الإعلام والرويبضة والسنوات الخداعات

منذ 2013-04-10

اعلم أخي الكريم أننا في وقت فتنة يحتاج إلى تمحيص وتدقيق فربما الذي تُصدّق هو الكذوب، وربما من تأتمن هو الخائن. فكلنا نرى من زُوِّرت له الانتخابات في عهد المخلوع يخرج بكل بجاحة وبلا حياء ليثقف الناس وينصحهم ويرشدهم من يرشحون للرئاسة من خلال الفضائيات صاحبة المصالح، ويعيب على من زُورت ضده الانتخابات ويصفهم بالأنانية والتكويش وعدم الحرص على الوطن. فمَن عادتُه التزوير والتلفيق أيكون صادقا بعدما انتزعت من السلطة وانكشف تزويره وانفضح أمره أم أنه يود العودة بالتشويه والتلفيق؟!


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعدُ: يكثر في عالمنا بين الأقران والزملاء وأصحاب المهنة والحرفة الواحدة التنافس، وربما في كثير من الأحيان يؤدي إلى التناحر، وقد يستعمل فيه الفجور والافتراء والتدليس، ولا سيما التنافس في مجال السياسة والحكم، وما يصنعه إعلامنا من تشويه للمصلحين وتزييف للحقائق، وهذا ليس بدعا من الأمر فهو على مر العصور، ولذلك أردت أن أرسل في ذلك رسائل، سائلا المولى عز وجل التوفيق والسداد والنفع بهذه الكلمات. ورسائلي: رسالة إلى كل مفترَى عليه يقف عاجزا عن رد الكيد والشبه، وربما في بعض الأحيان مكتئبا، ورسالة إلى كل مفترٍ جبار يختال ويكذب، وربما يصدق في كثير من الأحيان نفسه. ورسالة إلى المجتمع الحائر المضَلَّل الذي يُمَارس عليه ما كان يُمَارس من قِبَل سحرة فرعون قبل إيمانهم، والذي يمثلون عليه دور الوطنية والشرف والنزاهة وربما في كثير من الأوقات يخيَّل إليه من سحرهم أنها حقيقة.

أما رسالتي إلى كل مصلح ومناضل: فهذه ضريبة لا بد أن تدفع ولست الأول ولا الأوحد: أيها المناضل المصلح الوطني المفترى عليه، يا من تعجز عن رد كيل الاتهامات والافتراءات لست الأول ولست الأخير ولست الأوحد، فمن قبلك الأنبياء والرسل فموسى عليه السلام اتهِم وما كانت تهمته إلا أنه عفيف حيي ستِّير. روى البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شيء، اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ، إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى فَخَلاَ يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الْحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ ثوبي حَجَرُ، ثوبي حَجَرُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلإٍ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الْحَجَرُ فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ، وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}» [الأحزاب: 69]، (البخاري:3404).

ولكأني بموسى وهو يشفق على قومه من زيغهم وضلالهم وهو يعاتبهم على إيذائهم له: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5]. وإيذاء بني إسرائيل لموسى وهو منقذهم من فرعون ومَلئه، ورسولهم وقائدهم ومعلمهم إيذاء متطاول متعدد الألوان، وجهاده في تقويم اعوجاجهم جهاد مضن عسير شاق. ويذكر القرآن في قصص بني إسرائيل صورًا شتى من ذلك الإيذاء ومن هذا العناء، ولم يتوقف إيذاء موسى عليه السلام على اتهامه في جسده، بل أوذي موسى عليه السلام من فرعون يوم أن أراد قتله متهما نبي الله بالإفساد: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 27]، ولماذا ذروني؟ إن أردت أن تقتله فاقتله في صمت، كيف ذلك؟ لا بد للأجهزة الأمنية والمخابراتية والإعلامية أن تعمل وتهيئ الناس والرأي العام لرفض موسى وأنه إرهابي وخارج على القانون ويستحق القتل ويوم أن يُقتل يقول الناس استرحنا منه وهذا ما يمارس على الإسلام الآن من تشويه وتزييف.

كان بنو إسرائيل يتسخطون على موسى وهو يحاول إنقاذهم من فرعون، ويتعرض لبطشه وجبروته وهم آمنون بذلتهم له! فكانوا يقولون له لائمين متبرمين: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: 129]، كأنهم لا يرون في رسالته خيرًا، أو كأنما يحمِّلونه تبعة هذا الأذى الأخير!! وما كاد ينقذهم من ذل فرعون باسم الله الواحد الذي أنقذهم من فرعون وأغرقه وهم ينظرون، حتى مالوا إلى عبادة أصنام لقوم يعكفون عليها؛ {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]، إله؟ ومن الذي أنقذكم ومنَّ عليكم بالنجاة من فرعون وقد أدرككم الغرق أوليس الله الواحد القهار؟!

وما كاد يذهب لميقات ربه على الجبل ليتلقى الألواح، حتى أضلهم السامري: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه: 88]، فبعد ما أن من الله عليهم وظلل عليهم الغمام وأطعمهم المن والسلوى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57]، جعلوا يتسخطون على طعامهم في الصحراء: المن والسلوى، فقالوا: {يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ...} [البقرة: 61]. وفي حادث البقرة التي كُلفوا ذبحها ظلوا يماحكون ويتعللون ويسيئون الأدب مع نبيهم وربهم وهم يقولون: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة: 68]، {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة: 69]، {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70]، {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71].

ونلاحظ التعبير القرآني وهم يخاطبون موسى عليه السلام بكلمة (ربك) وكأنه ليس ربا لهم ورب موسى وحده!! ثم طلبوا يوم عطلة مقدسًا فلما كتب عليهم السبت اعتدوا فيه. وأمام الأرض المقدسة التي بشرهم الله بدخولها وقفوا متخاذلين يصعرون خدهم في الوقت ذاته لموسى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 22]، فلما كرر عليهم التحضيض والتشجيع تبجحوا وكفروا: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24].

ذلك إلى إعنات موسى بالأسئلة والاقتراحات والعصيان والتمرد، وتذكر الآية هنا قول موسى لهم في عتاب ومودة: {لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف: 5]، وهم كانوا يعلمون عن يقين، إنما هي لهجة العتاب والتذكير. وكانت النهاية أنهم زاغوا بعدما بُذِلت لهم كل أسباب الاستقامة، فزادهم الله زيغًا، وأزاغَ قلوبهم فلمْ تعُد صالحة للهُدى، وضلوا فكتب الله عليهم الضلال أبدًا: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 108]. ويحذر الله الذين آمنوا من كل ما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، ليُنفر حس كل مؤمن من أن يكون كهؤلاء المنحرفين الملتوين الذين يضربهم القرآن مثلًا صارخًا للانحراف والالتواء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69]. وقد برأ الله موسى مما رماه به قومه، {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69]، ذا وجاهة وذا مكانة، والله مُبرئ رسله من كل ما يرمون به كذبًا وبهتانًا (في ظلال القرآن بتصرف كبير).

وحال موسى حال كل المصلحين: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52]. وحسبك أنَّهم افتروا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه. روى البخاري عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَسْمًا فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ. قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَارَرْتُهُ فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا وَاحْمَرَّ وَجْهُهُ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّى لَمْ أَذْكُرْهُ لَهُ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ: قَدْ أُوذِىَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» (البخاري: 6100). وروى البخاري ومسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ وَفِى ثَوْبِ بِلاَلٍ فِضَّةٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبِضُ مِنْهَا يُعْطِى النَّاسَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ، قَالَ: وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ»، وفي رواية: «خِبْتُ وَخَسِرْتُ»، «فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّى أَقْتُلُ أَصْحَابِي إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» (مسلم: 1063).

وهؤلاء يطعنون في النيات والمقاصد بغير دليل إلا ظن السوء؛ فهذا الرجل لو قال: يا رسول الله كيف تعطي فلانًا وفلانًا، للمؤلفة قلوبهم الألوف وتترك خيار المهاجرين والأنصار؟ لربما كانت لمقالته وجه، فلما قيل له هذا القول تأسى بموسى، عليه السلام. روى البخاري ومسلم عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال: «بَعَثَ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ رضي الله عنه إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ في أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا، قَالَ فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَأَقْرَعَ بْنِ حَابِسٍ وَزَيْدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلاَءِ، قَالَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ في السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً، قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشَمَّرُ الإِزَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ، قَالَ: وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِىَ اللَّهَ، قَالَ: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ، قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ قَالَ: لاَ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي، فَقَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ في قَلْبِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّى لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ قُلُوبَ النَّاسِ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ. قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهْوَ مُقَفٍّ فَقَالَ: إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، وَأَظُنُّهُ قَالَ: لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ» (البخاري: 4351)، والنصوص في ذلك كثيرة.

أمثلة على أذى المنافقين للمؤمنين:
وكان المنافقون والمرجفون في المدينة في الصدر الأول هذا حالهم، يتتبعون سقطات المؤمنين وزلاتهم ويجعلون ما ليس بعورة عورة، كما روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بشيء كَثِيرٍ فَقَالُوا: مُرَاءٍ، وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ فَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا، فَنَزَلَتِ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}» [التوبة: 79]. وعَنْ أَبِى السَّلِيلِ قَالَ: وَقَفَ عَلَيْنَا رَجُلٌ في مَجْلِسِنَا بِالْبَقِيعِ فَقَالَ: «حَدَّثَنِي أَبِي أَوْ عَمِّي أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْبَقِيعِ وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ أَشْهَدُ لَهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: فَحَلَلْتُ مِنْ عِمَامَتي لَوْثًا أَوْ لَوْثَيْنِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِمَا فَأَدْرَكَنِي مَا يُدْرِكُ بَنِى آدَمَ فَقَعَدْتُ عَلَى عِمَامِتِى فَجَاءَ رَجُلٌ وَلَمْ أَرَ بِالْبَقِيعِ رَجُلًا أَشَدَّ سَوَادًا أَصْغَرَ مِنْهُ وَلاَ آدَمَ يَعْبُرُ بِنَاقَةٍ لَمْ أَرَ بِالْبَقِيعِ نَاقَةً أَحْسَنَ مِنْهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَدَقَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: دُونَكَ هَذِهِ النَّاقَةَ، قَالَ: فَلَمَزَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَذَا يَتَصَدَّقُ بِهَذِهِ فَوَاللَّهِ لَهِيَ خَيْرٌ مِنْهُ، قَالَ: فَسَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كَذَبْتَ بَلْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ وَمِنْهَا، ثَلاَثَ مِرَارٍ ثُمَّ قَالَ: وَيْلٌ لأَصْحَابِ الْمِئِينَ مِنَ الإِبِلِ، ثَلاَثًا قَالُوا: إِلاَّ مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِلاَّ مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَجَمَعَ بَيْنَ كَفَّيْهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُزْهِدُ الْمُجْهِدُ، ثَلاَثًا الْمُزْهِدُ في الْعَيْشِ الْمُجْهِدُ في الْعِبَادَةِ» (رواه أحمد).

ويقول الشهيد سيد قطب: والقصة المروية عن سبب نزول هذه الآية، تصور نظرة المنافقين المنحرفة لطبيعة الإنفاق في سبيل الله وبواعثه في النفوس. أخرج ابن جرير بألفاظ مختلفة قال: حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة -يعني في غزوة تبوك- فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف فقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف، جئتك بنصفها وأمسكت نصفها، فقال: بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت، وجاء أبو عقيل بصاع من تمر فقال: يا رسول الله أصبت صاعين من تمر صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي، قال: فلمزه المنافقون، وقالوا: ما الذي أعطى ابن عوف إلا رياء، وقالوا: ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟ وفي روايات أخرى أنهم قالوا عن أبي عقيل، وهو الذي بات يعمل ليحصل على صاعين أجر له، جاء بأحدهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنه إنما أراد أن يذكر بنفسه!! وهكذا تقوَّلوا على المؤمنين الذين انبعثوا إلى الصدقة عن طواعية نفس، ورضا قلب، واطمئنان ضمير، ورغبة في المساهمة في الجهاد كلٌّ على قدر طاقته، وكلٌّ على غاية جهده، ذلك أنهم لا يدركون بواعث هذا التطوع في النفوس المؤمنة، لا يدركون حساسية الضمير التي لا تهدأ إلا بالبذل عن طيب خاطر، لا يدركون المشاعر الرفرافة التي تنبعث انبعاثًا ذاتيًا، لتلبي دواعي الإيمان والتضحية والمشاركة، من أجل هذا يقولون عن المكثر: إنه يبذل رياء، وعن المقل إنه يذكر بنفسه، يجرحون صاحب الكثير لأنه يبذل كثيرًا، ويحتقرون صاحب القليل لأنه يبذل القليل، فلا يسلم من تجريحهم وعيبهم أحد من الخيرين (في ظلال القرآن).

شارك في العمل السياسي أو لم يشارك، نزل إلي ميدان التحرير أو لم ينزل، شارك بأغلبية في الانتخابات أو بأقلية، والدستور وتشكيله، والحكومة يتركوها لتعمل أو يسحبون الثقة منها فهم ملامون في الحالين، ولو قالوا: (الشعب والجيش إيد واحدة؟) لقالوا هناك صفقة مع المجلس العسكري، ولو رشحوا مرشحا للرئاسة لقالوا لأن المجلس العسكري تخلى عنهم وفسدت الصفقة بينهم.

 

 

وَما أَحَدٌ مِن أَلسُنِ الناسِ سالِما *** وَلَو أَنَّهُ ذاكَ النَبِيُّ المُطَهَّرُ
فَإِن كانَ مِقدامًا يَقولونَ أَهوَج *** وَإِن كانَ مِفضالًا يَقولونَ مُبذِرُ
وَإِن كانَ سِكّيتًا يَقولونَ أَبكَم *** وَإِن كانَ مِنطيقًا يَقولونَ مِهذَرُ
وَإِن كانَ صَوّامًا وَبِاللَيلِ قائِمًا *** يَقولونَ زَرّافٌ يُرائي وَيَمكُرُ
فَلا تَحتَفِل بِالناسِ في الذَمِّ وَالثَنا *** وَلا تَخشَ غَيرَ اللَهِ فَاللَهُ أَكبَرُ


عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه فَعَزَلَهُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّي قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّى بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّى صَلاَةَ الْعِشَاءِ فَأَرْكُدُ في الأُولَيَيْنِ وَأُخِفُّ فِي الأُخْرَيَيْنِ، قَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا إِلَى الْكُوفَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِى عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ قَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ في الْقَضِيَّةِ، قَالَ سَعْدٌ أَمَا وَاللَّهِ لأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي في الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ» (البخاري: 755).

بل قالوا على الله افتراء عليه: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 151- 154]، {لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءَ} [المائدة: 64].

الصبر على الإصلاح:
أوصيك بقول ربنا: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] فما دمت ملتزما بدينك فلا بد أن تبتلى وتمتحن وليس لك بعد الله إلا الصبر. وإليك سورة العصر: {وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1- 3]. وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ فَإِنَّهُ لاَ يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ وَلاَ يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ» (رواه أحمد، وصححه الألباني في الصحيحة: 1/324). قال تعالى: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12].

كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي اللَّهُ عَنْهَا أَنِ اكْتُبِي إِلَىَّ كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ وَلاَ تُكْثِرِي عَلَيَّ، فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عَنْهَا إِلَى مُعَاوِيَةَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنِ الْتَمَسَ رِضَاءَ اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ»، وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ (رواه الترمذي وصححه الألباني).

أما رسالتي إلى وسائل التزييف والتضليل إلى وسائل الإعلام المغرضة التي تنشر الفتن بين الناس وتشيع الضلال والزيف: أيها المفتري ارحم نفسك: ارحم نفسك من عذاب اللهو؛ من لعنة التاريخ الذي لا يرحم وسيذكرك بما فعلت، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بن شداد أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْلَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُ مِثْلَهَا مِنْ جَهَنَّمَ وَمَنْ كُسِىَ ثَوْبًا بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَكْسُوهُ مِثْلَهُ مِنْ جَهَنَّمَ وَمَنْ قَامَ بِرَجُلٍ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُومُ بِهِ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (أَبُو دَاوُدَ وأحمد والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وصححه الألباني). فمن يتقرب إلى ذي سلطان أو غيره بالكلام في أخيه المؤمن، والافتراء عليه في حوار أو مناظرة أو محاضرة مدفوعة الأجر فيعمل أجير عند أصحاب الهوى، وأن ينسب إليه ما لم يقل مقابل شيء يناله من الدنيا، فإن كان هذا الشيء أكلة، أطعمه الله مثلها من النار وأيضًا لو كان الأمر مما يتعلق بالكساء والثياب فله مثل ذلك من النار. روى مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» (مسلم: 118)، يبيع دينه ببرنامج تليفزيوني أو وظيفة أو مرتب أو ترقية أو حافز.

{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور:19]. وبعض الناس قد يشارك من حيث لا يعلم في نشر الرذيلة في المجتمع، أو في نشر الجرح في الفضلاء، فيقول: قال فلان كذا وكذا؛ {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]، وهو بهذا ينشر الجرح ويشيعه، وبعض الناس يتشفى حتى يقول لك في معرض الغيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون، حسبنا الله ونعم الوكيل في فلان، فيُظهر التوجع، ويظهر الحسرة، فتقول: ما شاء الله، ما أشفقه على عباد الله، ثم يقول: هدى الله فلان بن فلان فعل كذا وكذا، غفر الله له، الله يرده إلى صوابه!! لقد أصبحت الأمة الإسلامية في زمنٍ العامل فيه بالسنة في غربة، وهو المجروح، وهو الذي تنصب عليه السهام، بينما أصبح المخالف للسنة كأنه الوسط، المعتدل فكرًا ومنهجًا!!

{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب:58]. عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الاِسْتِطَالَةَ في عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ» (رواه أبو داود وصححه الألباني). عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا أَيْسَرُهَا أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ» (رواه ابن ماجة وصححه الألباني) الحُوب بضم الحاء المهملة وفتحها هو الإثم، وفي رواية صححها الألباني: «الربا سبعون حوبا وأيسرها كنكاح الرجل أمه وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم». عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا عُرِجَ بِى مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ فَقُلْتُ مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ في أَعْرَاضِهِمْ» (رواه أَبُو دَاوُدَ وأحمد وصححه الألباني). عَنْ أَبِى بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ في بَيْتِهِ» (رواه أبو داود وأحمد وصححه الألباني). عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ في جَوْفِ رَحْلِهِ" قَالَ وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْبَيْتِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ» (رواه الترمذي وصححه الألباني).

روى البخاري ومسلم عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَي قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ فَقَامَ مَعِيَ ِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ مَسْكَنُهَا في دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَمَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْرَعَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُمَا شَرًّا، أَوْ قَالَ: شَيْئًا» وما أكثر الشرور التي يقذفها شياطين الإنس من خلال الأثير في أجهزة الإعلام. نرى إعلامنا اليوم -الكثير منه- وبعض الناس يعمل عمل الذباب لا يرى إلا القاذورات والنجاسات والسوءات فيسلِّط عليها الأضواء والكاميرات، ويقيم من أجلها النقاشات والحوارات، لا من أجل أن يطهِّر المجتمع ويجنِّب الناس السوءات، لا بل من أجل أن يضخِّم الزبالة في المجتمع وينشرها في أرجائه، ويُصيب من لم يُصب بها، فتعم الفوضى وتنتشر النار في الهشيم، فلماذا هذا؟ وما الفائدة العائدة عليهم من تدنيس أوطانهم وتخريب بلادهم؟ لا تكن زبَّالا -مع كامل احترامنا للزبَّال ومهنته وشخصه فهي مهنة شريفه ولكن لضرب المثل- الزبال يأتي الحديقة لا من أجل أن يبحث عن الأزهار والأشجار ولكن من أجل أن يبحث عن الزبالة والقمامة وفضلات الناس، فلا تقع عينه إلا على الزبالة وربما لا يري الأزهار ولا تعني له شيئًا، وحتى الزبّال يجمع الزبالة ليواريها عن أعين الناس، فلا تكن في نظرتك للناس والمجتمع كنظرة الذباب الذي يفسد ليستفيد أو النمل الذي لا يهمه إلا نفعه الشخصي أو الزبَّال، بل كن كالنحل وكن نخلة كلها نفع، وحتى لو وقعت عينك على سوأة فاسترها وأصلحها كما يصلح الزبَّال الحدائق ويبعد عنها القمامة.

الحذر من الظن:
فإن الظن أكذب الحديث، يقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن قوم: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًَّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]، وأكثر معلومات الناس ظن، لأن المصادر التي نتلقاها في الأربع والعشرين ساعة من سبيل الظن، وليست من سبيل اليقين، ولا يوثق بأخبارها؛ لأنها ليست مرشحة لتعطي الأخبار الصحيحة المعقولة، ونحن نقول: (كلام جرائد) فكلام الفضائيات والإعلام في غالبة لا يسمن ولا يغني من جوع ولا ينبغي أن ينبني عليه شيء وخاصة وأنها هي هي نفس الأجهزة ونفس الأشخاص دون أدنى تغيير التي كانت تسبح بحمد النظام السابق وتمجد في المخلوع وفي سيدة مصر الأولي وقال عز من قائل: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، إنها الحملة الشعواء المسمومة لتشويه صورة الإسلام حتى يظن البسطاء من الناس أن الإسلام والشريعة لا تصلح لزماننا والعياذ بالله. روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا»، مأخوذة من النجش وهو: الزيادة في السلعة وهو لا يريد أن يشتريها، وسوء الظن يولد في الإنسان عندما يترك هذه الفضائل، فتنقطع الأخوة والبغضاء ويقع الحسد والبغي، ويقع العدوان والفتنة، وأصل ذلك كله ناشئ من سوء الظن -والعياذ بالله-.

وقال بعض السلف -وهو من الكلام المفيد-: "إنما يُسيء الظن بالله خبيث النفس، قالوا: كيف ذلك؟! قال: إنه تترشح صفاته فتخرج في غيره"، أي: هو نفسه خبيثة والعياذ بالله، وأعماله وباطنه خبيث، فيترشح ذلك كما يترشح الإناء، ويخرج بشكل إساءة الظن بالناس. فيأتيه -مثلًا- القول الصادق فيقول: لا، هذا القول كذب، وإذا قيل له: لماذا؟ يقول: ماذا لو كان صاحبه كاذبًا؟! لأنه هو -نفسه- يقول القول وهو كاذب والعياذ بالله. ويوصف له الإنسان بالتقوى فيقول: لا، هذا ليس بتقوى، لماذا؟ قال: هناك أشياء لا تدري أنت عنها ولا تعلمها، لماذا؟ قال: لأنه يظهر التقوى ويعمل في الباطن أعمالًا خفيه، فهو في الحقيقة يتكلم عن نفسه، وأصدق الناس ظنًا بإخوانه المسلمين هو أسلم الناس باطنًا، وهذه قاعدة؛ لأنه لا يتصور أن أحدًا يقول الحق ثم يفعل هذه الموبقات ولذا فإنه لا يتهم بها الناس؛ لكن الذي يفعلها -والعياذ بالله- يتهم الآخرين بلا دليل إلا دليل سوء الظن فقط. قال المتنبي:

 

 

 

 

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه *** وصدَّق ما يعتاده من توهّم


وقال ابن المبارك: "المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثراتهم ومن علامات شقاء الأمة أن تشغل بنفسها عن أعدائها".

نصيحة عمر للأمة بحسن الظن:
أورد ابن الجوزي في مناقب عمر خطبة عظيمة، وأوردها ابن سعد في طبقاته، قال فيها: "أيها الناس! ألا إنما كنا نعرفكم إذ بين أظهرنا النبي صلى الله عليه وسلم وينزل الوحي وينبئنا الله من أخباركم، ألا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انطلق وانقطع الوحي، وإنما نعرفكم بما تقولون، مَن أظهر خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه، ومن أظهر شرًا ظننا به شرًا وأبغضناه عليه، سرائركم بينكم وبين ربكم". ويبين الله سبحانه وتعالى أن الظنون تعصف بالناس عصفًا، وتأخذ بالعقول أخذًا إلا من رحم الله عز وجل من أهل الإيمان ومن اعتصم بمنهج القرآن وتابع المصطفى صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116]. إنهم أقوام رضوا بالتلفيق، وأخذوا بالتشكيك، وما عرفوا النور في آيات الله سبحانه وتعالى، وما عرفوا الاستقامة في منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عرفوا الثبات على الحق والاعتصام به؛ لأنه الطريق الموصل إلى رضوان الله عز وجل من غير حيرة ولا اضطراب، ومن غير شك ولا ارتياب.

حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه واستحضار تاريخه المشرف:
روى البخاري ومسلم عن عَلِيٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالزُّبَيْرَ وَأَبَا مَرْثَدٍ وَكُلُّنَا فَارِسٌ قَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ حَاجٍ -قَالَ أَبُو سَلَمَةَ هَكَذَا قَالَ أَبُو عَوَانَةَ حَاجٍ- فَإِنَّ فِيهَا امْرَأَةً مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَأْتُونِي بِهَا، فَانْطَلَقْنَا عَلَى أَفْرَاسِنَا حَتَّى أَدْرَكْنَاهَا حَيْثُ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، وَكَانَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِمَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، فَقُلْنَا: أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِى مَعَكِ؟ قَالَتْ: مَا معي كِتَابٌ، فَأَنَخْنَا بِهَا بَعِيرَهَا، فَابْتَغَيْنَا في رَحْلِهَا فَمَا وَجَدْنَا شَيْئًا، فَقَالَ صَاحِبِي: مَا نَرَى مَعَهَا كِتَابًا، قَالَ: فَقُلْتُ: لَقَدْ عَلِمْنَا مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ حَلَفَ عَلِىٌّ وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لأُجَرِّدَنَّكِ، فَأَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا وَهْىَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ فَأَخْرَجَتِ الصَّحِيفَةَ، فَأَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا حَاطِبُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّى كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا في قُرَيْشٍ -يَقُولُ كُنْتُ حَلِيفًا وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا- وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ لَهُمْ قَرَابَاتٌ، يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي».

وفي رواية: "أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي، وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ هُنَاكَ إِلاَّ وَلَهُ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ لاَ تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا، قَالَ: فَعَادَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِي فَلأَضْرِبَ عُنُقَهُ، قَالَ: أَوَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ أَوْجَبْتُ لَكُمُ الْجَنَّةَ، فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ:  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ... فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}» [الممتحنة: 1].

يقول سيد قطب: وقد قيل في هذا الحادث: إن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلًا من المهاجرين، وكان من أهل بدر أيضًا. وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفًا لعثمان، فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها عهد الحديبية أمر المسلمين بالتجهيز لغزوهم، وقال: «اللهم عَمِّ عليهم خبرنا»، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه بوجهته، كان منهم حاطب، فعمد حاطب فكتب كتابًا وبعثه مع امرأة مشركة قيل من مزينة جاءت المدينة تسترفد إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يدًا، فأطلع الله تعالى رسوله على ذلك استجابة لدعائه، وإمضاء لقدره في فتح مكة، فبعث في أثر المرأة، فأخذ الكتاب منها. وأول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب، وهو المسلم المهاجر، وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على سر الحملة. وفيها ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها؛ وأن لا عاصم إلا الله من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها.

ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا يعجل حتى يسأل: «ما حملك على ما صنعت؟» في سعة صدر وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق، ومن ثم يكف الصحابة عنه: «صدق لا تقولوا إلا خيرًا»، ليعينه وينهضه من عثرته، فلا يطارده بها ولا يدع أحدًا يطارده، بينما نجد الإيمان الجاد الحاسم الجازم في شدة عمر: "إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه"، فعمر رضي الله عنه إنما ينظر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها، ومن كل جوانبها، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية، في موقف المربي الكريم العطوف المتأني الناظر إلى جميع الملابسات والظروف.

ثم يقف الإنسان أمام كلمات حاطب، وهو في لحظة ضعفه، ولكن تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح، ذلك حين يقول: "أردت أن تكون لي عند القوم يد، يدفع الله بها عن أهلي ومالي"، فالله هو الذي يدفع، وهذه اليد لا تدفع بنفسها، إنما يدفع الله بها، ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول: "وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله" فالله حاضر في تصوره، وهو الذي يدفع لا العشيرة، إنما العشيرة أداة يدفع الله بها. ولعل حس رسول الله الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل، فكان هذا من أسباب قوله صلى الله عليه وسلم: صدق، «لا تقولوا إلا خيرًا». لقد تذكر له ماضيه النضالي الجهادي المشرف فمن اتصف بالنضال والجهاد في وقت الأزمات في وقت العسرة أيتصف بالخيانة ويبيع بلده في وقت الرخاء والتمكين؟! لقد شهد بدرا وكان من السابقين الأولين المجاهدين. وأخيرًا يقف الإنسان أمام تقدير الله في الحادث؛ وهو أن يكون حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسر الحملة، وأن تدركه لحظة الضعف البشري وهو من القلة المختارة، ثم يجري قدر الله بكف ضرر هذه اللحظة عن المسلمين، كأنما القصد هو كشفها فقط وعلاجها! ثم لا يكون من الآخرين الذين لم يعهد إليهم بالسر اعتراض على ما وقع، ولا تناج بالقول: ها هو ذا أحد من استودعوا السر خانوه، ولو أودعناه نحن ما بحنا به! فلم يرد من هذا الشيء، مما يدل على أدب المسلمين مع قيادتهم، وتواضعهم في الظن بأنفسهم، واعتبارهم بما حدث لأخيهم (في ظلال القرآن بتصرف).

وليست هذه دعوة للخيانة أو التساهل في الوطنية وحب الدين فلقد نهى عن موالاة أعداء الله سواء من المشركين أو من اليهود: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]، وذلك ليتم التميز والانفراد والمفاصلة من جميع الوشائج والروابط غير رابطة العقيدة وغير وشيجة الإيمان. عن ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ قَالَ: «لَمَّا هَلَكَتْ أُمُّ أَبَانَ حَضَرْتُ مَعَ النَّاسِ فَجَلَسْتُ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَبَكَيْنَ النِّسَاءُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَلاَ تَنْهَى هَؤُلاَءِ عَنِ الْبُكَاءِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ أَمَا وَاللَّهِ مَا تُحَدِّثُونَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ كَاذِبَيْنِ مُكَذَّبَيْنِ وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ وَإِنَّ لَكُمْ في الْقُرْآنِ لَمَا يَشْفِيكُمْ: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38]، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ»، الحديث عند البخاري ومسلم والنسائي. فظنت عائشة رضي الله عنها أن هذا النص يخالف ما ثبت عندها من كلامه صلى الله عليه وسلم؛ بل يخالف مقتضى القرآن الكريم. فلم تتهم النيات بل وجدت لقول عمر وابن عمر في الخير محملا فحملته على الوجه الأحسن واستحضرت صدقهما وتاريخهما، وقد حقق العلماء المسألة وتم التوفيق بين القولين.

رسالتي إلى المجتمع:
اعلم أخي الكريم أننا في وقت فتنة يحتاج إلى تمحيص وتدقيق فربما الذي تُصدّق هو الكذوب، وربما من تأتمن هو الخائن. فكلنا نرى من زُوِّرت له الانتخابات في عهد المخلوع يخرج بكل بجاحة وبلا حياء ليثقف الناس وينصحهم ويرشدهم من يرشحون للرئاسة من خلال الفضائيات صاحبة المصالح، ويعيب على من زُورت ضده الانتخابات ويصفهم بالأنانية والتكويش وعدم الحرص على الوطن. فمَن عادتُه التزوير والتلفيق أيكون صادقا بعدما انتزعت من السلطة وانكشف تزويره وانفضح أمره أم أنه يود العودة بالتشويه والتلفيق؟! وللأسف في بعض الأحيان يُصدَّق المزور وينخدع الناس به وصدق الله ورسوله. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ الرَّجُلُ التَّافِهُ في أَمْرِ الْعَامَّةِ» (رواه ابن ماجة وأحمد والحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وتعليق الذهبي في التلخيص: صحيح، وصححه الألباني وفي رواية أحمد: «إِنَّ أَمَامَ الدَّجَّالِ سِنِينَ خَدَّاعَةً» «والْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ في أَمْرِ الْعَامَّةِ». فلا تشارك في هذه المنظومة العفنة واربأ بنفسك عن الخوض في قيل وقال، روى البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالًا، يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالًا يَهْوِى بِهَا في جَهَنَّمَ».

كيف نتلقى الأخبار:
إن الله عز وجل قد قص لنا في القرآن قصة عظيمة جعل فيها لأمة الإسلام درسًا عظيمًا ونافعًا، امتد في الزمان شهرًا كاملًا، وكان يتعلق بأعظم إنسان كان في هذا الوجود وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ويتعلق بعرض عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وذلك عندما أثار أهل النفاق ما أثاروه، فجاء التوجيه لأهل الإيمان: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12]. يأتي أبو أيوب قبل أن تنزل البراءة من فوق سبع سماوات إلى أم أيوب ويقول: يا أم أيوب! أرأيت لو كنت مكان عائشة أيمكن أن تفعلي ما رميت به عائشة رضي الله عنها؟ قالت: لا والله! قال: فوالله! لعائشة خير منك وخير من نساء العالمين. فقالت هي: يا أبا أيوب! أرأيت لو كنت مكان صفوان أيمكن أن تفعل ما رمي به صفوان؟ قال: لا والله! قالت: فصفوان والله خير منك. فلِم هذه الظنون المرجفة؟ لِمَ هذه الأوهام السوداء التي تجعلك تنظر إلى هذا شزرًا، وتحمل لهذا غلًا وبغضًا من غير ما شيء إلا كلام ساقط أو اتهام باطل؟! انظر إلى الآية القرآنية: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، بهتان أن تنال من عرض أخيك المسلم، بهتان أن تنطق بالفاحشة فتشيعها بين أهل الإيمان وفي مجتمع الإسلام، أين أنت من اليقين؟ أين أنت من (البينة أو حد في ظهرك)؟ سيما إذا تعلق الأمر باتهام في عرض، وأخطر من ذلك، اتهام في اعتقاد فهذا يكفر وهذا يبدع وهذا يفسق وهذا يرجم بالغيب، نسأل الله عز وجل السلامة من كل هذا.

رد غيبة أخيك:
لا يكفي أن تكون صامتا ولحم أخيك يؤكل فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنَ النَّارِ» (رواه أحمد وصححه الألباني). عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (رواه الترمذي وصححه الألباني).

وجوب التثبت في الأقوال قبل نقل الأخبار:
فإن الله جل وعلا قد قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، تأمل كيف أن الله عز وجل حرم الظن السيء بالمؤمنين، فالظن الجزافي الذي لا يعتمد على شيء حرمه الله جل وعلا، ثم لما حرم هذا الظن، حرم سلوك السبيل الذي يؤكد هذا الظن، وهو: التجسس، لأن الإنسان عندما يتجسس، فإنما يحاول أن يؤكد ظنًا عنده؛ فحرم الله سوء الظن، وحرم السبيل لتأكيد هذا الظن، وهو التجسس، وحرم الغيبة التي هي التكلم بما تأكد له من التجسس. وهذا كله لحماية أفراد المجتمع المسلم من جميع الآفات والشرور. روى مسلم عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ»، كثيرًا ما تسمع قولًا فتسأل قائله: هل رأيت بأم عينيك؟ هل سمعت بأذنيك؟ هل حضرت بنفسك؟ فيقول: كلا، بل قالوا أو زعموا أو أخبروني، من أولئك القوم؟ إننا لا نريد هذا المنهج الذي أُشعلت بسببه كثير من الفتن، وكثير من صور الإرجاف في مجتمع المسلمين. عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: قِيلَ لَهُ: مَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ في زَعَمُوا؟ قَالَ: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا» (أخرجه أَبُو دَاوُدَ والبخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني).

كما قال عمر بن عبد العزيز عندما بلّغه بعض الناس خبرًا عن آخرين: إن كنت كاذبًا فحسبك بالكذب إثمًا، وإن كنت صادقًا فحسبك بالنميمة إثمًا.
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَفَعَهُ قَالَ: "إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا" (رواه الترمذي). فاتق الله في نفسك.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ»، أَوْ: «يُوشِكُ أَنْ يَأْتِي زَمَانٌ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً تَبْقَى حُثَالَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَقَالُوا: وَكَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ وَتَذَرُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ»، (رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد والحاكم وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني). قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ ذَكَرَ الْفِتْنَةَ فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتُمُ النَّاسَ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ وَكَانُوا هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: كَيْفَ أَفْعَلُ عِنْدَ ذَلِكَ جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاكَ؟ قَالَ: الْزَمْ بَيْتَكَ وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ وَدَعْ مَا تُنْكِرُ وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ» (قال الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة: خرجه أبو داود وأحمد والحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال المنذري والعراقي: سنده حسن، نقله المناوي في (الفيض)، وأقرهما وهو كما قالا).

نسأل الله العلي القدير أن يعيننا علي الحق وأن يرزقنا الثبات عليه ما حيينا وأن يلهما الصبر على لأوائه إنه ولي ذلك والقادر عليه. وأن يجعلنا ممن قال فيهم رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» (رواه مسلم). {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180- 182].
والصلاة والسلام على من عظمت جميع خصاله، صلوا عليه وآله.
 

 

 

أبو أنس عبد الوهاب عمارة

 

  • 1
  • 1
  • 6,533

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً