من تاريخ الإسلام في الولايات المتحدة

منذ 2013-10-08

تَاحَ للإسلام أن ينداح بسرعة وسهولة نسبية إلى شتى أنحاء العالم، حتى استقر فيها استقراراً راسخاً، وذلك فيما عدا استثناءات قليلة مثلتها الأندلس وبعض جزائر البحر الأبيض المتوسط.


مقدمة:

تَاحَ للإسلام أن ينداح بسرعة وسهولة نسبية إلى شتى أنحاء العالم، حتى استقر فيها استقراراً راسخاً، وذلك فيما عدا استثناءات قليلة مثلتها الأندلس وبعض جزائر البحر الأبيض المتوسط.

أما انتقال الإسلام إلى العالم الجديد فقد تأخر واكتنفته ولا تزال تكتنفه صعوبات أخَّرت عملية تغلغله وتأصله في تلك الأنحاء.

المستكشفون الأوائل:

ويلاحظ المستقرئ لتاريخ الهجرة الأولى التي جاءت بالمسلمين إلى القارة الأمريكية عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً؛ أنه قد صاحبتها ظروف لم يتمكن أولئك المهاجرون من تطويعها، بل تمكنت من تطويعهم وتذويبهم في المصهر الأمريكي حتى غدوا مواطنين أمريكيين بلا هوية أصلية يعتدون بها، والقلائل منهم ممن تهيأ لهم الاحتفاظ بشيء من معالم الهوية الأصلية، فإن حديثهم عنها لم يعد سـوى حديث الذكريات البعـيدة التي يحمـلها شتى المهاجرين المتأمركين عن أوطانهم الأولى.

وقد جاء المسلمون الأوائل إلى أمريكا مستكشفين لهذه الديار القصية عن العالم القديم، بيْد أنهم لم يأتوا في ظروف نهضة صناعية ولا أوضاع تفوّق علمي باهر، ولا جاؤوا بأعداد كبيرة بحيث تتم لهم الغلبة التامة والسيطرة على المحيط الذي انتهوا إليه.

وقد أكثرت الوثائق التاريخية من ذكر أخبار الأقوام الذين هبطوا العالم الجديد قبل كولومبوس، فتُحدِّثنا الوثائق الصينية القديمة التي تعرّضت للحديث عن مختلف الهجرات العالمية، مفصلة القول في هجرة بعض العرب المسلمين من أتباع دولة المرابطين المغربية التي دامت بين القرنين الحادي والثاني عشر الميلاديين، فتقول إن تلك الهجرة قطعت بحراً كبيراً خالياً من الجزر ومخرت أمواجه لأكثر من مائة يوم حتى انتهت إلى ما يعرف اليوم بأمريكا.

وتعرّضت الوثيقة للحديث عن حجم السفن التي امتطاها العرب القدامى، فذكرت أنها كانت أضخم عشرات المرات من السفن التي أتى بها المستكشف الإيطالي كريستوفر كولومبس[1].

وبقية ما جاء من تفاصيل في الوثيقة يتفق تماماً مع ما أورده المؤرخ الإسلامي الشريف الإدريسي عن رحلة عربية أخرى في كتابه: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، الذي نال شهرة ضافية في السنوات الأخيرة في أوساط بعض الباحثين والمؤرخين الغربيين.

والواضح في أمر هاتين الرحلتين أن أصحابهما رجعوا أدراجهم حتى بلغوا ديارهم، وحدّثوا أهاليهم أنهم قد التقوا في أمريكا أقواماً كانوا قد وصلوها قبلهم، وألفوهم يتحدثون مثلهم بلغة الضاد، وتولوا أمر الترجمة بينهم وبين السكان المحليين، وهنالك تفاصيل أخرى اهتم بسردها الإدريسي بخاصة لا تهمنا في هذا السياق[2].

ولم تتحدث أي وثيقة لاحقة عن مصير العرب الأوائل الذين استوطنوا أمريكا منذ القرن العاشر الميلادي فيما يثير الافتراضات المرجحة بأنهم ربما اندمجوا تدريجياً في السكان المحليين وفقدوا مقوماتهم وثقافاتهم الذاتية، أو ربما اندثروا بفعل الحروب الطاحنة التي كانت تدور بين المجموعات الإثنية بأمريكا في ذلك الأوان.

وفي أوائل القرن الرابع عشر الميلادي طرقت بعثة استكشافية إسلامية إفريقية أخرى شواطئ أمريكا، يقودها ملكٌ من مالي يسمى أبو بكر، كان غنياً غنى أسطورياً تحدث عنه ابن بطوطة -و- القلقشندي وابن فضل الله العمري.


وقد قرر ذلك الملك أن يسـتخدم تلك الثروة الهائلة فـيركب ثبج البحر ليكـتشف ما وراءه من الآفاق، وقد حكى العمري أنه سأل ابن أبي بكر عن سرِّ انتقال الملك إليه، فأفاده قائلاً: "إن الذي كان قبلي يظن أن البحر المحيط له غاية تدرك، فجهز مِئين سفن، وشحنها بالرجال والأزواد التي تكفيهم سنين، وأمر من فيها أن لا يرجعوا حتى يبلغوا نهايته أو تنفد أزوادهم، فغابوا مدة طويلة، ثم عاد منهم سفينة واحدة، وحضر مقدَّمها، فسأله عن أمرهم، فقال: سارت السفن زماناً طويلاً حتى عرض لها في البحر في وسط اللجة واد له جرية عظيمة، فابتلع تلك المراكب، وكنت آخر القوم، فرجعت بسفينتي، فلم يصدقه، فجهز ألفاً للرجال وألفاً للأزواد، واستخلفني وسافر بنفسه ليعلم حقيقة ذلك، فكان آخر العهد به وبمن معه"[3].

وقد حقق في تفاصيل ما جرى لهاتين البعثتين عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي المعاصر البروفيسور إيفان فان سيرتيما، فأكد أن الأولى تحطمت على التيار المائي الاستوائي الذي يجري داخل المحيط قرابة سواحل فلوريدا، ورجَّح بشواهد أثرية لقبور أشخاص سود ترجع إلى تلك الفترة بالتحديد وصول البعثة الثانية واستقرارها في نواحي فلوريدا والمكسيك واختلاطها بالهنود الحمر هناك[4].

وربما كان بقايا هؤلاء الرجال هم أولئك السود الذين التقاهم كريستوفر كولومبس وتحدث عنهم في مذكراته عن الرحلة الثالثة، ووصفهم بأنهم كانوا سود البشرة، ويحملون أسلحة مذهبة، وأنهم أغنياء بما لهم من متاع[5] وأدوات، وربما تمت إبادة هؤلاء السكان لاحقاً ضمن الأقوام والسكان المحليين الذين أجهز عليهم المهاجرون الأوروبيون الذين توافدوا على القارة الأمريكية إثر كولومبس. وربما كانت المساجد الأثرية التي اكتشفت في كل من نيفادا وتكساس والمكسيك من بقايا آثارهم.

وقد ذكر كولومبس في مذكراته بتاريخ الحادي عشر من أكتوبر 1492م، أنه ربما رأى مسجداً بمنارة طويلة قبالة الساحل الكوبي[6]، وكولومبس يعرف المساجد جيداً؛ لأنه أتى من الأندلس المسلمة في عام سقوطها في يد النصارى[7]، فإن كان ما رآه مسجداً بالفعل فلعله كان أيضاً من آثار أولئك الأفارقة المسلمين الذين هبطوا أمريكا قبله.

وأما غناهم الذي وصفه كولومبوس ووصفه من قبله ابن بطوطة والقلقشندي وآخرون، فمع أنه أوصلهم إلى حواشي العالم الجديد، إلا أنه ظل غنىً (شيئياً) -بلغة مالك بن نبي، رحمه الله- لم يغن عنهم شيئاً، إذ لم يتحول إلى مادة ثورة صـناعية تنتج ما يقابل ويكافئ السلاح الأوروبي الحديث الذي استخدم لاستئصال وجودهم من على التراب الأمريكي!

آثار الموريسكيين:

وفي ظروف التضييق على مسلمي الأندلس من قبل محاكم التفتيش النصرانية، فرت أعداد متكاثرة منهم إلى المغرب العربي، حيث استقروا هناك، بيد أن أعداداً وفيرة أخرى قطعت المحيط الأطلسي واستقرت في أمريكا.


وهؤلاء وُجدت آثار لغتهم العربية مختلطة -حتى اليوم!- بلغة الهنود الحمر، سكان أمريكا الأصليين، كما أكد ذلك بشكل قاطع أستاذ جامعة هارفارد الأسبق البروفيسور ليو واينر، الذي كان معروفاً بإجادته لعلم اللغات وإجادته لأكثر من 12 لغة عالمية.

وقد ذكر كولمبس -يُطَّرد في كتابة الاسم- أيضاً أنه رأى أقواماً يشبهون أهل الأندلس، واستغرب من انتشار الحجاب في أوساط نسائهم. وذكر مكتشف إسباني آخر هو هيرناندو كورتيز أن أولئك النسوة كن يرتدين البراقع التي كانت ترتديها نساء الأندلس. وذكر المكتشف الإسباني فيرناند كولومبس أنهن كن يرتدين ملابس تماثل ملابس نساء غرناطة، بينما كان أطفالهن يرتدون أيضاً أزياء أطفال غرناطة[8].

وبدهي أن أمثال أولئك المستضعفين الفارين بدينهم ودنياهم لا يرتجى لهم مستقبل آمن في ظل ما دهمهم بوصول حملات أعدائهم الإسبان إلى الدنيا الجديدة، فقد استؤصل وجودهم بعد ذلك بوقت قليل، وقد تم ذلك قبل أن يتم استئصال أصدقائهم الذين أَنِسُوا بهم في الغربة من الهنود الحمر. فمن أولئك الأندلسيين المعذبين من استتيب وقبل اعتناق النصرانية على مستوى الظاهر على الأقل، ومنهم من أُعدم حرقاً بالنار، ومنهم من أعيد إلى إسبانيا ليحاكم هناك أمام محاكم التفتيش. فقد كان المطلوب كما تقول الوثائق: "ألا يوجد أي مجال لنشر الدين المحمدي"[9] عن طريقهم في أمريكا.

وكما يقول لوي كاردياك فإن: "ديوان التحقيق لم يفتش فقط عن القضايا المتعلقة بالمسلمين، بل ما وراء كل أثر إسلامي لدى الفرد المسيحي" في العالم الجديد[10]. فكان المقصود في الجملة منع تأثير المسلمين في عقائد النصارى الأمريكيين ولو من بعيد.

استرقاق الأفارقة المسلمين:

وبعد استقرار أوضاع المهاجرين الأوروبيين على نحو ما في أمريكا، اجتلبوا عن طريق تجارة الرقيق ملايين السود الإفريقيين إلى هناك، ثم واصلوا مهمة اقتلاع الإسلام ولغته العربية من أوساط أولئك المسترقين، فقد كان أكثر من نصف أولئك الأرقاء الأفارقة مسلمين انتزعوا من ممالك غرب إفريقيا التي كانت حواضر عامرة في ذلك الحين.


وقد صمد أكثر أفراد الجيل الأول من المسترقين على دينهم، إلا أن أهوال الرق وأحكامه المذلة المهينة التي بعثرت أسرهم وبددت وحداتهم الصغيرة بدأت تزعزع انتماء الأجيال اللاحقة منهم إلى دين الإسلام، وذلك إلى أن اندثر انتماؤهم إليه نهائياً مع مطالع القرن العشرين!

وقد حفظت لنا وثائق قليلة سيراً ذاتية مثيرة كتبت باللغة العربية لأفراد من الجيل الإفريقي المسلم الأول الذي اجتلب إلى أمريكا وحافظ على إيمانه[11]، كما حفظت لنا وثائق أخرى قصص تحول ذراريهم عن دين الإسلام.. وتحفظ سجلات أسماء السود الأمريكيين الحاليين -وغالبيتهم من غير المسلمين- أسماء عربية كثيرة في أوساطهم تشير إلى أصولهم الإسلامية العربية القديمة المندثرة.

الهجرات العربية الأولى:

وفي نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين جاءت الهجرات العربية الأولى من سورية القديمة -تعادل لبنان وفلسطين وسورية والأردن في الجغرافيا الحالية- بأفواج كبيرة من الفارين من القهر السياسي التركي والراغبين في تحسين أوضاعهم المعيشية، وكانت غالبية أولئك المهاجرين من أشباه الأميين وأنصاف المتعلمين، وانخرط معظمهم في الأعمال الهامشية والتجارة بالمفرق، وتزوج الكثير منهم بالأمريكيات وأنجبوا منهن جيلاً هشاً واهناً لم يتزود بالمقومات الثقافية العربية الإسلامية التي تكفي لصموده في بوتقة الإذابة الثقافية الأمريكية، وكان نفوذ الأمهات أكبر من نفوذ الآباء على ذلك الجيل، فلم يكتب لأكثره أن يحافظ على تراث الآباء.

وتذكر بعض الأدبيات التي تناولت بالتحـليل أحوال ذلك الجيل، أن معـظم أفراده لم يهتموا بشيء يذكر من الشعائر الدينية، ولو على سبيل المحافظة التقليدية على المظاهر والأعراف؛ ولما اتخذ بعض المحللين الاجتماعيين والأنثروبولوجيين من أداء صلاة الجمعة وصوم رمضان معيارين لأدنى درجة من درجات الالتزام الديني، كانت حصيلة ذلك الجيل منها ضعيفة للغاية، وبذلك ترشحوا بجدارة لقدر الذوبان[12].

ويذكر بعض من درسوا تلك المرحلة أن أبناء المسلمين فقدوا بسرعة ملكة التحدث باللغة العربية، واتخذوا أسماءً نصرانية اتقاء لمشاعر التمييز، وتزوجوا من غير المسلمات، وبخروج أولئك الأبناء عن نطاق أسرهم نسوا كل ما يتعلق بالعروبة أو الإسلام، وكانت المحصلة أن هُجرت المساجد القليلة التي بناها جيل الآباء، بحيث لم تجد من يغشاها في أواخر الأربعينيات.

ويذكر البروفيسور نبيل إبراهام الذي عاش منذ طفولته بديترويت، أن مساجد تلك الناحية أضحت أماكن للتسلية واللهو والتصدية، حيث استغلت ساحات المسجد الواسعة لتلك الأغراض[13].

وقد تاحَ لكاتب هذه السطور في عام 1989م أن يزور مسجدين قديمين بالشمال الأمريكي بيع أحدهما وتحول جزء منه إلى صالة رقص، وآخر خصصت إحدى قاعاته للرقص المختلط. وقد تمكن المسلمون بحمد الله من تطهير المسجد الثاني، واستخلاصه للصلاة، وتبقى عليهم أن يستعيدوا المسجد الأول عن طريق الشراء بعد أن باعه أحفاد المهاجرين الألبان تخلصاً منه بعد أن هجروا فرض الصلاة واتبعوا الشهوات.

هذا وقد استغلت جهات التنصير الأوضاع اللاهية بالمساجد، كما يذكر بعض من تابعوا تاريخ تلك الفترة، فدخلوها من أجل أن ينصروا المسلمين من داخلها، فكانت تلك ذروة المأساة أن يلاحق المسلمون في مساجدهم، وأن يُذوَّبوا من هناك في المصهر الأمريكي[14].

أمة الإسلام الضائعة في أمريكا:

وفي الأوان الذي شهد تساقط المسلمين المهاجرين وذوبانهم، كانت تنشأ في أمريكا حركات إسلامية داخلية وسط الأقلية السوداء التي خرجت لتوها من ربقة الرق، وتأسست عدة حركات لنشر الإسلام وسطهم، من أهمها: حركة المسلمين الموريسكيين التي تأسست بنواحي نيو آرك في عام 1913م، وقد تزعمها نوبل ودرو "درو" علي الذي قام بترجمة القرآن ترجمة زائفة أفسدت مراميه ومعانيه[15]. ثم أفسد رسالته بادعائه النبوة زاعماً أنه رسول الله إلى السود مثلما كان محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى البيض!

ولم تخل الحركات الإسـلامية وسط السـود من مثل هذا التخليط، لا سيما الحركة التي حملت أسماء متعددة، أهمها: أمة الإسلام الضائعة، وقد تزعمها أليجا محمد في ديترويت، وقد تأسست في 1934م في رد فعل عنصري واضح يقول بتفوق الجنس الأسود على الأبيض، ويقصر اعتناق الرسالة الإسلامية عليه، حيث لا يجوز للبيض اعتناق الإسلام، ولا دخول معابد تلك النحلة العجيبة التي نزعت فيما بعد نحو العنف والتمرد وإنشاء مجتمع منعزل عن المجتمع الأمريكي الأبيض، وشوَّشت بتلك النـزعات الوخيمة على مضامين الرسالة الإسلامية ومستقبل الدعوة إليها، حيث بدا لكثير من الأمريكيين أن الإسلام دين عنصري خاص بالجنس الأسود.

ولم يقصِّر بعض غلاة قادة الحركة الإسلامية التي تدعى بالسوداء في مجهود تنفير البيض من الإسلام عندما أعلنوا أن إسلام البيض غير مقبول؛ لأنهم جنس ملعون عوقب ببياض اللون ومسخ خلقه بعد أن كان أسود سوياً يوم الخلق.



وحاول بعض الدعاة المسلمين الجسورين في صفوف البيض أن يتجاوزوا تلك العقبات من غير كثير توفيق، وأولهم هو الداعية محمد الكسندر رسل ويب، (1847- 1916)م، ذلك الرائد لم تدرس إسهاماته التاريخية حتى الآن.

ولد في نيويورك في عام 1847م لأب كان يعمل بنشر الصحف، ولما كان الوالد غنياً مقتدراً فقد بعث بابنه إلى المدارس ذات المستوى التعليمي والتثقيفي الراقي، وفيها طور الابن حسَّاً أدبياً واستولى عليه غرام القراءة والكتابة البحثية والفكرية والأدبية، ونشر عدداً وفيراً من المقالات والأبحاث والقصص القصيرة، وورث مهنة أبيه في نشر الصحف، وزاد عليها بشرائه صحيفة The Missouri Republican، وهي إحدى كبريات الصحف الأمريكية في ذلك الأوان، وظل يصدرها لمدة ثلاث سنوات، ورأس تحرير عدة صحف بعد ذلك في كل من سانت لويس وشيكاغو.

وفي عام 1886م عينه الرئيس الأمريكي كليفلاند قنصلاً بالبعثة الدبلوماسية الأمريكية بالفلبين، ولم يستغرقه العمل الدبلوماسي، إذ طغى عقله الفياض فشمل بتأملاته الأديان الشرقية التي تعرَّف عليها هناك، وانفعل بعقائد الدين الإسلامي، فخصَّها بمزيد من الدرس، وقرر أن يعتنق الإسلام، ولم يَرُدَّه عن ذلك لا منصبه الدبلوماسي الراقي ولا وَهْلَة قومه البيض واستغرابهم لما اعتراه، وخطا خطوة أخرى باتخاذه قراراً بالاستقالة من العمل الدبلوماسي ليتفرغ بالكلية لنشر العقائد الإسلامية في الولايات المتحدة.

وقد تزود لتلك المهمة بزاد فكري وعلمي واسع، وعقد حلقة اتصالات شملت مفكرين إسلاميين هنوداً مثل الشيخ بدر الدين عبد الله خير، ودعاة من الجزيرة العربية مثل الشيخ الحاج عبد الله عرب وهو تاجر من المدينة المنورة تبرع بثلث ثروته لصالح مشروع نشر الإسلام في أمريكا، وأنشأ محمد عقب رجوعه إلى بلاده منظمة خيرية دعوية سماها: The American IslamicPropaganda، وألف كتاباً لطيفاً من نحو سبعين صفحة أسماه: Islam in America 16 كرّسه بكامله لتعريف الأمريكيين بالإسلام ودحض الشبهات المنتشرة بينهم عن عقائد الإسلام وشرائعه.

ورغم قوة العارضة الفكرية لرسل، واقتداره الصحفي العالي، وكثرة أمواله، ومكانته الملحوظة في طبقات المجتمع الأمريكي؛ فقد كان حظ دعوته من النجاح ضئيلاً، ولم يتمـكن من تأسيس حركة إسلامية يعتد بها، ولا بناء مساجد أو مؤسسات تعليمية ثابتة، ولم يخلف أنصاراً أقوياء يحملون دعوته من بعده، وكل ما بقي من آثاره هو كتابه ذو القيمة التاريخية والأثر الريادي لتلك المحاولة الجسورة لاقتحام البيض مجال الدعوة الإسلامية.

مؤشرات التأسيس والتوطين:

وظل حظ الدعوات الإسلامية بكافة أطيافها من النجاح بسيطاً في المعترك الأمريكي إلى ستينيات القرن الماضي، حيث بدأ نمط الهجرات الإسلامية يأخذ في التحول الإيجابي، فأصبح الغالب على المهاجرين أنهم من أصحاب التعليم الأفضل، حتى بالمقارنة مع المستوى الأمريكي العام، ونال الكثيرون منهم مراكز مهنية وعملية مرموقة، وتمتعوا بمستويات اقتصادية ممتازة. وقد كانت تلك هي الحقبة التي انبثق وتعالى فيها نور الصحوة الإسلامية في المشرق، فحمله أخيار المهاجرين معهم إلى المغرب.

وعلى أيدي هؤلاء بدأت مجهودات تأسيس وتوطين العمل الإسلامي بالمهجر، حيث ترسخ وجوده بعد مجاهدات كثيرة بمنظمات قوية مثل اتحاد الطلاب المسلمين The Muslim students Association of The United States & Canada، والحلقة الإسلامية لشمال أمريكا The Islamic Circle of North America، واتحاد العلماء الاجتماعيين المسلمين The AmericanMuslim Social Scientists، واتحاد الأطباء المسلمين The Islamic Medical Association، ونشأت المدارس الإسلامية ذات الدوام الكامل من صف الحضانة إلى صفوف الدكتوراه.

وتوجد بأنحاء الولايات المتحدة الأمريكية اليوم نحو ثلاثمائة مدرسة إسلامية للتعليم العام، وعدة مؤسسات للدراسات الجامعية، منها: الجامعة الأمريكية المفتوحة، والجامعة الإسلامية العالمية، وجامعة الإنترنت، والجامعة الإسلامية بشيكاغو، ومدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية والإسلامية، كما أنشئت بعض المراكز البحثية المتقدمة المتخصصة في الفكر الإسلامي، أهمها: المعهد العالمي للفكر الإسلامي بفرجينيا.

وتضاعف عدد المساجد والمراكز الإسلامية، حيث بلغ نحواً من ألفي مسجد ومركز إسلامي.

ــــــــــ


المراجع:

[1] راجع تفاصيل ما جاء في الوثائق الجغرافية الصينية القديمة التي يرجع تاريخها إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين في ترجمتها إلى الإنجليزية بقلم:

W. W. Rockhill & Friedrich Hirth, "Chau Ju-Kua: His Work on The Chinese and Arab Trade in The Twelfth and Thirteen Centuries" ,entitled: Chu – Fan Chi (St. Petersburg,1911).

[2] الشريف الإدريسي، صفة المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس، مأخوذة من كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، طبع في مدينة لبيدن "ليدن" المحروسة، بمطبع بريل، 1998م، ص: [183-185]).

[3] أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، (القاهرة: دار الكتب الخديوية، 1915م)؛ [5/ 294-295]).

[4] ,1976 house Ivan Van Sertima They Came before Columbus: The African Presence in Ancient America Random.

وراجع كذلك الكتاب التحقيقي القيم بعنوان: Michael Bradley, The Black Discovery of America: Amazing Evidence of Daring Voyages byAncient West African Mariners, Personal Library, Toronto, Canada, 1981, P.P. 4-18.

[5] Samuel E. Morison, Journals and Other Documents on the Life and Voyages of Christopher Columbus, Heritage Press, New York1963 P 237.

[6] The Journal of Christopher Columbus, Translated By Cecil Jane ,Clarkson N. Potter, New York 1969 P. 41-42.

[7] وكان كولومبوس في الحقيقة طليعة حملة صليبية جديدة نوعية الطابع رنت إلى الوصول إلى القدس عن طريق الهند، فوصلت من حيث لم تتوقع إلى ما يعرف بأمريكا اليوم! راجع في تفاصيل ذلك: Rafael A. Guevara Bazan , Some notes For History Of ذلك Relations Between LatinAmerica, The Arabs And Islam> "The Muslem World" October, 1971, P. 286-287.

[8] Youssef Mrouch, Pre – Columbian Muslims in America, "The Message" July, 1997. P. 1 9.

[9] جاء هذا النص في خطاب رسمي أرسله المسؤولون الإسبان إلى أحد ولاتهم بأمريكا، وقد ضمه الكتاب التوثيقي القيم: "الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون: المجابهة الجدلية (1492-1640م)"، مع ملحق بدراسة عن الموريسكيين بأمريكا، من تأليف لوي كاردياك، ترجمة عبد الجليل التميمي (تونس- زغوان: نشر مركز الدراسات والبحوث العثمانية والموريسكية، 1989م ص: [152]).

[10] (المصدر السابق، ص: [155]).

[11] يمكن مراجعة نماذج من السير الذاتية للرقيق الإسلامي في أمريكا في عدة كتب صدرت خلال العقدين الأخيرين، أهمها وأوسعها:

Austin Allan D. African Muslims in Antebellum America: A Sourcebook, Garland Publishing, New York, 1984.

[12] Sameer Abraham & nabeel Abraham, Eds Arabs in The New World: Studies on Arab American Communities Wayne State University, Detroit, 1981 P. 114.

[13] Nabeel Abraham & Andrew Shryoch, Eds. Arab Detroit: From Margin to Mainstream, Wayne state University Press ,Detroit, 2000,P. 296.

[14] El- Kholy, M. M. The Arab Moslims in the United States of America: Religion and Assimilation. College University. College University, New Haven, Conn 1966, p.296.

[15] عنوان تلك الترجمة هو: The Holy Koran of the Moorish Science Temple of America. والغريب أن بعض الدارسين يستخدمها على أنها ترجمة صحيحة للقرآن الكريم!

[16] Mohammed Alexander Russell Webb, Islam in America: A Brief Statement of Islam and Outline of American Islamic Propaganda, Edit. by Muhammed Abdullah al-Ahari Bektashi Magribine Press of Chicago.



محمد وقيع الله
 

المصدر: مجلة البيان العدد: [315]؛ ذو القعدة 1434هـ، سبتمبر – أكتوبر 2013م.
  • 3
  • 1
  • 17,147

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً