخص.
- أو خبر من جريدة.
- أو خبر من مجلة.
- أو خبر من إذاعة.
- أو خبر من تلفاز.
- أو خبر من رسالة خطية.
- أو خبر من شريط مسجل.
فهذه الوسائل هي طرق تناقل الأخبار بين الناس وانتشارها بينهم.
ولذا على ناقل الخبر أن يتروى ويتثبت في كل ما يقال، وليحذر أن يبادر بالتصديق الفوري، فإن الأصل البراءة التامة، وتلك الإشاعة ناشئة طارئة، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى تقوم الأدلة الواضحة على ذلك.
أنواع الإشاعة:
تختلف الإشاعة حسب اختلاف الشخص المنقول عنه أو الأشخاص المنقول عنهم. فتارةً تكون الإشاعة مدحاً، وتارةً تكون ذماً، وتارةً تكون خليطاً بين النوعين، وتارةً تكون غريبة أي في سياق وقائعها حتى تكون في عداد المستحيلات لكن تلقف الناس وتناقله لها جعل المستحيل أمراً ممكن الوقوع.
مرد الإشاعة "المشاع عنه".
كثرة الإشاعات وتنوعها تدل على تنوّع المشاع عنهم.
فتارةً يكون الشيء المشاع عنه:
شخصاً موسوماً بالخير والصلاح أو شخصاً على العكس من ذلك، أو حدثٌ غريب وهو أنواع كثيرة، وبعض الأحداث شديدة الغرابة إلى حد كبير وضابطها: أمر يستحيل وقوعه أو يكاد يكون مستحيلاً.
ما الفائدة من ترويج الإشاعة:
مروّج الإشاعة لا يخلو مراده من مقاصد عدة.
الأول: النصح:
بمعنى أن ترديده لتلك الإشاعة في مجلسه أو مجالسه إنما هو بدافع الحرص على نصح ذلك المشاع عنه، وليس بصدد بيان صحة هذا الأسلوب من خطأه، فهذا سيأتي بحثه، إنما الشاهد أن هذه طريقة بعض الناس في ترويج الإشاعة بدعوى النصح للمشاع عنه كما يزعم.
الثاني: الشماتة:
وذلك بأن يكون الدافع والمُحرِّك لنشر الإشاعة وترويجها بين الناس إنما هو الشماتة بصاحبها والوقيعة فيه -عياذاً بالله من هذا-.
الثالث: الفضول:
وهذا حال أغلب المروّجين للإشاعة، فإن إصغاء السامعين لحديثه، وأشخاصهم بإبصارهم إليه، وتشوقهم لسماع كل ما يقول دافع من أعظم الدوافع لنقل الإشاعة هذا إن سلم -ولا يكاد إلا من رحم الله- من التزويد في الكلام بغية تشويقهم وتعلقهم بما يقول.
الرابع: "قطع أوقات المجالس بذكرها":
فمن المعلوم المشاهد أن كل من الحاضرين أو أغلبهم في المجلس يريد أن يُدلي للمشاركة في الكلام والنقاش -ولو كان عقيماً-، ويرى السكوت نقصاً في حقه، فتراه يذكر هذه الإشاعة بقصد المشاركة في الحديث، بغض النظر عن ما يترتب عليه نقله ذاك.
ذات الإشاعة وناقلها والمنقول إليه والمنقولة عنه:
أما ذات الإشاعة:
فإن من الإشاعات ما يتفق العقلاء على بطلانه أو كما يقال: "سقوطها يُغني عن إسقاطها" وَ "بطلانها يغني عن إبطالها". فهذا النوع من الإشاعات الاشتغال به دليل على نقص عقل ناقلها. ولو كان الأمر يقف عند هذا الحد لكان هيناً، لكن قد يتعداه إلى القدح في معتقد ناقل الإشاعة، وذلك كأن تكون الإشاعة تكذيباً لشيء ورد القرآن بتصديقه، أو على العكس من ذلك. كبعض الشائعات التي تخرج بين فينة وأخرى بأن القيامة تقوم في اليوم الفلاني بالتاريخ الفلاني، أو بأن فلاناً من الناس يموت في وقت كذا في يوم كذا في مكان كذا، وما شاكل ذلك فهذا كله من الرجم بالغيب الذي ما أُنزل به من سلطان.
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}... [لقمان: من الآية 34]. {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65]. وبكل حال؛ فنقل الإشاعة بدون تروي ولغير مصلحة يؤدي إلى مفاسد كثيرة.
قال سيد قطب رحمه الله تعالى عند كلامه على قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}.. الآية.
"والصورة التي يرسمها هذا النص هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي لم تألف نفوسهم النظام، ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر. وفي النتائج التي تترتب عليها، وقد تكون قاصمة لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث، ولم يدركوا جدية الموقف، وأن كلمة عابرة وفلتة لسان قد تجر من العواقب على الشخص ذاته وعلى جماعته كلها ما لا يخطر له ببال، وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال! أو -ربما- لأنهم لا يشعرون بالولاء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر، وهكذا لا يعنيهم ما يقع له من جراء أخذ كل شائعة، والجري بها هنا وهناك، وإذاعتها حين يتلقاها لسان عن لسان سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف فكلتاهما قد يكون لإشاعتها خطورة مدمرة...".
وقال أيضاً رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]، قال: "وهي صورة فيها الخفة والاستهتار وقلة التحرج وتناول أعظم الأمور وأخطرها بلا مبالاة ولا اهتمام. {{C}{C}إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ{C}{C}} لسان يتلقى عن لسان بلا تدبر ولا تروٍ، ولا فحص ولا إمعان نظر، حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبّره القلوب! {{C}{C}وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ{C}{C}} لا بوعيكم، ولا بعقلكم، ولا بقلبكم! إنما هي كلمات تقذف بها الأفواه قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقاه العقول...".
أما ناقل الإشاعة؛ فيلزمه أمور منها:
أولاً: أن يتقي الله تعالى في نفسه، ويراقبه في كل ما يقول ويفعل.
ثانياً: أن يتذكر أنه محاسب على كل كلمة يقولها، قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10]، وقال: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، وقال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء -كذباًأو إثماً- أن يُحدِّث بكل ما سمع» (متفق عليه).
ثالثاً: أن يكون قصده سليماً لا لوث فيه، كأن يستغل ذكر الإشاعة للتنفيس عن نفسه مما يجد في صدره عن المنقول عنه، فليحذر المسلم من هذا المسلك المشين: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: من الآية 235].
وعلى هذا فلزاماً على المسلم أن يصلح قلبه وقالبه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ومتى ما علم الله ذلك منه فسيرى ويلقى من الله ما يحب ويرضى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّـهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنفال: 70].
رابعاً: أن يتروى ويتثبت في كل ما يقول، وأن يحذر من التزيّد في الكلام، وأن لا ينقل إلا ما كان متأكداً من سماعه أو رؤيته حتى تبرأ ذمته، وإليك هذا المثال الذي يبين لك كيف كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم أتقى الناس بعد الأنبياء والرسل -يتحرون ويتثبتون في نقل الأخبار، وهم من هم في العدالة والصدق والأمانة، فعن أبي شريح رضي الله تعالى عنه أنه قال لعمر بن سعيد- وهو يبعث البعوث إلى مكة ائذن لي أيها الأمير أُحدثك قولاً قام به النبي صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناني حين تكلم به... الخ، وهذا هو الشاهد من الحديث، تثبت ما بعده تثبت، وتوثّق ما عبده توثّق.
خامساً: أن يكون مقصده من نقل الإشاعة التأكد من صحتها إلى المنقول عنه: فعليه أن يُبيّن هذا لمن يستمع إليه حتى يستنير بآرائهم حول هذا الخبر.
سادساً: على ناقل الإشاعة أن يفرّق بين المجالس التي يرتادها أو الجليس الذي قد يجالسه وقت حدث الإشاعة فما كل مجلس يصلح، بل إن بعض المجالس قد تزيد بل تزيد في ترويج الإشاعة وعلى أوجه مختلفة، فيتسع الخرق على الراقع، وهذه المجالس هي التي يحضرها الغوغاء من الناس، وأولئك مضرتهم راجحة على منفعتهم إن صح أن عندهم نفعاً في مجالسهم تلك.
وأسوق هنا دليلاً واحداً يبين لنا كيف كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يعرفون المقام الملائم لكل كلام: روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: "أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أراد أن يقوم مقاماً للناس يتكلم فيه عن خبر بلغه يطعن في خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه حيث تمت له البيعة في عجلة من الأمر، فلما هم عمر بالقيام ذلك اليوم قال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه: يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغائهم فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كلّ مطيِّر، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فامهل حتى تقدم المدينة، فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متكناً، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها. فقال عمر: ?ما والله -إن شاء الله- لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة...".
فتدبر أخي رعاك الله هذا الكلام، واجعله نصب عينيك، ثم انظر كيف أشار عبد الرحمن على عمر رضي الله تعالى عنهما بتأخير الكلام عن تلك القضية مع بالغ أهميتها وحساسيتها درءاً للمفسدة التي يتوقع حدوثها.
وما كان من عمر -وهو من هو- إلا أن يأخذ بهذا الرأي السديد الرشيد، فأخَّر كلامه حتى قدم المدينة على صاحبها أتم الصلاة والتسليم، فرضي الله عن صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم فلنعم المعلم هو، ولنعم المتعلمون هم.
سابعاً: على ناقل الإشاعة أن يحث المنقول لهم على التثبت والتروي والتأكد في نقلهم عنه لأنه المصدر الأصلي لهم، وكل كلام يخرج منهم فمحسوب عليه ومنسوب له.
قال عمر رضي الله تعالى عنه عندما أراد أن يقول مقالة له -وقد سبق ذكرها- قال رضي الله تعالى عنه: "أما بعد فإني قائلٌ لكم مقالة قد قُدِّر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي فمن عقلها وَوعاها فليُحدّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب عليَّ"، والشاهد الذي نريده هو قوله: "ومن خشي أن لا يعقلها"... الخ.
لأن الإشاعة ليست كسائر الأخبار فلا تنقل إلا بعد التثبت، ومن ثمَّ لا يخبر بها كل أحد كما سبق بيانه، بخلاف العلم المتعلّق بالأمة كلها قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "وفيه الحث على تبليغ العلم ممن حفظه وفهمه، وحث من لا يفهم على عدم التبليغ إلا إن كان يورده بلفظه ولا يتصرف فيه".
ثامناً: أن يُسارع أولاً في استشارة أهل العلم والفضل في أمر هذه الإشاعة، وعليه أن يأخذ بمشورتهم فإنهم أدرى بالمصلحة بحكم علمهم وتجربتهم، بل قد بين الله تعالى في محكم التنزيل أن هذا المسلك -أعني مسلك الرد إلى أهل العلم- هو المسلك السليم في مثل هذا.
قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النِّساء: 83].
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله تعالى: "هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة، ما يتعلق بالأمن، وسرور المؤمنين، أو الخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور، ويعرفون ?لمصالح وضدها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين وسروراً لهم، وتحرزاً من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا ما ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه، ولهذا قال: {{C}{C}لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ{C}{C}}، أي يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه: إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولي من هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب للصواب، وأحرى للسلامة من الخطأ، وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة فيقدم عليه الإنسان أم لا؟ فيحجم عنه. انتهى كلامه رحمه الله تعالى وهو في غاية التحقيق والدقة.
أما المنقول له -أي الذي نُقِلت له الإشاعة-:
أولاً: عليه أن يُذَكِّر الناقل بالله تعالى، وأنه محاسب ومؤاخذ على كل كلمة يلفظ بها.
ثانياً: وعليه أيضاً أن يحثه على التروي وعدم العجلة في نقله.
ثالثاً: عليه أيضاً ألا يبادر بتصديق الإشاعة فوراً خاصة إذا لم تكن الأدلة والقرائن قائمة أكمل قيام وأتمه.
رابعاً: إذا كانت الإشاعة عن شخص موسوم بالخير فينبغي أن يحمل على المحمل الحسن، ويلتمس له العذر في ذلك إذا كان للعذر مُبرِّر شرعي صحيح، فإن لم يكن له مبرر فيما نسب إليه فعلى المنقول له أن يذكر الناقل بأن الواجب في هذه الحالة النصح والتوجيه حتى يستقيم الخلل الذي سبب وجود الإشاعة.
أمَّا المنقول عنه: لا يخلوا من نسبت إليه الإشاعة في الجملة من أمرين اثنين: إّما أن يكون معلوماً أو مجهولاً.
فإن كان معلوماً فإما أن يكون من المشهود لهم بالخير والاستقامة وخاصة العلماء أو من عامة المسلمين، فإن كانت الإشاعة منسوبة إلى القسم الأول -أي المشهود لهم بالخير- فعلى الإنسان أن يتقي الله، ويمسك لسانه عن الخوض في أعراضهم خاصة العلماء المشهود لهم بالخير وحسن المعتقد.
وإن كان من نسبت إليه الإشاعة غير موسوم بالخير فليحذر الناقل أن يتزيد عليه حتى لو كان عدواً له فإن هذا من الظلم والكذب {{C}{C}وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى{C}{C}} [المائدة: من الآية 8].
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله تعالى: "{وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} -أي لا يحملكم- {شَنَآنُ قَوْمٍ} -أي بغضهم- {عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْكما يفعله من لا عدل عنده ولا قسط بل كما تشهدون لوليكم فاشهدوا عليه كما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له، فلو كان كافراً أو مبتدعاً فإنه يجب العدل فيه وقبول ما يأتي به من الحق لا لأنه قاله، ولا يرد الحق لأجل قوله فإن هذا ظلم للحق، {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}: أي كلما حرصتم على العدل واجتهدتم في العمل به كان ذلك أقرب لتقوى قلوبكم فإن تم العدل كمُلت التقوى".
أما إن كان الشخص مجهولاً فالحق أن يلحق بالذي قبله، ولا يجوِّز ناقل الإشاعة لنفسه التقول عليه بدون تثبت محكم جهالته، فالجهالة لا تشفع للقول بلا علم، وأيضاً فقد يبلغ الخبر ذاك المجهول فيحمل على من تكلم فيه بغير حقٍ.
طرق دحض الإشاعة:
هذا العنوان فيه إجمال فلمعترض أن يقول: وهل كل إشاعة تدحض وتدفن؟ فالإشاعات كثيرة ومتنوعة. وجواب هذا الاعتراض أن يقال:
ما قويت شواهده، وكثرت قرائنه، وتواطأ الرواة عليه فهذا قد خرج من حيز الإشاعة إلى حيز الحقيقة وهي من باب: "أني أرى رؤياكم قد تواطأت فتحروها..".
فمثل هذا الخبر الذي كثرت مخارجه، واحتفت به القرائن، وكثرت شواهده في حالة عدم قبوله، والاعتراض عليه مغالطة للحقيقة، وهروب من الواقع لأن الشك فيه في أوّل الأمر والتردد في قبوله قد ارتفع وزال بقوة الأدلة المصاحبة للخبر. لكن يبقى هنا مسألة وهي معالجة انتشار الخبر، والمحاولة من تقليص دائرته، وحمل صاحبه على المحمل الحسن إن كان أهلاً لذلك مع الدعاء له.
أما إن كان المشاعُ عنه غير أهل للمحمل الحسن، وكان في بيان أمره وكشف ستره مصلحة راجحة ففي هذه الحال لا حرج في انتشار الخبر؛ بل هو الأولى والأجدر شريطة عدم التزيّد فيه، أو التصرف فيه سياقه تصرفاً يخل بالمعنى الأصل بغية تضخيم القضية فوق حقيقتها.
وعوداً على ذي بدء فإن لدفن الإشاعة وإمامتها طرقاً كثيرة منها:
1 - تذكير الناقل بالله تعالى وتحذيره من مغبة القول بلا علم.
2 - تذكير الناقل بالعاقبة المتحصلة إذا كانت الإشاعة كذباً أو مبالغاً فيها فتصبحوا على ما فعلتم نادمين.
3 - عدم التعجل في تقبل الإشاعة دون استفهام أو اعتراض.
4 - عدم ترديد الإشاعة لأن في ترديدها زيادة انتشار لها مع إضفاء بعض بل كثير من الكذب عليها، وكما قيل في المثل الروسي "الكذبة كُرةٌ ثلجية تكبُر كلما دحرجتها".
5 - اقتفاء خط سير الإشاعة وتتبع مسارها للوصول إلى جذورها، ووضع اليد على مطلقيها ومحاسبتهم بحزم.
6 - عدم المبالاة أو إظهار التعجب والاهتمام عند سماعها من أطراف أخرى، والتشكيك في صحتها، فهذا بحد ذاته ?ُخفّف فورة ناقلي الإشاعة، ويجعلهم يراجعون أنفسهم قبل بث تلك الشائعة.
ويزاد هنا أيضاً:
إن في الإعراض عن الإشاعة، وعدم الاكتراث بها سبب رئيسي في إخماد الإشاعة. قال الإمام مسلم صاحب الصحيح رحمه الله تعالى: "..إذْ الإعراض عن القول المطرح أحرى لإماتته وإخمال ذكر قائله، وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيهاً للجهال عليه".
7 - أن يحاول أن يرد على الإشاعة في الصحف وما شاكلها إذا كانت الإشاعة ناشئة من الصحف أو أنها بلغت بين الناس مبلغاً عظيماً، فإن في بيان بطلان الإشاعة أمام أكثر عدد من الناس أسرع وسيلة للقضاء عليها وإخماد ذكرها، وإن لم يخمد ذكرها بالكلية فعلى الأقل إزالة القناعة التامة بها من أذهان الناس.
من الآثار المترتبة على بطلان الإشاعة:
بادئ ذي بدء يقال هنا: لو أن كل ناقل أو سامع للإشاعة وضع في حسبانه بعض المضار المترتبة عند كون الإشاعة كذباً وزوراً أو مبالغاً فيها لتردد أناس كثير في نقلها وفي قبولها.
وهذا لا خفاء فيه إذ أن العاقل ينظر إلى الأمور نظرة تروي ونظرة موازنة يحسب لها حسابها اللائق بها، فلا يغلّب جانب على جانب إلا بقرائن تثقل كفّة الأمر الذي غلَّبه، وفي الوقت ذاته يحرص -كما سلف- أن يقدّر الأمر من جميع جهاته نفياً أو إثباتاً، أو رجحان النفي على الإثبات أو العكس، فلا يطلق حكمه جزافاً عند أوّل وهلة يصل الخبر فيها إليه فإن هذا من الخلل في اكتمال بناء الشخصية.
كيف لا؟ والمسلم مأمور بالتثبت بنص القرآن الصريح: {{C}{C}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ{C}{C}} [الحجرات: 6] أمر بالتبين، وتحذير وتنبيه إلى ما يؤدي إليه عدم التبين من اتهام المشاع عنه بما هو منه بريء ونزيه، ثم يَعْقُبُ ذلك الندم والأسف من المشيع، ولات حين مندم.
وبعد هذا كله يقال:
الآثار المترتبة على بطلان الإشاعة كثيرة منها:
1 - اتهام البريء بما ليس فيه.
2 - تلوُّث الذمم والألسنة نتيجة الخوض في أمور بلا تروي وتثبُّت.
3 - انعدام أو تقلّص الثقة المتبادلة بين الناقل والمنقول له.
4 - شماتة المجتمع وبالذات المحسوبون على الإسلام خاصة إذا كان منشأ الإشاعة ومصدرها من العاملين في حقل الدعوة، وبشكل عام من شباب الصحوة.
ومن أراد أن يستزيد عن الآثار الوخيمة عند بطلان الإشاعة فعليه بمراجعة شرح حديث الإفك تلك الشائعة التي هي أم الشائعات.
من أسباب رواج الإشاعة:
يتناقل كثير من الناس المقالة التي -تقول- كل غريب مرغوب، وهذه وإن لم تكن على إطل?قها لكن تنطبق على أمر الإشاعة في أغلب أحوالها بحكم غرابة خبر الإشاعة، وعلى كل حال فلرواج الإشاعة أسباب عديدة منها:
- حُبّ الفضول والدافع الغريزي من المستمعين.
- الشعور بالنشوة من ناقل الإشاعة عندما يرى إصغاء السامعين له وإشخاص أبصارهم إليه، والتلهف والتشوق لكل كلمة يقولها.
- عدم تصوّر النتائج من الناقل والمنقول له في حالة بطلان الإشاعة.
- ضعف الوازع عند نقل الإشاعة.
- عدم محاسبة النفس وتفقدها.
غيض من فيض:
في أيام إعداد هذا البحث أو قبلها بقليل تبين لي بطلان شائعة ذُكرت عن غير واحد، مفاد هذه الشائعة: أن شخصين أو ثلاثة ذكراً أو ذكروا أن فلاناً قد مات -وأنا أعرفه شخصياً- وكنتُ وقت الشائعة على جناح سفر، وعندما عُدتُ سألتُ أحد المقرّبين له فقال أنه قابله في هذا اليوم -يوم السؤال-: وأنه يُقرِئُك السلام!!! وإن تعجب فعجب أن الشخص الذي شاع أنه قد مات لما أخبرته بذلك قال لي: بل أن بعضهم قد صلًّى عليَّ صلاة الغائب.
وحادثة أخرى أخبرني بها بعض الأصحاب منذ زمن خلاصتها:
أن جماعة من الناس اصطفوا في إحدى المدارس لأداء صلاة الغائب على شخص شاع أنه مات، وبينما هم كذلك إذ اعترض أحدهم -ونِعمَ ما فعل- فقال: أأنتم متأكدون من موته؟ فلم يكن ثمة جواب، فانفضوا من مكانهم.
وصدق القائل:
ولو استرسل الواحد منا في تقييد وذكر ما يسمع من الشائعات لكلَّ البنان واللسان والله المستعان.
الخاتمة:
وبعد هذا البحث المتواضع في أمر الإشاعة، هذا الأمر الذي زعزع الثقة، وفرّق القلوب حتى إذا كادت أن تتألف أوقدت نارها، وشب ضرامها -الإشاعة-، وعلا دخانها، فيظل الناس فترة من الزمن ينتظرون بفارغ الصبر جلاء هذه الغمة وانقشاعها حتى يستبينوا الأمر.
حتى إذا استبانوا، وهدأت نفوسهم لاحَ في الأفق عارض، فلما قرب أو كاد هو كسابقة أنباء وأنباء أجلبت علينا بخيلها ورجلها وركبها وركابها، وممن ضمرها وأعان على ترويضها وجريها ثلة من الناس، تركوا كثيراً من واجباتهم واشتغلوا بما نهوا عنه، فلا من الأجر غنموا، ولا من الإثم سلموا، فكم أقضّوا مضاجع أناس؟! وكم أشغلوا من آخرين عن واجباتهم!! بل كم أثموا غيرهم!!.
فانظر رعاك الله وسدد خطاك إلى واقع أُمّتنا ماذا ترى وماذا تسمع؟
بل أهم من هذا كله ماذا قدم لنا الإسلام؟ ثم ماذا قدمنا له؟ ماذا قدمنا لأنفسنا وماذا قدمنا لبيوتنا وماذا قدمنا لمجتمعنا؟ أسئلة تترى تطرح نفسها بنفسها علينا جميعاً.
وجوابي عني وعنك هو: فيك الخصام وأنت الخصم والحكم، فنحن مسئولون ومساءلون، فيا ترى أترانا نحس بهذه المسئولية ونقول ونفعل، اللهم نعم فأعنا يا مولانا على ما حملتنا، فإنك نعم المولى ونعم النصير.
اللهم إنّا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى أن ترزقنا إخلاصاً نقياً في أقوالنا وأعمالنا وفي سرنا وعلننا!! اللهم ألِّف بين قلوب المسلمين عامة، وبين شبابها خاصة، وأصلح ذات بينهم، واجعلهم يداً واحدة وكلمة واحدة وصفاً واحداً لا يقبل التزعزع والتصدع!! دعوناك ربّنا فأجبنا، واسترحمناك فارحمنا، واستغفرناك فاغفر لنا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
- التصنيف:
- المصدر: