ومن الناس من يعبد الله على حرف

منذ 2013-09-02

إنها آيات الله العظيمة التي ربطت الماضي بالحاضر وجعلته في حلقة واحدة، فتحدثت عن القلوب المنافقة التي تريد المنفعة الظاهرة والكسب الشخصي العاجل مقابل أي عمل تؤديه، حتى لو كان هذا العمل هو الإيمان!


إنها آيات الله العظيمة التي ربطت الماضي بالحاضر وجعلته في حلقة واحدة، فتحدثت عن القلوب المنافقة التي تريد المنفعة الظاهرة والكسب الشخصي العاجل مقابل أي عمل تؤديه، حتى لو كان هذا العمل هو الإيمان !
إنها مشكلة عصرية متفاقمة، تسببت في انقلاب كثير من الناس عن سبيلهم المستقيم، جزعًا عند الأزمة ونفورًا عند البلية، وقد بين لنا سبحانه أن الابتلاء سنة ربانية {الم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَ‌كُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1، 2]، بل والنبي صلى الله عليه وسلم علم المؤمنين ذلك واضحًا بقوله: «إذا أحب الله عبدا ابتلاه» (السلسلة الضعيفة: 2202، ضعفه الشيخ الألباني).

فينقيه ويصفيه، فيصبح كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: «يفارق الدنيا وما عليه ذنب».
لكن حال الناس تغير عن ذلك، فإذا أصابه خير اطمئن به وسكن، لكن عندما يختبر يجزع وينقلب، حتى صارت معاملات الناس كلها على شرط الرد بالمثل أو أفضل، وكذلك هو حال الغالب الآن في أعمالهم إذا قدم الخدمة لصاحب أو قريب يقدمها وينتظر الأجر أو ينتظر الرد، حتى إذا دعا صديقًا إلى وليمة فينتظر الرد بالمثل وكأن النبي صلى اله عليه وسلم قد علم أن ذلك سينتشر بين الناس فأمر بنقضه بقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم: «ليس الواصل بالمكافىء».

وهكذا حاله مع ربه يتعاهد معه سبحانه ويواصله في العبادة عند قدومه على أمر ما يصعب عليه، أو يخشى منه كامتحان أو تجارة، أو أي شيء من أمور دنياه، وعندما ينال ما يتمني ينسى عهده مع ربه، والبعض يعاهد الله على الوصال معه سبحانه كلما زاد عنده المال والخير وينقلب عند أول صدمة، ولعل ذلك يبين من سبب نزول الآية الكريمة كما قال القرطبي في اليهودي الذي نزلت فيه حينما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "أدع لي ربك ان يرزقني مالا وإبلا وخيلا وولدا حتى أؤمن بك، فدعا له صلى الله عليه وسلم، فرزقه الله عز وجل ما تمنى، ثم أراد الله تعالى فتنته واختباره وهو أعلم به، فأخذ منه ما رزقه به بعد أن أسلم، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أقلني فقد ذهب بصري ومالي وولدي بعد أن أسلمت"، فأنزل الله تبارك وتعالى فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْ‌فٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ‌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ‌ الدُّنْيَا وَالْآخِرَ‌ةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَ‌انُ الْمُبِينُ} [الحج:11].

قال بعض المفسرين: "{عَلَىٰ حَرْ‌فٍ} أي على شك بغير ثقة"، وقال البعض منهم: "{عَلَىٰ حَرْ‌فٍ}أي على شرط، يريد ان يقدم العبادة لله تعالى بعيدًا عن الاختبارات والابتلاءات، على شرط النفع الدائم والكسب الدائم وإلا انقلب"، أما نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم فقد ضرب لنا المثل العبادي الأعلى في جميع أحواله فكان إذا حل به الخير قال الحمد لله، وإن نزل به البلاء قال الحمد لله على كل حال، فهذا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم الذي كان يعبد ربه في السراء والضراء فيقدم الحمد في تلك الحالتين، وقال الحسن: "الذي يعبد الله على حرف هو المنافق.. يعبد الله بلسانه دون قلبه" .ومن الناس من يعبد الله إذا أصابه خير أو رخاء كان هادئ البال ساكنًا، وإذا أصابته فتنة انقلب على وجهه مضجر فقد خسر الدنيا والآخرة.

فالناس معادن كما وضح لنا النبي صلى الله عليه وسلم: «الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» (صحيح مسلم)، فيظهر معدن الإنسان المؤمن فيكون ارتباطه بالله تعالى حبا لله ولذاته ولثواب الآخرة العظيم، والثقة به سبحانه وعندما يتعرض المؤمنون للاختبارات والامتحانات والابتلاءات والفتن ما يزيدهم ذلك إلا قربًا إلى الله وليس بعدًا أو انقلابًا، وقد نجد البعض على عكس ذلك تماما يسألون الله عندما تنزل عليهم الابتلاءات والمحن والمصائب، ويظلون في الدعاء المستمر ليكشف عنهم الله تعالى هذه الغمة، وعندما يأتي الله بالفرج وتنزاح غمتهم ينقطع ذلك الوصال الرباني، فما عرفوا الله تعالى إلا وقت حاجتهم ونسوه وقت الرخاء، غير ما وجدنا عليه البعض من الشباب والكبار يعبث الشك في عقيدتهم بمجرد القرب من أصحاب الشبهات وأهل البدع، وجدناهم تأثروا بما يقولون فعبادتهم لله تعالى ليست على حق، فانطبق التفسير على قلوبهم بما غمر الشك يقينهم.

لذلك لا بد على المسلم أن يملأ قلبه ثقة لخالقه فيحيا واثقًا بأن الله تعالي حق، وأن محمد صلى الله عليه وسلم حق، والجنة حق، والنار حق، فعندما يذكر الله تعالى يذكره حبًا لله وللذكر، ويستغفر الله سبحانه حبا للوصول لمحبته، ويدخل للصلاة لأنها وقت اللقاء بربه أي وقت اللقاء بالمحب، وليس دخوله إليها كواجب لا بد من تأديته فحسب، فهذه النوايا الإيمانية وضحها لنا الحديث الشريف عندما قال صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرؤ ما نوى» (صحيح البخاري).

فالله تعالى يعلم إذا كان المسلم يذهب إلى الصلاة لأداء الصلاة المطلوبة منه أم يذهب ليرائي الناس، ويعلم أن إخراجه للصدقة تقربا لله تعالى أم ليقال عليه متصدق، ويعلم تربيته لأولاده ليعبدوا ربهم أم ليقال له بنون أكفاء، دعاه يعلم إذا كان يذهب لبر والديه تقربا لله تعالى الذي أوصى بهما في كتابه، أم يذهب لرعايتهم كي لا يقول عليه الناس أنه أهمل والديه.

إن العمل في كل الأحوال ربما يتم لكن أجره وثوابه يتغير بنواياهم، فلا نريد أن نعبد الله تعالى وقت الرخاء ونترك عبادته وقت الشدة أو العكس، إن المحب لمن يحب مطيع، فالذي يحب الله خالصًا واثقًا به سبحانه هو الذي يطيعه ويحمده وقت الرخاء والشدة ووقت الفرح والحزن.

إنه الله تعالى الذي ليس لنا رب سواه، والذي أنعم علينا بنعمه التي لا تحصى، فهو الذي يستحق الحب من القلب والطاعة التي ليست مصحوبة بشرط ولا شك.

فلا بد أن نعيد أوراقنا من جديد وليسأل كل منا نفسه: هل يعبد الله تعالى على حرف؟


أميمة الجابر
 

  • 3
  • 0
  • 9,739

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً