ذيل على أخبار الحمقى والمغفلين
ما رواه كُتَّاب الأخبار والأمثال والطرائف في كتب الأدب وأخبار الحمقى والمغفلين لم يعد يُقال الآن للتندُّر والضحك ومجالس المفاكهة؛ بل صار يقال كحقائقَ جادةً على وسائل الإعلام، وحين ينتقل الحمقى والمغفلون من خانة النوادر إلى منافذ التوجيه والتأثير؛ ينتقل معهم الناس من النور إلى الظلمات، يشترون الضلالة بالهدى وهم لا يبصرون!
"أصبح التليفزيون تهديداً للحرية الإنسانية، أكثر خطراً من البوليس والسجون ومعسكرات الاعتقال السياسي، وأعتقد أن الأجيال القادمة -ما لم تكن قدرتها على التفكير قد دُمِّرت تماماً- سوف تُصدم باستشهاد الجيل الحالي المستهدف بدون عائق لتأثير هذه القوة الضاربة التي لا رابط لها. فإذا كانت الدساتير في الماضي توضع للحد على سطوة الحكام؛ فإن دستوراً جديداً سنحتاج إليه لكبح جِماح هذا الخطر الجديد الذي يُهدِّد بإقامة عبودية روحية من أسوأ الأنواع" (علي عزَّت بيجوفيتش رحمه الله).
ما رواه كُتَّاب الأخبار والأمثال والطرائف في كتب الأدب وأخبار الحمقى والمغفلين لم يعد يُقال الآن للتندُّر والضحك ومجالس المفاكهة؛ بل صار يقال كحقائقَ جادةً على وسائل الإعلام، وحين ينتقل الحمقى والمغفلون من خانة النوادر إلى منافذ التوجيه والتأثير؛ ينتقل معهم الناس من النور إلى الظلمات، يشترون الضلالة بالهدى وهم لا يبصرون!
السطور القادمة شذرات من رحلة انتقال "الحمقى والمغفلين" من كتب الأخبار إلى شاشات الأخبار.
1- منهج تثبيت الكذب:
روى ابن قتيبة في عيون الأخبار أن أبا حية النميري -وكان مشهورًا بالجُبن مع الكذب والتعالي-؛ كان له سيف يُسمِّيه "لعاب المَنِيَّة" -رغم أنه ليس بينه وبين الخشبة فرق- سمع يومًا صوتًا خارج الدار فظنه لِصًّا فخرج حاملًا خشبته ينادي: "أيها المغتر بنا والمجترئ علينا، بئس واللّه ما اخترت لنفسك، خيرٌ قليل، وسيفٌ صقيل، لعاب المنية الذي سمعتَ به، مشهورٌ ضربته لا تخاف نُبوّته، اخرج بالعفو عنك وإلا دخلت بالعقوبة عليك، إني واللّه إن أَدْعُ قيسًا تملأ الأرض خيلًا ورجلًا، يا سبحان اللّه، ما أكثرهم وأطيبهم! ثم فتح الباب فإذا كلب قد خرج"، فقال: "الحمد للّه الذي مسخك كلبًا وكفاني حربًا".
لكن أبا حية هذا -الذي رُوِيَتْ قصته في كتب الأدب على اعتبار أنها من الطرائف- بُعِث في زماننا إعلامياً وصارت له قناة، واستطاع إقناع الناس حقاً بأن الذي في يديه كان سيفاً صقيلاً وأن الذي حاول التهجم عليه كان بشراً وقد مسخه الله كلباً! (شاهد بعضاً من ذرية أبي حية النمري).
2- تكذيب الصورة:
روى أهل الأخبار أن رجلان خرجا للصيد، فأبصرا شيئاً أسوداً على قِمّة التلّ، فقال أحدهما لصاحبه: "انظر هذا الغراب"، فقال صاحبه: "بل هو عنزة"، وبينما هما يتجادلان إذا به يطير، فقال الرجل: "ها هو الغراب قد طار"، فقال صاحبه: "عنزة! ولو طارت!".
ويبدو أن نسل هذا الرجل قد احتلوا الصحافة والإعلام! ولقد ذُهِلَت مذيعة الجزيرة أمام واحدٍ منهم حين قال لها: "لم تكن ثمة مظاهرات اليوم في القاهرة، والتجمعات القليلة لم تزد عن العشرات"، قالت له: "سيدي لعلك تنظر معنا إلى الشاشة: هل هؤلاء عشرات؟!"، فقال ببساطة وثقة: نعم! (راجع: نشرة السابعة مساء يوم الأحد 18/8/2013م).
ومثلها كان مذيع قناة التركية مع آخر قال له: "الآن يجري على كوبري أكتوبر -وينقله التليفزيون المصري- مجموعة من الملثمين يُطلِقون النار على السكان في البيوت". فسارعت القناة لبث الصورة من التليفزيون المصري فإذا بالكوبري فارغٌ تماماً لا أثر عليه لأحد من الناس، وبرغم الصورة فلقد استمر الرجل يروي تفاصيل ما يقول أنه يحدث! (شاهد الفيديو).
3- تحليلات بلا موقفٍ:
روى أهل الأمثال أن أرنباً وثعلباً تخاصما عند الضبِّ، قالت الأرنب: "يا أبا حسل -من أسماء الضبّ-، فقال: "سميعاً دعوتما"، قالت: "جئناك لتحكم بيننا"، قال: "عادلاً حَكَّمْتما"، قالت: "فاخرج إلينا"، قال: "في بيته يُؤتى الحَكَم"، فدخلا عنده فقالت الأرنب: "وجدتُ تمرة"، قال: "حلوة فَكُليها"، قالت: "فخطفها الثعلب"، قال: "ما أراد إلا الخير"، قالت: "فضربتُه"، قال: "بِحَقِّك أخذتِ"، قالت: "فضربني"، قال: "حرٌّ انتصف لنفسه"، قالت: "فاحكم بيننا"، قال: "قد حكمت".
وحتى هذه اللحظة لا أحد يدري بماذا حكم أبو حسل؟! لقد برَّر لكل الأطراف مواقفها ولم يتخذ هو موقفاً، ثم ظن نفسه قد حكم في الخصومة!
طائفة أبي حسل تنتشر في وسائل الإعلام الآن؛ فلا يفعل إلا أن يُفسِّر الماء -بعد الجهد- بالماء، ويصوغ المشهد على نحو ما قال الشاعر:
فكأننا والماء يجري حولنا *** قومٌ جُلوسٌ حولهم ماء
فبعد كل الكلام الكثير، الرتيب الفخيم الكبير النظيم، لا يخرج المشاهد منه بشيء!
4- أَلِّف، ولا تقل: لا أعرف:
اشتهر في تاريخ الأدب العربي ابن صاعد الأندلسي؛ كان ذا بديهة عجيبة، لكنه كان كذّاباً، وكان يَدَّعي العلم في كل أمر فيخترع ولا يقول لا أعرف، حتى قيل له يوماً: "ما هو الخنفشار؟"، فانطلق يقول في ثقة وثبات: "نباتٌ ينبتُ في أطراف اليمن، أبيض الثمرة بلا رائحة، إذا شربته العير انعقد لبنها، وقد قال الشاعر:
لقد عقدت محبتها بقلبي *** كما عقد الحليبَ الخنفشار"
بينما الحقيقة أنه لا شيء اسمه الخنفشار، وإنما أراد السائل أن يفضح ادّعاءه العلم.
والآن لا تجد أحداً على شاشة يقول "لا أعرف"، وإنما يمضي في التحليل والتنظير كأنما أحاط بالموضوع عِلماً، وكثيراً ما يبدو من مستوى الكلام مدى إحاطته الفعلية بالأمر، ومنذ ما بعد ثورة يناير صارت كلمة "النخبة" سيئةَ السمعة في أوساط الشباب، بل قال الكاتب الساخر الراحل جلال عامر عبارته اللاذعة: "كان بالإمكان أن أكون (خبيراً استراتيجياً) ولكني فضّلتُ أن أُكمِلَ تعليمي" (شاهد مستوى أحد الخبراء الأمنيين).
5- حقائق غريبة:
سُئل رجل: "متى وُلِدت؟"، فقال: "وُلِدتُ رأس الهلال للنصف من رمضان بعد العيد بثلاثة أيام! فاحسبوا كيف شئتم". ومَرِضَ رجلٌ فسُئل: "ماذا تشتهي؟"، فقال: "رأس كبشيْن"، فقيل له:" ذلك لا يكون"، فقال: "فَرَأْسَيْ كبش".
وكان الإمام أبو حنيفة في مجلس وفيه رجل يبدو عليه الوقار، فثنى الإمام قدمه احتراماً له، فلما تكلّم الرجل سأل الإمام وقال له: "ماذا لو غربت الشمس في أذان الظهر، هل يجوز للصائم أن يُفطِر ظهراً؟!"، ساعتها قال الإمام كلمته السائرة: "آن لأبي حنيفة أن يمد قدمه".
من ذرية هؤلاء جاء أقوامٌ يُخبروننا بما لم نكن سنعرف إلا منهم:
- هل تعرف أن أوباما من عملاء الأمريكان؟
- هل تعرف أن أخا أوباما من الإخوان المسلمين؟
- هل تعرف أن الإخوان المسلمين هم سبب سقوط الأندلس؟
- هل تعرف أن المؤامرة السرية الكبرى على مصر ستنفذ يوم 13/13/2013م؟
خلاصة ما يحدث من الإعلاميين وضيوفهم من حماقاتٍ وطرائفَ تبلغ حدّ الأساطير مذكور في مأثور عربي آخر؛ فلقد كان الشاعر الحمدوني يتحامق -أي يصطنع الحماقات والبلاهات-، وحين عاتبه العقلاء في هذا، ولماذا وضع نفسه في هذا الموضع الدنيء قال كلمته الخالدة: "حماقة تعولني خير من عقل أعوله!"، وأنشد يقول:
عذلوني على الحماقة جهلاً *** وهي من عقلهم ألذّ وأحلى
حُمْقي اليوم قائم بعيالي *** ويموتون -إن تعاقلتُ- ذُلاّ
- التصنيف: