أَخَوان نصيران

منذ 2013-09-01

حق المسلم على المسلم المبادرة إلى نصرته وإغاثته، وترك التردد أو التسويف أو التباطؤ في نجدته، امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك»


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين.. وبعد:


فتأمّل واقع الأمة الإسلامية، وسرِّح طرفك أنَّى شئت في المشرق أو في المغرب؛ وستقف على ألوان من الآلام والمآسي والجراحات، وأصناف من الأثقال والاحتياجات التي يعجز القلم عن وصفها والإحاطة بأبعادها وآثارها. وفي كل عام تستجد في أراضي المسلمين نازلة تجدد الأحزان وتزيد الأعباء، وفي كل ليلة يسدل الظلام فيها ستاره، تتصدع رؤوس فئات من المسلمين من الأنين والبكاء والألم؛ إما بسبب الخوف والظلم، أو الجوع والفاقة، أو العجز والمرض!

إنَّ ثمة حقيقة في غاية الأهمية وهي أنه مع كثرة الفتن والنوازل التي تعصف بكثير من دول العالم الإسلامي، إلا أن مقاصد الأخوة والترابط بين المسلمين ضعفت ضعفاً شديداً، زاد من حدتها ضعف الديانة ونقص الوعي والعجز السياسي والتحريف الإعلامي، حتى أصبح كثير من المسلمين لا يبالي بما يحدث لإخوانه من مجاعات أو حروب أو فتن، بل إن بعض العلماء والدعاة ربما انشغل بقضاياه المحلية انشغالاً أنساه كثيراً من قضايا الأمة!

ومن المحزن حقاً أن يستجدي بعض المسلمين المنكوبين النصرة والغوث من المنظمات الأممية والإرساليات الكنسية، وكثير من المسلمين يسمع ذلك ويعرض عنه، وحاله كما قال الشاعر:


كم حرة صرخت من تحت غاصبها *** فجاءها المنقذان: العي والصمم

لقد نجح الغرب في تقطيع أوصال العالم الإسلامي إلى دويلات متباعدة، وأصبحت الأكثريات المسلمة، فضلاً عن الأقليات، تعيش في جزر معزولة مقطوعة الصلة ببعضها؛ ولذا فنحن أحوج ما نكون إلى تجديد معاني الولاء والنصرة، وترسيخ أواصر الصلة والنجدة، امتثالاً لقول الحق تبارك وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة من الآية:71]. قال البغوي: "{أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}: في الدين واتفاق الكلمة والعون والنصرة" (تفسير البغوي: [2/369]).

ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً. ثم شبك بين أصابعه» (أخرجه البخاري في كتاب الأدب رقم [6026]. ومسلم في كتاب البر رقم [2585]).

ولقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (أخرجه مسلم في كتاب البر رقم [2586]). ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان، كما يألم الجسد لما في الرأس» (أخرجه أحمد [37/517] رقم [22877]. وصححه الأرناؤوط لغيره).

ومن الأدلة العظيمة التي تشعر المسلمين بعظم المسؤولية ما رواه جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعَّر وجه رسول صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: «{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} -إلى آخر الآية-: {إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النساء:1]، -والآية التي في الحشر-: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر:18]، تصدَّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره» حتى قال: «ولو بشق تمرة». قال: فجاء رجل من الأنصار بصرةَّ كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس"، حتى رأيت كوماً من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» (أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، رقم [1017]).

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل في قلبه الكبير همَّ المسلمين، ولذا تمعَّر وجهه الشريف ألماً وإشفاقاً لحال أولئك الفقراء، ولم ينشرح صدره إلا بعد أن تسابق الناس على الصدقة والبذل، فما بال كثير من المسلمين يرى المآسي تتخطف إخوانه من حوله وهو بارد القلب، بليد الإحساس، لم يتحرك له جفن؟!

إنَّ التناصر بين المسلمين ركيزة عظيمة من ركائز الإسلام، لا يتم الإسلام إلا بها، قال عز وجل: {وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال:72]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن أخو المؤمن، يكفّ عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه» (أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، رقم [4918]. وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم [6532])، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على ذلك، فها هو ذا صحابي جليل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا نبي الله! ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عددهن -لأصابع يديه- أن لا آتيك ولا آتي دينك، وإني كنت امرءاً لا أعقل شيئاً إلا ما علمني الله ورسوله، وإني أسألك بوجه الله عز وجل: بما بعثك ربنا إلينا؟" قال: «بالإسلام». قال: "وما آيات الإسلام؟" قال: «أن تقول: أسلمت وجهي على الله عز وجل وتخلَّيتُ، وتُقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، كل مسلم على مسلم حرام، أخوان نصيران، لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملاً، أو يفارق المشركين إلى المسلمين» (أخرجه النسائي في كتاب الزكاة، وصححه الألباني في صحيح النسائي رقم [2567]).

وإذا أردت أن تقف على أنموذج عظيم في التناصر والتآزر فاقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأشعريين إذا أرملوا -أي: فني زادهم- أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم» (أخرجه البخاري في كتاب الشركة رقم [2486]. ومسلم في كتاب فضائل الصحابة رقم [2500]).

فحق المسلم على المسلم المبادرة إلى نصرته وإغاثته، وترك التردد أو التسويف أو التباطؤ في نجدته، امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك» (أخرجه أحمد [35/383] رقم [21484]. وصححه الأرناؤوط).

والتفريط كل التفريط أن ترى المسلم في مسغبة أو فاقة أو حاجة ثم تخذله وتعرض عنه أو تُقصِّر في نصرته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلمُ أخو المسلمِ لا يظلمُه ولا يخذلُه». والخذل: ترك الإعانة والنصرة (شرح صحيح مسلم للنووي، [16/120])، وأي خذلان أعظم من إسلام المسلمين للأعداء المحاربين، أو تركهم لقمة سائغة للمنظمات التنصيرية، أو الإعراض عنهم يقاسون آلام الجوع والمرض؟!

والنصرة التي نتحدث عنها ليست ادعاءً، بل هي عمل القلب والجوارح، وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يد المسلمين على من سواهم، تتكافأ دماؤهم وأموالهم، ويجير على المسلمين أدناهم، ويرد على المسلمين أقصاهم».

وزاد أبو داود: «يرد مُشدُّهم على مُضعفهم، ومتسرعهم على قاعدهم» (أخرجه ابن ماجه في كتاب الديات رقم [2685]. وأبو داود في كتاب الجهاد رقم [2751]. وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه وصحيح سنن أبي داود).

قال الإمام الخطابي: "معنى اليد: المعاونة والمظاهرة، إذا استنفروا وجب عليهم النفير، وإذا استُنجدوا أَنْجدوا، ولم يَختلفوا ولم يتخاذلوا" (معالم السنن للخاطبي بحاشية مختصر سنن أبي داود: [4/59]. وانظر: شرح السنة للبغوي: [10/173]).

ومن المقترحات العملية التي تعزز النصرة:

أولاً:
أن يكون العلماء والدعاة قدوات حية يبادرون في مقدمة الركب، ويحيون دور العلماء في استنهاض الهمم، وتأمل قصة أبي عثمان الصابوني الإمام الكبير (ت: 449هـ).


فقد كان يعظ فدفع إليه كتاب ورد من بخارى مشتمل على ذكر وباء عظيم فيها، ليدعو لهم، ووصف في الكتاب أن رجلاً أعطى خبازاً درهماً فكان يزن والصانع يخبز والمشتري واقف، فمات ثلاثتهم في ساعة، فلما قرأ الكتاب هاله ذلك، واستقرأ من القارئ: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ} [النحل من الآية:45]، ونظائرها، وبالغ في التخويف والتحذير، وأثر ذلك فيه وتغيَّر، وغلبه وجع البطن، وأنزل من المنبر يصيح من الوجع، وبقي أسبوعاً لا ينفعه علاج، ومات (سير أعلام النبلاء: [42/18-43]).

فرقة هذا الإمام وشفقته على إخوانه آلمته هذا الألم الممرض، وتعزيز هذا الشعور الأخوي من علماء الأمة سيدفعهم إلى مزيد من العطاء والفاعلية. ومهمة العلماء ليست الاقتصار على إصدار الفتاوى والبيانات العامة فحسب، وإن كان ذلك مهماً بلا شك، لكن مهمتهم الكبرى قيادة الأمة، وصياغة الرأي العام، واستنهاض الهمم لنصرة المسلمين.

ثانياً:
أثبتت المنظمات السياسية، مثل منظمة التعاون الإسلامي ونحوها، عجزها عن القيام بجزء يسير من مسؤولياتها، وهذا يؤكد ضرورة العناية بالمبادرات المؤسسية الأهلية التي تسد جزءاً من الثغر، وتبادر لتوظيف طاقات الأمة لتحقيق النصرة كل حسب جهده ووسعه.


وتعترض بناء هذه المؤسسات عوائق كثيرة جداً، منها: الحملة الغربية الجائرة على مؤسسات العمل الخيري تحت شعار ما يُسمّى الحرب على الإرهاب (نشر مركز البحوث والدراسات في مجلة البيان كتابين في هذا الموضوع: القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب، وضحايا بريئة للحرب العالمية على الإرهاب، كلاهما للدكتور محمد السلومي)، ما أدى إلى انكفاء بعض الدعاة وعجزهم. ولذا كان من الواجب أن يتنادى المصلحون إلى تجاوز هذه العقبة بكل وسيلة ممكنة؛ فبعضنا يجيد في كثير من الأحيان التباكي على الفرص المغلقة، ويكثر التلاوم على التفريط في الفرص الماضية، لكننا نقصر كثيراً في اغتنام مساحات واسعة من الفرص الممكنة التي تحقق المطلوب.

ثالثاً:
إحياء منابر الجمعة لتكون تعبيراً صادقاً عن قضايا الأمة، ولن يتحقق ذلك إلا بالخطيب الحي المعطاء الذي ينبض بهموم الأمة قلبه، ويتعلق فؤاده بمشكلاتهم واحتياجاتهم. وقد ثبت في صحيح مسلم: "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم" (أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، رقم [867])، وما أجمل قول الرافعي: "ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلا رجال فيهم أرواح المدافع، لا رجال في أيديهم سيوف من خشب" (وحي القلم: [1/35]).


رابعاً:
الارتقاء بالإعلام الإسلامي بمنابره المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي، لتكشف واقع المسلمين، والتحديات التي تعترض سبيلهم، والمؤامرات والمكائد التي تحاك ضدهم، والأولويات التي يحتاجون إليها. وإذا كان بعض إعلامنا العربي يعزز الفرقة والقطيعة والأثرة وعدم المبالاة بأحوال المسلمين، ويشغل الناس بالاهتمامات الوضيعة، ويسهم في تشويه الوعي؛ فيجب أن يكون من أولويات إعلامنا الإسلامي الارتقاء بفكر الأمة، وتصحيح الوعي، وتعزيز المحبة، والنصرة، والتعاون على البر والتقوى، وبناء الجسد الواحد.


خامساً:
عقد المؤتمرات والندوات والمحاضرات والمعارض التي تعرّف بقضايا المسلمين، والسعي لتنشيط التنسيق والتكامل بين العاملين في الميدان، سواء كان ذلك من خلال المؤسسات أو الأفراد. ومن ذلك العناية بالمؤتمرات والندوات المتخصصة كالتي تجمع المحامين والحقوقيين أو الأطباء أو الإعلاميين ونحوهم، لتعزيز أدوارهم في الدفاع عن المسلمين ونصرتهم.


سادساً:
السعي لتأسيس المنظمات السياسية والحقوقية المحلية والدولية، التي تتصدر الدفاع عن المسلمين، وتطالب بحقوقهم في المحافل الإقليمية والدولية.


 

المصدر: مجلة البيان
  • 1
  • 0
  • 2,082

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً