المسلمون في البوسنة؛ أشباح الماضي وكوابيس الحاضر
في المدة الأخيرة زار رئيس العلماء والمفتي العام في البوسنة حسين كفاصوفيتش أبو حمزة السوري؛ في سجن لوكافيتسا، بمناطق صرب البوسنة، وهي الزيارة الأولى التي يقوم بها مسؤول كبير من البوشناق المسلمين للسجن للاطلاع على أحوال سجين ذنبه الوحيد أنه قاتل إلى جانب المسلمين أثناء الحرب..
في المدة الأخيرة زار رئيس العلماء والمفتي العام في البوسنة حسين كفاصوفيتش أبو حمزة السوري؛ في سجن لوكافيتسا، بمناطق صرب البوسنة، وهي الزيارة الأولى التي يقوم بها مسؤول كبير من البوشناق المسلمين للسجن للاطلاع على أحوال سجين ذنبه الوحيد أنه قاتل إلى جانب المسلمين أثناء الحرب، في موقف تشفِّي من المسلمين الذين ساعدوا إخوانهم في وجه الإبادة. مقابل عدم سجن أو محاكمة أي شخص آخر قاتل في الجانب الكرواتي أو الصربي أثناء الحرب، سواءً كانوا من الروس، أو البلغار، أو الأوكرانيين أو اليونايين أو غيرهم من الجنسيات التي قاتلت جنباً إلى جنب مع التشتنيك الصرب، أو الأستاشا الكروات.
كانت الزيارة مفاجئة لأبو حمزة؛ الذي يقضي عامه السادس في السجن، دون أن يلتفت إليه أحد لا من المسؤولين المحليين أو الدوليين، بل إن الاتحاد الأوروبي هو من يدفع تكلفة إقامة العرب في سجون الصرب بالبوسنة. وهذا أمر معروف ومُعلن وغير خاف على المتابعين لهذا الملف من داخل البوسنة أو خارجها.
وقد سأل أبو حمزة، المفتي وهو لا يكاد يُصدِّق؛ لماذا جئت إلى زيارتي؟ فرد عليه، جئت أزورك في الله، فبكى أبو حمزة، الذي عانى الإهمال من قبل المسلمين، وعانى السادية الصربية طويلاً، وبكى المفتي؛ بأصواتٍ مرتفعة سمعها من كان بالقرب منهما، ونقلت ذلك وسائل الإعلام البوسنية ولكن بأشكالٍ مختلفة، بين مرحبٍ بالزيارة ومن اعتبرها قوةً معنوية للسجين بلا ذنب أبو حمزة السوري، وبين منددٍ بها.
وكتبت بعض وسائل الإعلام المرتبطة بدوائر معادية للإسلام والمسلمين في نقد المفتي ومحاولة التأليب عليه، والحديث عن معارضيه.
الشيخ حسن كفاصوفيتش؛ رجل معروف بدماثة أخلاقه، وسعة آفاقه، وهو يختلف عن الكثيرين ممن تلقّوا تعليماً دينياً سواءً في داخل البوسنة أو منطقة البلقان أو خارجها كالأزهر، وغيره.
فقد منَّ الله عليه بفتح عظيم عندما وجد الطريق الصحيح للتعبير عن عالمية الإسلام وفهمه الفهم العملي الصحيح. ولديه من الخطوط العريضة للفهم الصحيح للإسلام ما يؤهله لأداء دور تاريخي في حياة المسلمين، على خطى الغازي خسرو بك، و جمال الدين تشاوتشيفيتش، وعلي عزّت بيجوفيتش رحمهم الله.
وقد كان رئيس العلماء السابق الدكتور مصطفى تسيريتش، أن يكون أحد أهم رجالات البوسنة التاريخيين، لو نشأ نشأةً حركية، أو استدرك ما فاته كما فعل رئيس العلماء الشيخ حسين كفاصوفيتش. فقد كان ولا يزال دبلوماسياً براغماتياً، وهي صفة جيدة لكنها لا تصنع شعبية. وربما كانت صفات الدكتور تسيريتش مناسبة جداً للوضع الذي وجدت البوسنة نفسها فيه، ليس بعد وفاة تيتو وانقسام يوغسلافيا فحسب؛ بل منذ مؤتمر برلين سنة 1878م. وهي لا تزال تعيش هذا الوضع إلى يومنا هذا، مع اختلاف في نسبة المعاناة من عهدٍ إلى عهد وإن كانت جميع العهود تداعيات تاريخية لما حدث بعد انحصار ظل الخلافة العثمانية ومن ثم إلغاءها سنة 1924م.
حال البوسنة يُشبه حال أبو حمزة؛ بل هو اختزال لما يجري في البوسنة، والتي لم تتحوّل حتى الآن إلى دولة طبيعية، مثل بقية دول العالم، فالصرب لا يزالون مُصرِّين على اعتبار اتفاقية دايتون، هي دستور البوسنة، ولا مجال للحديث عن توحيد البوسنة تحت حكومة مركزية واحدة.
والكروات يؤيدون الصرب؛ لأن أطماعهم في اقتسام الـ 51 في المائة مع المسلمين وتكوين دويلة تكون ظهيراً لكرواتيا أو جزءاً من كرواتيا، مرتبط ببقاء صرب البوسنة كياناً بصلاحياته الحالية، كما يُعلنون حتى الآن، ومن خلال تسمية الكثير من المؤسسات الإعلامية والاقتصادية باسم "هرسك بوسنة" وهي دولتهم المزعومة والتي أعلنوا عنها أثناء الحرب (1992-1995)م. وتحديدا سنة 1993م.
في المدة الأخيرة حدث تطوران مهمان على الساحة البوسنية والاقليمية؛ وهما افتتاح النُّصب التذكاري للقتلى البوشناق في الحرب الكرواتية الصربية، والجدل حول عصابات التشتنيك الصرب؛ التي يقال أنها عادت للعمل كمنظمة شبه عسكرية في مناطق صرب البوسنة "49" في المائة.
ففي الوقت الذي ينزع فيه كروات البوسنة للتمايز عن البوشناق البوسنيين؛ هناك محاولات لإدماج البوشناق المسلمين في كرواتيا. وذلك ليس بإشراكهم في الوظائف الهامة في الدولة، حيث لم يصبح إلى حدٍ الآن أي وزير مسلم في حكومة كرواتية منذ استقلال كرواتيا سنة 1991م، وإنما بأشكالٍ بروتوكولية كالإشادة بالمفتي لدوره في السِلم الأهلي ومناهضة العنصرية، أو إقامة نُصب تذكاري للقتلى المسلمين في الحرب الكرواتية الصربية.
وقد قام بإزاحة الستار عن النُّصب التذكاري، وزير الدفاع الكرواتي، بريدراغ ماتيتش؛ مع العلم أن الذي قام بتمويل تكلفة النُّصب مسلمان هما جميل هوسيتش، وحارث مؤمينوفيتش.
ويضم النُّصب التذكاري أسماء 27 قتيلاً مسلماً في الحرب. وقد تحدّث وزير الدفاع عن دور المسلمين البوشناق في الحرب حيث مثّلوا نسبة 10 في المائة من إجمالي القتلى بكرواتيا.
وتحدّث وزير الدفاع الكرواتي عن تعاون الكروات والبوشناق أثناء الحرب، في البوسنة قبل أن يوجه الكروات بنادقهم لصدور البوشناق المسلمين، على إثر الاتفاق الشهير بين الرئيس الصربي الأسبق سلوبودان ميليشيفيتش، والرئيس الكرواتي الأسبق فرانيو توجمان سنة 1992م.
لم يذكر الوزير الكرواتي ذلك الاتفاق، ولم يتحدّث عن حصاد الجرائم التي ارتكبها الكروات بحق المسلمين، في موستار وفيتز وبوغينو وترافنيك؛ ولكنه تحدّث عن العلاقة التي أعقبت ذلك ولا سيما بعد توقيع اتفاقية الفيدرالية سنة 1994م؛ حيث ساعد البوشناق الكروات على تحرير منطقة كرايينا الكرواتية وعاصمتها كنين، مقابل مساعدة الكروات للبوشناق على تحرير بيهاتش، والإنسحاب من إكمال تحرير بنيالوكا، بعد تلقي الأوامر من الإنسحاب لأن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً لم يريدوا قيام دولة بوسنية يُمثِّل المسلمون فيها الأغلبية، وفي نفس الوقت لم يقبلوا قيام دولتين عِرقيتين كبيرتين في المنطقة هما صربيا الكبرى وكرواتيا الكبرى، لكن معاناة المسلمين وتعرُّضِهم للتهديد المستمر هو بيت القصيد في اتفاقية دايتون التي أُجبِرَ عليها الزعيم الراحل علي عزَّت بيجوفيتش رحمه الله.
الوزير الكرواتي تحدّث عن مشاركة بوشناق كرواتيا في الحرب إلى جانب الجيش الكرواتي، وتحدّث عن دور الجيش الكرواتي ومساهمته في تحرير بيهاتش البوسنية التي قال إن ما كان يتهددها أكبر مما حدث في سريبرينتسا. لكنه لم يتحدّث عن دور بوشناق البوسنة في تحرير كرايينا الكرواتية كما سلف؛ وفي ذلك عبرة ونظر.
حتى على المستوى الكرواتي؛ يشتكي البوشناق المسلمون في كرواتيا من التمييز حتى في التعامل مع قدامى المحاربين، فالكروات يتلقون معاملة خاصة بينما يعامل البوشناق الكروات معاملة مواطنين من درجةٍ ثانية. وقد اعتمد الوزير في ذلك على أن الأغلبيية هي من تُقرِّر في الديمقراطيات، وبرّر ذلك بأن "القانون ليس هو العدالة فأحياناً" يسيران في خطين متوازيين. وهذا هو حال القانون مع المسلمين في كرواتيا، قصد ذلك الوزير أم لم يقصده.
رئيس المحاربين القدامى من البوشناق في كرواتيا حمدي ماليتش، قال إن 25 ألف بوشناقي من كرواتيا شاركوا في الحرب إلى جانب الجيش الكرواتي، وبلغ عدد القتلى منهم 1100 مقاتل، وهؤلاء لم يحصل ذووهم على التعويضات التي حصل عليها زملاءهم الكروات، مما يؤكد حسب قوله، موازين اللاعدالة أو إزدواجية الموازين. وهو ما يعني أيضاً أن التعايش المشترك الذي تحدّث عنه محافظ رييكا زلادكو كومادينا، لن يكون له مستقبل جيد إلا بارساء العدالة بين مختلف الشعوب، والكف عن محاربة الإسلام والمسلمين سواءً عن طريق الحروب أو الحملات الإعلامية المسعورة، ومن ذلك قضية أبو حمزة السوري، الذي يقبع في السجن نتيجة الحقد الصربوكرواتي على المسلمين سواءً كانوا بوشناقاً أو غيرهم.
وإذا كان الكروات يستخدمون أسلوب التخدير، فإن الصرب لم ينفكوا يُصرِّحون بما في عقلهم الباطن، وما يُضمِرونه للمسلمين، من خلال الاحتفاظ بمنظمة التشتنيك؛ ففي الوقت الذي أعلن فيه وزير الأمن فخر الدين رادونجيتش، أنه لا توجد منظمات شبه عسكرية في البوسنة، يؤكد شريط وثائقي يُروَّج حالياً في البوسنة أن منظمة التشتنيك لا تزال قائمة، بل إن الإعلام الصربي يعترف بذلك من خلال بث شريط لأُناسٍ يلبسون أقمصةً سوداء، وأحذيةٍ وقبعاتٍ وملابسٍ عسكرية، يرتديها التشتنيك الصرب في البوسنة، ودعواتٍ للانخراط في هذه المنظمة وبشكلٍ علني.
بل هناك حديث عن وجود 30 ألف منخرط في هذه المنظمة الإرهابية التي ارتكبت جرائم ضد الإنسانية أثناء العدوان على البوسنة. لكن الذي يدفع الثمن هم المسلمون ومن بينهم العرب، وقضية أبو حمزة السوري شاهد صارخ على ذلك، رغم إنه لم يكن مقاتلاً بالمعنى الحقيقي بل كان في مجال الترجمة، وبعض الأعمال اللوجستية بحكم تكوينه الدراسي كدارس طب.
هذا الاختلال بين مناطق المسلمين الواقعة تحت المجهر العرقي والدولي، وبين مناطق صرب البوسنة وكروات البوسنة التي لا يُطبَّق فيها القانون ولا تخضع للدستور، بما في ذلك اتفاقية دايتون، يؤكد على أن البوسنة لا تزال في حاجة للمساعدات من أجل إرساء العدالة أكثر من حاجتها للمشاريع الإنمائية وتدريب عناصر المؤسسات المختلفة على السلوك القانوني.
ويتساءل كثيرون عن مستوى الاختراق الذي أحدثه الصرب والكروات داخل مسلمي البوسنة والهرسك لدرجة يُصرِّح وزير الأمن وهو صحافي بوشناقي من الجبل الأسود هاجر أثناء الحرب إلى البوسنة وحصل على الجنسية البوسنية وتمكّن من إصدار جريدة سرعان ما أصبحت الأولى في البوسنة وهي دنيفني أفاز، ثم دخل مجال التجارة وأصبح مليونيراً في ظرف سنوات، ويملك ناطحات سحاب. وما علاقة هذه الثورة بذلك الاختراق؟
وبقطع النظر عما إذا الوزير لا يملك معطيات كافية، لاسيما من داخل صرب البوسنة، أو لأسباب سياسية، أو اقتصادية لا سيما وأن بعض شركائه صرب؛ فإن الواضح أن تقييم رادونجيتش ليس صحيحاً. كما أن تقييم وزارته ليس صحيحاً لا سيما فيما يتعلّق بالمقاتلين العرب، والملتزمين البوشناق، وتحديداً في ما يتعلّق بأبي حمزة السوري.
عبد الباقي خليفة
- التصنيف:
- المصدر: