عدة الشهور

منذ 2013-09-22

سميت هذه الأشهر الأربعة حرماً لعظم حرمتها وحرمة الذنب فيها، روى ابن طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اختص الله تعالى أربعة أشهر جلعهن حرماً، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيها أعظم، وجعل العمل الصالح والأجر أعظم. وخص الله تعالى الأربعة الحرم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها، وإن كان منهياً عنه في كل زمان.

 


الحمد لله مدبر الليالي والأيام، ومصرف الشهور والأعوام، الملك القدوس السلام، المتفرد بالعظمة والبقاء والدوام، المنزه عن النقائص ومشابهة الأنام، يرى ما في داخل العروق وبواطن العظام، ويسمع خفي الصوت ولطيف الكلام، إله رحيم كثير الإنعام، اختص بعض الشهور بمزيد من التقديس والإعظام، أحمده على جليل الصفات وجميل الإنعام، وأشكره شكر من طلب المزيد ورام، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي لا تحيط به العقول والأوهام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

عباد الله! اعلموا -نفعني الله وإياكم بما نقول ونسمع- أن الله سبحانه يصطفي من مخلوقاته ويفضل بعضها على بعض؛ فاختص هذه الأمة وفضلها على سائر الأمم، وجعلها من خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، واختصها وشرفها بأفضل الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَايَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]. وكذلك اختص هذه الأمة ببعض الأمكنة المقدسة، ففضل مكة على المدينة، والمدينة على القدس، والقدس على غيره من الأمكنة، بل وجعل أجر وثواب العبادة في مسجد مكة البيت الحرام أعظم أجراً من الصلاة في المسجد النبوي، والمسجد النبوي أعظم أجراً من المسجد الأقصى. وكذلك اختص هذه الأمة بأزمنة مباركة، ومنها: يوم الجمعة، وليلة القدر، ورمضان، والأربعة الأشهر الحرم.

أيها المسلمون! يقول الله جل في علاه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36]. فلنعش وإياكم في ظلال هذه الآية الكريمة من سورة التوبة، فيقول الله جل في علاه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ} هذه الآية عباد الله!كما يقول القرطبي صاحب التفسير: تدل على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب، دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط، وإن لم تزد على اثنا عشر شهراً؛ لأنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على الثلاثين ومنها ما ينقص، وشهور العرب لا تزيد على الثلاثين وإن كان منها ما ينقص، والذي ينقص ليس تتعين له شهر، وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج، وعليه فلا ينبغي للمسلمين أن يقدموا الشهور العجمية، والرومية والقبطية على الشهور العربية. وقال: {فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ} أي في اللوح المحفوظ، وإنما قال: {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ} ليبين أن قضاؤه وقدره كان قبل ذلك، وأنه سبحانه وضع هذه الشهور، وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السماوات والأرض، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة.

{مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} أي من هذه الإثنا عشر شهرًا أربعة حرم، وسميت هذه الأشهر الأربعة حرماً لعظم حرمتها وحرمة الذنب فيها، روى ابن طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اختص الله تعالى أربعة أشهر جلعهن حرماً، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيها أعظم، وجعل العمل الصالح والأجر أعظم. وخص الله تعالى الأربعة الحرم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها، وإن كان منهياً عنه في كل زمان. وقال قتادة: إن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً، ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان، والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظمو ما عظم الله، إنما تعظيم الأمور بما عظم الله به عند أهل الفهم وأهل العقل. وهذه الأربعة الأشهر الحرم قد جاء بيانها في سنة المعصوم صلى الله عليه وسلم فقد خطب في حجة الوداع، فقال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم: ثلاث متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» (أخرجه البخاري ومسلم).

أمة القرآن! ثم يقول الله تعالى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي ذلك هو الشرع المستقيم من امتثال أمر الله فيما جعل منا لأشهر الحرم والحذو بها على ما سيق من كتاب الله الأول. {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} أي فلا تظلموا أنفسكم بارتكاب المعاصي والآثام، صغرت أم كبرت؛ لأن الله إذا عظم شيئاً من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت له حرمة متعددة، فيضاعف فيه العقاب بالعمل القبيح؛ كما يضاعف الأجر والثواب بالعمل الحسن، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحرام في الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال.

ثم بين سبحانه أن تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحله والتلاعب بأحكامه، أعظم الظلم وأسوأه وهو من الشرك بالله؛ والشرك بالله أعظم الظلم وأقبحه كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. وهذا ما كان يفعله مشركوا العرب الأوائل فيتلاعبون بحرمة هذه الأشهر، فيؤخرون حرمة شهر الله المحرم إلى صفر، وإذا أراد فيه قتالاً يسمونه النسيء وقد أبطل الله كل ذلك، فقال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37]. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]. وقوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]. وقال محمد بن إسحاق في قوله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} أي لا تجعلوا حرامها حلالاً، ولا حلالها حراماً؛ كما فعل أهل الشرك فإنما النسيء الذي كانوا يضعون من ذلك زيادة في الكفر: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا}.

عباد الله! إنه لظلم لأنفسنا أن نوردها موارد الهلاك في الدنيا والآخرة بالإعراض عما علمناه من دينا لله، فنعرف الحرام ونرتكبه، والواجب فلا نفعله. إنه لظلم لأنفسنا أن تمر بنا مواسم الخير فلا نستغلها إلا في جمع الدينار والدرهم، ونحن في غفلة عن حقيقة موازين حسناتنا يوم القيامة. وإنه لظلم لأنفسنا أن نقابل نعم الله علنيا بالكفران والنكران لا بالشكران والعرفان، فنعمة البصر ونعمة النطق سخرناها في قالة السوء، من غيبة ونميمة وكذب وزور وبهتان، وغيرها من آفات اللسان.

عبادا لله! لنتأمل جميعاً كم لله علينا من نعم ظاهرة وباطنة لا نحصي لها عداً، ثم لننظر هل سخرنا كل نعمة فيما يرضيه، فكون من الشاكرين، أم أننا استعنا بنعم الله علينا على معاصيه ولا حول ولا قوة إلا بالله والله سبحانه يقول: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]. ويقول تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53]. ويقول تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وحشرني وإياكم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر له شكراً شكراً، وأصلي وأسلم على خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. وبعد:

عباد الله! لتعلموا رحمكم الله أن الظلم محرم في جميع الأزمنة والأمكنة، ولكنه في الأشهر الحرم أشد تحريماً من غيره؛ قال قتادة رحمه الله في قوله: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء. وقال القرطبي: خص الله تعالى الأربعة الأشهر الحرم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها، وإن كان منهياً عنه في كل زمان؛ كما قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} في الاثنا عشر شهراً. وعن محمد بن الحنفية قال: فيهن كلهن.

وقوله: {قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} أي جميعاً. قال ابن عطية رداً على من قال أن الغرض بهذه الآية كان قد توجه على الأعيان ثم نسخ ذلك وجعل فرض كفاية: وهذا الذي قاله لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم أنه ألزم الأمة جميعاً النفر؛ وإنما معنى هذه الآية: الحظ على قتالهم والتحزب عليهم، وجمع الكلمة. ثم قيدها بقوله: {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} قال: بحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم.

عباد الله! ثم ختم الله الآية بإعلامه لنا بأن معيته جل وعلا للمتقين يحميهم ويحرسهم، ويدافع عنهم، فقال: {واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}
المتقون الذي راقبوا الله في جميع حركاتهم وسكناتهم، ففعلوا ما أوجب الله عليهم، وتركوا ما نهى الله عنه. المتقون الذين أحلوا ما أحل الله وحرموا ما حرم الله، ولم يتلاعبوا بأحكام الله ودينه وشرعه، ولم يحتالوا على الناس في معاملتهم وبيعهم وشرائهم، ولم يغتصبوا ولم يخونوا ولم يخدعوا. المتقون الذين صبروا على نعم السراء، فشكروا الله عليها، وصبروا على الضراء فشكروا الله عليها. المتقون الذين خافوا من الجليل، واستعدوا ليوم الرحيل، ورضوا بالقليل، وعملوا بالتنزيل. المتقون الذي ذكر الله أوصافهم في أوائل سورة البقرة والمؤمنون وفي سورة آل عمران.

أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا منهم. اللهم! إنا نسألك الهدى والتقوى والعفاف والغنى. اللهم! إنا نسألك قلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وجسداً على البلاء صابراً. ونسألك قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وفي الآخرة جنة ونعيماً. اللهم! عاملنا بالحسنى واجمع لنا خير الآخرة والأولى. اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، واجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، وخذ الكفرة والمشركين، والملحدين والمبتدعين، وأصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين. اللهم! اجعلنا من عبادك المتقين الأبرار، واحشرنا في زمرة الصفوة الكرام الأخيار. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. وصلى الله وسلم على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.
 

المصدر: إمام المسجد
  • 0
  • 3
  • 7,233

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً