مشروع سد النهضة: من الفاعل وماذا يريد؟

منذ 2013-05-31

تعالت الأصوات تعليقاً على "سد النهضة" الذي أقامه الأثيوبيون على منابع النيل، وعامتها صحفية تستخدم الحدث أداةً لنصرة قضيةٍ أخرى تتعلق في الغالب بمعارضة النظام القائم والنيل منه. وكلها بعيدة عن محاولة فهم ما يحدث أو توضيح الصورة للقراء، ولذا رأيت أنّ علي أن أسجل هذه العجالة بيانًا مختصراً لما يحدث..

بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

مشروع سد النهضة: من الفاعل وماذا يريد؟

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، ومن أحبه واتبع هديه، وبعد:

تعالت الأصوات تعليقاً على "سد النهضة" الذي أقامه الأثيوبيون على منابع النيل، وعامتها صحفية تستخدم الحدث أداةً لنصرة قضيةٍ أخرى تتعلق في الغالب بمعارضة النظام القائم والنيل منه. وكلها بعيدة عن محاولة فهم ما يحدث أو توضيح الصورة للقراء، ولذا رأيت أنّ علي أن أسجل هذه العجالة بيانًا مختصراً لما يحدث:

ماذا يحدث في الجنوب؟
القرن الأفريقي من المناطق التي تمثل أهمية قصوى للدول "الاستعمارية"، وهي منطقة نفوذ للغرب منذ قدم محتلًا في القرن التاسع عشر، بل وقبله؛ ويعمل الغرب من خلال تواجده هو بشخصه في قواعد خاصة به، ومن خلال دعم "أثيوبيا"، فدولة أثيوبيا دولة فقيرة ماديًا، وضعيفة عسكريًا، ومتخلفة تقنيًا، وطامحة جدًا. ذات أطماع توسعية في منطقة القرن الأفريقي. وكعادة الدول المتخلفة لا يمثل فقد البشر في الحروب خسارة تذكر بالنسبة لهم، ولذا من اليسير على هذه الدولة أن تأخذ قرار الحرب بالأصالة عن نفسها أو نيابة عن غيرها دون النظر لعامل الخسارة البشرية.

تنشط هذه الدولة في ثلاث حالاتٍ، كما يذكر المؤرخ الأفريقي الدكتور سيد فليفل في كتابه: (القوى الخارجية والاتجاهات الإقليمية في السودان) تحت عنوان "الأحباش والضغط في أعالي النيل لتحقيق أطماعهم في القرن الإفريقي"

أولها: انتهاز فرصة الفوضى السياسية التي تعقب الصراعات المحلية.
ثانيها: تنافس الدول الاستعمارية فتتفق مع بعضهم على بعضهم.
ثالثها: استخدام أسلوب الضغط في أعالي النيل لتحقيق مكاسب غرب الوادي.

وقد توفرت هذه العوامل الثلاث، فالقوى الاستعمارية تتنافس (الشرق وخاصة الصين، ويهود ولها حضور قوي في أفريقيا بشكل مستقل وكذا بشكل تابع للغرب، ومن شاء يقرأ كتاب (إسرائيل في أفريقيا) حسين حمودة مصطفى، والغرب متمثلًا في الأمريكان والفرنسيين بشكل محدود)، وكذا يوجد خلاف إقليمي متمثل في الحروب المشتعلة في كل أجزاء الوادي تقريبًا السودان، و"جنوب السودان" وما تاخم ذلك من الصومال؛ وانشغلت عنهم مصر والسودان فراحوا يضغطون لتحقيق مكاسب خاصة بهم.

والمقصود هو بيان أنه حين تنشط أثيوبيا فإن ذلك لعامل خارجي يستعملها، أو خلافٍ إقليمي في أعالي النيل تحاول أن تتمدد مستغلةً إياه.

هذا الإطار مهم لتحديد الفاعلين الأصليين في الأحداث، فالأثيوبيون لا يعملون من تلقاء أنفسهم فقط، ولكنهم يعملون لأنفسهم ويعملون بغيرهم، وبالتالي فإن ثمة أهداف عدة وراء التعدي على منابع النيل.

من الفاعل؟ وماذا يريد؟
القوى الفاعلة هي الصهيونية، بالتعاون مع قوى أخرى عالمية شرقية وغربية، ولكل منها أهدافه الخاصة من التواجد في أعالي النيل، أو بالأحرى في القرن الأفريقي، الغرب والشرق يبحثون عن نقاط للسيطرة والهيمنة، والبحث عن الطاقة وتأمين مصادرها، والبحث عن سوق استهلاكية وأرض للاستثمار، ومواد خام للصناعة، والذي يخصنا هنا في مناقشة مشكلة مياه النيل، هم الصهاينة.


الصهيونية:
الصهيونية تتواجد في أفريقيا كلها بدون مبالغة تستغل أفريقيا مصدرًا للمواد الخام، معادن، وأملاح، وسوقاً استهلاكية تصدر لهم البضائع، والسلاح، والخبرات العلمية وخاصة في الزراعة، وتعمل من خلال ذلك على التغلغل في المجتمعات الإفريقية، واستطاعت بالفعل إعادة رسم الصورة الذهنية للعقلية الأفريقية بشكل إيجابي تجاه الصهاينة، وبشكل سلبي تجاه العرب، ما أحدث قطيعة بين العرب والأفارقة، ومودة بين يهود والأفارقة؛ ولم يكن هذا هو السبب وحده، وإنما يرجع الأمر لعوامل خاصة بالعرب، وعوامل خاصة بالأفارقة ليس هنا مجال تفصيلها.

ماذا يريد الصهاينة من السد، أو بالأحرى من الضغط على مصر والسودان دول المصب بالسد؟

إنهم يحققون بهذا عدة أهداف، منها:

1 ـ  سياسة شد الأطراف:
يتبع المحتلون اليهود سياسة "شد الأطراف"، ومفادها إيجاد مشكلات بديلة تصرف مصر عن مواجهتهم، وتكون هذه المشاكل بعيدة جغرافيًا عنهم، فهذه مشكلة تدخل مصر في صراع مع دولةٍ أخرى غير "دولة الاحتلال الصهيوني"، وتصرف مصر عن دولة الاحتلال.

2 ـ الحصول على مياه النيل:
دولة اليهود تعاني من نقص حاد في الماء، وتخوض صراعاً من أجل توفير الماء منذ قدمت، بدأ الصراع في الخمسينات بالمشاريع على نهر الأردن، ومحاولة تغيير مجراه بالقرب من جسر بنات يعقوب في 1963، ثم بالاستيلاء عليه في حرب 67، وتفجير مضخات المياه الفلسطينية في الضفة، ومنع الماء عن أهل فلسطين إلا للشرب أو يكاد، وأخذ الماء من لبنان بعد غزو جنوبها في 1979، واجتياحها 1982، ولم يكفها فعمدت إلى مياه تركيا، فيما عرف باسم "أنابيب السلام" والتي بدأت في الثمانينات وكانت سببًا مباشرًا لاستيلاء الأتراك وتحرشهم بحصة مياه العراق وسوريا. ويربط الكيان الصهيوني بين السلام والماء، ويريد ماءً من سوريا ومصر عن طريق "المفاوضات"، والحديث هنا منتشر ومعروف. إلا أن ما ينبغي أن لا نرحل دون أن نلفت إليه النظر، هو النشاط الدائب للكيان الصهيوني في المجال الزراعي، منذ كان، لم تجلسهم قلة المياه، ولم يجلسهم تطورهم الصناعي. لم يكتفوا بالناحية الصناعية فقط؛ بل يجهدون عينك حين تتابعهم وهم يتحركون في كل مكان بحثًا عن فرصة، أو إيجادًا لها، ويكاد يذهب عقلك من نشاطهم وإصرارهم على النجاح بتفوق في كل مجال، ومنه المجال الزراعي مع قلة بل ندرة الإمكانات المتاحة..!!

وددتُ لو أن كل أخٍ يدرس الكيان الصهيوني وماذا يفعل ليعلم: ماذا يقدم هو لنصرة دينه وأمته؟!

3 ـ الحصول على مكاسب في القضية الفلسطينية:
فيكون بناء السد ثمن لتحرك في الاتجاه الموافق للمصلحة الصهيونية في الصراع العربي الإسرائيلي. والحكام العرب بطبعهم يستجيبون للضغط، أو يتخذون الضغط تأويلًا للترك، إلا أنهم يحاولون إزالة أسباب الضغط، أو السير في اتجاه معاكس بالضغط على من يضغط علينا لينزع هو يده، (عض الأصابع). وذات المرض في "علماء" الأمة، وهي سمة بارزة لمنظومة المنهزمين. وللأحرار منطق آخر، خلاصته: رفض الضيم، ورفض المساومة، وكسر اليد التي تتطاول.

4 ـ الاستثمار في أثيوبيا:
زراعيًا، بتأجير الأرض وزراعتها لإنتاج سلع أقل تكلفة، وهو هدف يسعى وراءه الأوربيون وبعض الدول الأسيوية وليس هؤلاء وحدهم، وقد كنا أولى بهذا منهم، لقربنا من هؤلاء وحاجتنا لتلك السلع، في أثيوبيا وباقي دول المنبع، والماء ثلاثة أرباعه تقريبًا يأتينا من أثيوبيا وحدها.

5 ـ تأمين الملاحة في البحر الأحمر:
وهو هدف رئيسي لدولة الاغتصاب وغيرها من القوى العالمية فمن البحر الأحمر تنتشر يهود في أفريقيا وأسيا.

والحل:
باختصار بالضغط في اتجاه معاكس يرجع هؤلاء الصهاينة، والأثيوبيين، ومن عاونهم، وعندنا حماس، وعندنا المقاومة في جنوب سوريا، وعندنا التعمير في سيناء، ولا أحد يقول عندنا قوات مسلحة، فهذه فقط "للعباسية"، و"محمد محمود" ولا تستطيع التحرك تجاه الجنوب. فهنا كلاب شرسة تمزقها. الحل في حر يقابل الضغط بضغطٍ، لا باستسلام وتنازل كما قد كان.

وهل يفعل هؤلاء الكرام؟
نعم المتوقع منهم أنهم يفعلون بدرجةٍ ما لأمور:

- أنهم اتخذوا سياسة الانفكاك من الغرب، والتوجه للقوى الصاعدة في الشرق والجنوب. فعندهم مبدأ الاستقلال، وإن اتبعوا سياسة التدرج.
- فعلوها مع الخليج من قبل، فحين مدّوا أيديهم للخليج وتمنَّع اتجهوا لأعدائه الروافض.
- علاقتهم بحماس، قد تكون مشجعًا، وقد حاولوا من قبل الضغط بالقضية الفلسطينية بإحداث تقدم جزئي في ملف "المصالحة الفلسطينية" أجهضته يهود بعد ذلك بالضغط على السلطة.
- مشاريع الإخوان النوعية للنهوض بمصر في القناة وسيناء، وتعمير الصحراء، تتعارض مع الصهاينة، فالمواجهة حتمية من الآن.

فقط الدرس الأهم في الحدث، هو أن هذا أول "لقاء" للإخوان بالصهيونية خارج الإقليم، تحديدًا في المنطقة التي يحاول الإخوان التحرك فيها بديلًا للأمريكان، فعلاقة الصهاينة بالصين كعلاقتهم بالأمريكان، فهم جماعة وظيفية تبعًا لمن ساد. فهل يواجه الإخوان؟

لا بديل عن المواجهة، وحسابات الربح والخسارة في صالح الإخوان، لا في صالح اليهود، وهم يهود في ثوب صهاينة حتى لا يعترض علي دعاة الفصل بين الصهيونية واليهودية والإسرائيلية.

ويذهب الله وساوس الشيطان عن يهود بالمجاهدين في سوريا وبحماس؛ وقد تغير الحال الآن، ولم يعد كما قد كان منذ عقود، فقد هزموا ثلاث مرات في حروبٍ متوالية، فيقينًا تغيرت الصورة الذهنية للجندي الصهيوني عند نفسه وعند غيره، فلم يعد يجرؤ على القتال، ولم يعد يخافه اليوم من كان يخافه بالأمس، وضيق المساحة عامل حسم في صالحنا، وخاصة أن طالت صواريخ حماس الصهاينة في عقر دارهم.

وكذا فإن طلبات الصهيونية لا تنقطع، فهم يضغطون لأخذ المتاح، ولا يتركون شيئًا، وهذا واضح في سياق تدرجهم منذ تسللوا إلى هذه الأرض وانتشروا فيها، إلى أن قامت لهم دولة. وحتى في التفاصيل، فحين رضي الأذلاء بالتسوية السلمية، تدرجوا معهم من الأرض مقابل السلام إلى السلام مقابل السلام، إلى الأمن، نحافظ لهم على أمنهم مقابل السلام يعطونه لنا، إلى الوجود، الاعتراف بوجودهم كدولة يهودية، مقابل السلام؛بل وراحوا يستعملون الأذلاء في تحقيق طلباتهم، يقولون: تطبيع مواد خام وسوق، وتوطين لللاجئين، وتبادل أراضي. حالهم كما وصف الله سبحانه وتعالى: {أم لهم نصيب من الملك فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا} [النساء:54]. إنهم يضغطون لأخذ ما في أيدينا، ولا يرجعهم غير قتلهم، هذه هي الحقيقة.

تبقى شيء في نفسي، وهو:
أن الحل لا يمكن أن يكون على مستوى "دولة"، بل على مستوى أمة، فحدود مصر تبدأ مع النيل، ومصر لا تنفصل عن الشام، ولا تنفصل عن المغرب، ولا تنفصل عن الجزيرة العربية، تتمدد إلى كل ما يطال أمنها القومي؛ واليهود يدركون هذا، ولذا تمددوا في المنطقة حين جاءوا، فعلام ندعى للبقاء داخل "دولة".

ونفس الشيء يقال حين نتحدث عن التحديات القادمة من الأوروبيين، وأنها لا تحل إلا بتعاون متوسطي، بأن يتكاتف المسلمون المتواجدون على شاطئ "بحر العرب"، ونفس الشيء يقال حين نتحدث عن التحديات القادمة من جهة الشرق كما قد كان في عهد التتار؛ وأفريقيا حبيبة، أختنا، منا ونحن منها ولكننا أهملناها وتركناها لمن لم يحسن ودها.

والحل في:
التحرك داخلياً لمراجعة سياسات مصر المائية، فلسنا عطشى، ولا معرضون للعطش، كما يفتري أولياء النظام القديم، ولكننا مهملون نضيع مالنا، أو نزع الله البركة من سعينا حين ساد فينا المفسدون؛ وإن المخلصين كثر، ويعرفون طريقهم لترشيد الداخل، واستخدام المياه الجوفية، والتعاون مع أهلنا في السودان لزراعة أرضهم، وتنشيط البحث العلمي، والإفادة من الموجود منه الآن، والمشاريع القابلة للتنفيذ كثيرة، فقط يحتاج الأمر لذي عزيمة صادق.

 

المصدر: موقع عودة ودعوة
  • 9
  • 0
  • 5,830

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً