انكشفتم ... شكراً للأحداث والحروب
هذه الأحداث والحروب والمحن التي اجتاحت عالمنا العربي والإسلامي كشفت أحوال هذه الدنيا الصاخبة، وكشفت عالمها المتقلب، فقد أزالت الستار عن أشخاصه وهيئاته ومنظماته وحكوماته، وعرّته على حقيقته، ونشرت الخبث والمراوغة على أرصفته، وأسقطت المصطلحات البراقة التي يلمع نفسه فيها، ويخفي سطوته واستبداده خلفها...
هذه الأحداث والحروب والمحن التي اجتاحت عالمنا العربي والإسلامي كشفت أحوال هذه الدنيا الصاخبة، وكشفت عالمها المتقلب، فقد أزالت الستار عن أشخاصه وهيئاته ومنظماته وحكوماته، وعرّته على حقيقته، ونشرت الخبث والمراوغة على أرصفته، وأسقطت المصطلحات البراقة التي يلمع نفسه فيها، ويخفي سطوته واستبداده خلفها مثل (الإنسانية، والكرامة، والحرية، والعدالة الدولية، والمساواة، وحقوق الإنسان، وحق العيش، وحق المصير) حيث داسوا على بعضها، وغصوا بالبعض الآخر.
ودلّلت هذه الأحداث على أن هذه الدنيا تدار كما في العصور السابقة من القتل، والتشريد، والنهب، والسلب، والظلم، والطغيان، وأنه لا يزال القوي يأكل الضعيف، ويهيمن عليه، وأن ما يسمى بالعالم المتحضر ما هو إلا غابة كبيرة نعيش فيها تحت سيطرة الأسود، وغدر الذئاب، ومراوغة الثعالب، وتمثيل القرود، وجبن الخراف، ومازال العالم يتمثل قول الشاعر زهير بن أبي سلمى:
ومن لم يذُد عن حوضه بسلاحه *** يهدمْ ومن لا يظلمْ الناس يظلمِ
وقد كانت الألاعيب والمراوغات في السابق مكشوفة لكل ذي لب نبيه، وواضحة لكل سياسي حاذق، إلا أن هناك من تغلب عليه العواطف فيحسن الظن، ويتعامل بالظاهر، وينكر المؤامرات، ويتريث بالحكم، أما هذه الأيام وبعد هذه الأحداث فلم يبق إنسان لديه في رأسه ما يفكر به إلا تبصر بالأمور، وتبين له الطعن في الظهور، وبدأ يقرأ ما بين السطور.
فقد كشفت هذه الأحداث عن معادن الأشخاص، وبيّنت صدق العلماء، وأبطلت مراوغات الحكومات، وأشارت إلى خبث المؤسسات الحقوقية، ودلّلت على انحياز الهيئات الدولية، وأسقطت زيف الإعلام، ونفاق بعض الإعلاميين.
فقد كنا في السابق نجزم، ونراهن على أن العالم المتحضر بهيئاته، ومؤسساته، وحكوماته لن يسمح بالإبادة الجماعية للشعوب، وكنا نظنه لن يرضى بقتل العُزّل من المدنيين، حتى رأيناه يغض الطرف عن إبادة السوريين بالطائرات، ورأيناه يسكت عن قتل الأطفال بشكل جماعي، ورأيناه لا يتألم لذبح الرضع بالسكاكين ورأيناه لا يهتز لهدم البيوت على المدنيين، رأيناه وهو يقدم مصالحه، وأولوياته على دماء الأطفال والنساء والمدنيين.
وكنا نظن أن هذا العالم المتحضر لن يسمح باستخدام السلاح المحرّم مهما كلّف الأمر، حتى رأيناه يتفرج على أطفال غزة وجلودهم تنسلخ عن أجسادهم بفعل الفسفور الأبيض المحرم دولياً، بل رأيناه يستخدم هذا السلاح بنفسه على المدنيين من أهل الفلوجة بالعراق.
كنا ننتظر من العالم المتحضر، ومن المؤسسات الحقوقية، والمنظمات الدولية أن تنتصر للمظلوم وتحقق العدالة التي يتغنّون بها، لكننا رأينا الحضارة الزائفة تنتصر للظالم الإسرائيلي، وتمده بالسلاح، وتبرر جرائمه.
رأينا العدالة الدولية وهي تتسلط على المسلمين المعتدلين وتلاحقهم في شتّى بقاع العالم وتصفهم بالإرهاب لتجد ذريعة لتتبعهم، وتجفيفهم، والقضاء عليهم.
رأينا الحكومات المتحضرة وهي تساعد على اغتصاب أراضي المسلمين في فلسطين، وتقتلهم في أفغانستان، وتلاحقهم في الباكستان، وتجوّعهم في الصومال، وتقسّمهم، وتنهبهم في العراق، وها هي الآن تتأهب لقتل المسلمين وتشريدهم في مالي.
رأينا هذه الهيئات الحقوقية وهي تلتزم الصمت عن إبادة المسلمين، وتشريدهم في بورما، ورأيناها وهي تصاب بالصمم عما يحدث في سوريا، ورأيناها وهي تتغافل عن تعذيب المسلمين وشنقهم وإهدار كرامتهم في الأحواز.
فلا أحد بعد اليوم يقول لي هناك هيئة لحقوق الإنسان، ولا أحد يتذرع بالمحكمة الدولية، ولا ينفع الصراخ والتهديد بالشكوى لمجلس الأمن، ولا قيمة ولا عبرة بمعاهدة جنيف، ولا مزية ولا هيبة لهيئة الأمم.
فقد تبين بعد الأحداث أن هذه الهيئات العالمية، والمؤسسات الأممية، والمعاهدات الدولية ما هي إلا أدوات بيدِ أسودِ الغابة، وما هي إلا سوطٌ يُساق به الجبناء، واتّضح أنها لعبة سياسية يضحكون بها على الضعفاء، ويرعبون بها الجبناء من أجل استنزافهم، واستعبادهم، والهيمنة عليهم.
ولو نطقت هذه الأحداث لقالت بصوت عالٍ أن لا وجود إلا للأقوى، ولا حضور إلا للردع، ولا سماع إلا للقبضة، ولا هيبة إلا للسلاح، ولا قيمة إلا للاستعداد.
ومن لا يملك الردع ولا القوة، وليس لديه الإرادة ولا العزيمة، فهو غنيمة لهيئة الأمم، ومحل لتجاربها، ومضرب لسوطها، وإذا أراد شيئاً فليستعطف عند بابها، وليتذلل لأساطينها، وليخضع لأربابها، وهذا ما نراه مع الأسف واضحاً جلياً في السياسات العربية، والإسلامية، فقادتهم وسياسييهم لا يجيدون إلا التظلم إلى هيئة الأمم، والتهديد بالشكوى إليها، فلا قوة صنعوا، ولا كرامة حفظوا.
وليبكِ العرب والمسلمون أنفسهم كالنساء، وليبيعوا بلدانهم كالحمقى، وليساعدوا أعداءهم لأنهم جبناء، فقد أضاعوا فلسطين، وزهدوا بأفغانستان، وتبرؤوا من العراق، وفرطوا في سوريا، وتخلوا عن جنوب السودان، وأهملوا الصومال.
وها هو اليمن يصارع، ولبنان يتمزق، وباكستان تسرق، والأحواز تشنق وتجفف، ومالي تغتال وتهدد.
ولا أحد يظن أن السياسيين العرب لا يعلمون ذلك، ولا يفهمون اللعبة; بل هم يعلمون، ويعرفون، وهم خائفون، ومرعوبون لأنهم يفهمون قصة (أُكِلتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض)، ولكنهم لا يملكون الأدوات التي تجعل لصوتهم قيمة، ولا يوجد لديهم رصيدٌ يستمدون منه العزيمة، ولا يستندون لرادعٍ يخلق لهم هيبة، فهم منفّذون وحسب، وإن نابهم نائب، أو خطرهم خاطر، هَبّوا لهيئة الأمم يبكون، ولمجلس الأمن يشكون، فيكون الحل كما يريد الحاكمون، لا ما يريده هؤلاء المستضعفون.
صالح علي الضحيان
- التصنيف: