على المنصة
ما يستشف في المحصلة هو إزاحة إلى الأمام في طريق تحقيق الإرادة الشعبية، أو دخول البلاد في نفق الفوضى بيد من سيعاندون انقلابياً ـ ربما ـ حتى النهاية، بلا حساب للمصلحة الوطنية لمصر.
أمسك أحد متحدثي منصة رابعة العدوية بالميكروفون، وبدأ في ذكر أسماء الشهيدات بإذن الله من مدينة المنصورة المصرية، وعندما نطق باسمها.. هالة محمد شعيشع،صدم أحدهم.. كان الأب معتصماً يستمع ففوجئ باسم ابنته مشفوعاً بلقب "شهيدة"..نسأل الله أن يتقبلهن جميعاً في الشهداء.
المعتصمون في الميادين المصرية لم تشترهم أموال خارجية أو داخلية مثلما هو حال ميدان "التحرير" الذي أضحى مثاراً للسخرية والتندر المصريين؛ فجميع معتصمي ميدان رابعة العدوية والنهضة والميادين والمدن الأخرى يضحون بالمبيت في الشوارع، وترك أعمالهم وأموالهم، ويتعرضون لمضايقات عديدة أحياناً في سبيل الوصول إلى بيوتهم والميادين، وبعضهم قد يصاب بالرصاص أو الخرطوش أو الأسلحة البيضاء أو الملاحقة أو غيرها في سبيل اعتصامه الذي لم يبد في الأفق أن له نهاية مؤقتة، وهم يضحون من أجل قضية أضحت اليوم واضحة جلية أكثر من أي وقت مضى.
بخلاف كثير من الصراعات السياسية الماضية؛ فإن التضاد الأيديولوجي بات مكشوفاً لقطاعات عريضة، ارتأت أن تنزل في جموع مليونية، طافت مناطق حيوية في القاهرة والجيزة والاسكندرية، ومدن رئيسة، الجمعة على نحو لافت للنظر؛ فكثيرون أساؤوا الظن بقدرة مؤيدي الشرعية في مصر على الصمود في وجه انقلاب عسكري دموي سافر، أعاد مصر لأجواء خمسينات وستينات القرن الماضي، لكن الواقع لم يصدق ذلك.
لقد بنيت الخطة الانقلابية على أرضية هادئة وضعت في حساباتها مخاطر محدودة لبعض الاضطرابات، وأسست ردات فعلها على تحويل الصراع إلى قضية أمنية، ستستدعي الهاجس "الإرهابي" مع أول خيط من الإحباط لدى التيار الإسلامي، وقدر المخططون أن فريقاً محدوداً سيلجأ للعنف ما يبرر إجراءات قمعية ممتدة.
وضعت على الطاولة خطة أمريكية تماماً، هي خطة "الصدمة والرعب" التي لجأت إليها واشنطن في صراعات عسكرية في العراق وأفغانستان، وهي طريقة تشل قدرات الخصم مع ذهوله بالإجراءات التعسفية والقاسية، لكن الواقع أن قوى الأغلبية بما فيها من قوى انتهجت العنف في تسعينات القرن الماضي ثم تراجعت عنه امتصت الصدمة واعتصمت بالسلمية؛ فكانت الموجة الثانية من "الصدمة" متمثلة في مجزرة الحرس الجمهوري التي لم تخل من ثغرات جوهرية أدت إلى انفضاحها وانقلابها في الأخير على مرتكبيها، وعلى النقيض؛ فقد نفذت قوى الأغلبية من فجوة المجزرة إلى أفق أكثر رحابة، فمرتكبو المجزرة لم تعد لديهم قدرة على تكرارها ما سمح لمعارضي الانقلاب بالإفادة من زخمها في زيادة حشده.
الآن، برهن مقاومو الانقلاب على قدرتهم على امتصاص الصدمة، ثم الحشد داخل الأطر الحزبية والدعوية "الإسلامية" ثم بدا في مليونية "كسر الانقلاب" أنهم قد نجحوا في ضم قطاعات شعبية كانت في المنطقة الرمادية بين مشروعي الشرعية والانقلاب، ما يعقد السبيل على الانقلابيين الذين يخشون من امتداد نطاق التظاهرات والاعتصامات لتشل البلاد تماماً، ومن خلال جموع مختلطة لا يمكن وصفها بالتيارات الإسلامية.
والجموع التي انسابت في طول العاصمة الكبرى وعرضها وامتدت من جنوب الجيزة (6 أكتوبر) إلى شمال القاهرة (طريق المطار)، وسيطرت مؤقتاً على مفاصل جوهرية من العاصمة قبل أن تنسحب منها استعداداً لجولة أخرى، خرجت من تلك بحزمة من المكتسبات الظرفية التي يمكن لها أن تستثمرها لإيصال الصراع إلى ذروته، وهو إعلان فشل الانقلاب نهائياً إذا أحسنت استغلالها..
ما يستشف في المحصلة هو إزاحة إلى الأمام في طريق تحقيق الإرادة الشعبية، أو دخول البلاد في نفق الفوضى بيد من سيعاندون انقلابياً ـ ربما ـ حتى النهاية، بلا حساب للمصلحة الوطنية لمصر.
11/9/1434 هـ
- التصنيف:
- المصدر: