ومضى شارون السفاح
بدأ جنرالاً وسفاحاً ويمينياً متشدداً مدافعاً عن أيّ وكلّ استيطان في فلسطين المحتلة .. إنه شارون، الجثة الثقيلة التي لم يكن من اليسير أن تنفلت من ذلك الإرث الدموي الثقيل لمجازر صبرا وشاتيلا، والصقر الذي حطّ علي منصة الكنيست في إهاب رئيس الوزراء بعد نحو عقدين من تلك التوصية الشهيرة التي قضت بحرمانه من شغل وظيفة وزير الدفاع .. إنه شارون الذي كان يلقّب بـ (البلدوزر)، وينبغي بعد ترأسه للوزارة الإسرائيلية أن يسير مثل غزال كما نصحته صحيفة نيويوك تايمز!
بسم الله الرحمن الرحيم
بدأ جنرالاً وسفاحاً ويمينياً متشدداً مدافعاً عن أيّ وكلّ استيطان في فلسطين المحتلة .. إنه شارون، الجثة الثقيلة التي لم يكن من اليسير أن تنفلت من ذلك الإرث الدموي الثقيل لمجازر صبرا وشاتيلا، والصقر الذي حطّ علي منصة الكنيست في إهاب رئيس الوزراء بعد نحو عقدين من تلك التوصية الشهيرة التي قضت بحرمانه من شغل وظيفة وزير الدفاع .. إنه شارون الذي كان يلقّب بـ (البلدوزر)، وينبغي بعد ترأسه للوزارة الإسرائيلية أن يسير مثل غزال كما نصحته صحيفة نيويوك تايمز!
ولد أريئيل صموئيل موردخاي شرايبر في مستعمرة كفار ملال في فلسطين عام 1928م لأسرة بولندية هاجرت إلى القوقاز، حيث عمل والده في الزراعة هناك لبعض الوقت، وطوال فترة بقائه في القوقاز لم ينقطع يوماً عن الحديث إلى زوجته وأولاده عن حلم العودة إلى ما يسميه أرض الميعاد، ولم يطل المقام به في القوقاز فقرر الهجرة إلى فلسطين، وفي مستعمرة كفار ملال كانت ولادة الابن أريئيل الذي اشتهر فيما بعد باسم (شارون) أو (إريك) كما يناديه أنصاره.
كان والده يؤمن بأهمية الزراعة بالنسبة للأجيال اليهودية المهاجرة إلى فلسطين، فوجه ولده شارون إلى دراسة الزراعة، وعمل بالفعل في مزارع (الموشاف) لكن بعد فترة فضل شارون دراسة التاريخ والقانون بدلاً منها، فالتحق بالجامعة العبرية بالقدس، ثم أكمل تعليمه الجامعي في كلية الحقوق في تل أبيب.
في سن الرابعة عشرة انضم شارون لمنظمة (الهاجانا) اليهودية المحظورة التي سبقت تأسيس جيش الاحتلال الإسرائيلي. وقاد وحدة من المشاة في حرب 1948م وقام خلال الخمسينيات بقيادة عدة عمليات عسكرية إسرائيلية ضد وحدات عسكرية مصرية وأردنية. فلقد فوجئ قادة الجيش الإسرائيلي بطلب من شارون يطلب فيه السماح له بتكوين سرية عسكرية من اليهود الذين يمضون أحكاماً طويلة في السجون الإسرائيلية، والمدهش أن قيادة الجيش وافقت على طلبه بعد أن اقتنعت بوجهة نظره، فكون تلك الفرقة عام 1952م وأطلق عليها (القوة 101).
كانت العملية الأولى التي قامت بها القوة 101 بقيادة شارون في قرية قبية الفلسطينية الحدودية التي كانت تعيش حالة من الأمان بسبب بعدها الجغرافي عن بؤر التوتر في الأرض المحتلة، لكنها لم تدر أن القوة 101 قد تخصصت في ترويع هذا النوع من القرى البعيدة حتى لا تفكر مطلقاً في العودة.
طوق المجرمون والمحكوم عليهم في جرائم قتل القرية، وأمطروها ليلاً بوابل من نيران المدفعية، فانهارت المنازل الفقيرة على رؤوس ساكنيها، وأسرعت القوة بعد ذلك في قتل كل من بقي حياً بعد القصف المدفعي، وكانت الحصيلة التي أعلن عنها حينذاك هي هدم 41 منزلاً وقتل 69 فلسطينياً، أكثرهم من النساء والأطفال.
بعد ذلك توزع جهد شارون بين القوة 101 التي كانت لها مهام خاصة مختلفة عن مهام الجيش الإسرائيلي المنظم، وبين قيادته للواء الإسرائيلي المدرع في جبهة سيناء الذي عين قائداً له قبل حرب 1956م (العدوان الثلاثي على مصر)، وفي معركة العدوان الثلاثي الغاشم ارتكب شارون أخطاء عسكرية عندما خالف أوامر القيادة وتقدم نحو ممرات (متلا) واشتبك مع الجيش المصري في معركة شرسة انتهت باندحار اليهود الذين خلفوا وراءهم 40 قتيلًا ومئات الجرحى، ويومها أخضع شارون للتحقيق، واتهمه بعض الذين عملوا تحت قيادته بأنه أساء القيادة والتصرف، وبأنه كان جبانًا أيضًا. وقررت قيادة جيش العدو آنذاك تجميد تقدمه في الرتب العسكرية.
سافر شارون عقب العدوان الثلاثي إلى فرنسا -أحد الدول التي اشتركت في العدوان إضافة إلى إنجلترا وإسرائيل- لدراسة العلوم العسكرية، وحصل منها على شهادة جامعية، أهلته لتولى مناصب عسكرية رفيعة في الجيش الإسرائيلي، فكان قائداً للواء مدرع في الفترة من 1956-1964م، ثم رئيساً لهيئة أركان المنطقة الشمالية في الفترة من 1964-1969م، ثم رائداً للمنطقة الجنوبية من 1969-1973م، وقد عاد للممارسة هوايته في ترويع السكان الآمنين فقام خلال فترة تعيينه قائداً للمنطقة الجنوبية بإجلاء المئات من بدو رفح.
أما في حرب 1973 أصبح شارون بطلاً يهودياً قومياً حينما استطاع بمساعدة صور أقمار التجسس الصناعية الأمريكية فتح ثغرة في الدفاعات المصرية عقب انهيار خط بارليف الحصين، وأثار شارون ما سمي (حرب الجنرالات) عندما ادعى لنفسه إنجاز الثغرة عند الدفرسوار، وهاجم زملاءه وعرض حياة جنوده لأخطار لا داعي لها، بينما بقي هو في الخلف، حسب ما يتردد. فقد تبين أنه فعل ذلك من أجل إبراز شخصيته، ولم يتورع عن (خيانة) الجنود الصهاينة الذين كانوا يقاتلون تحت إمرة الجنرال (ادان) في الجبهة نفسها، ورفض تقديم العون الذي كانوا بأمس الحاجة إليه، وكل ذلك بهدف تحقيق المكاسب الشخصية المدعمة لطموحاته القيصرية.
بعد الحرب قدم شارون استقالته من الجيش ليبدأ معركة من نوع آخر في عالم الحكم والسياسة. حيث نجح في الفوز في أول انتخابات برلمانية يشترك فيها، فأصبح عضواً في الكنيست عن حزب الليكود اليميني المتشدد، وقد اختاره رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك (اسحق رابين) مستشاراً عسكرياً له عام 1975م، وكلفه بمهمة مكافحة الإرهاب!
وفي انتخابات نيابية أخرى عام 1977م استطاع شارون أن يفوز على رأس قائمة مستقلة به هو شخصياً بعيداً عن حزب الليكود، فاختاره (مناحيم بيجن) وزيراً للزراعة والاستيطان في وزارته الأولى. وقتها تذكر شارون ما كان يحكيه أبوه قديماً حينما هاجر إلى فلسطين واختار العيش في أحد المستوطنات ليمارس الزراعة، ووجه ولده لدراستها في بادئ الأمر، وتذكر وصيته بأهمية زراعة المستوطنات، فنشط في زيادة الرقعة الزراعية الإسرائيلية وزيادة أعداد المستوطنات على حساب الأراضي الفلسطينية المصادرة. حيث عمد إلى زيادة عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية وقطاع غزة أربعة أضعاف ما كانوا عليه قبل ذلك.
كما قاد شارون عام 1982م الاجتياح الإسرائيلي للبنان وكان وقتها وزيرًا للدفاع، وتعامل بعنف مع المقاومة الفلسطينية التي كانت تتخذ من بيروت الغربية مقراً لها، وأجبرها بعد حصار طويل على الخروج إلى تونس. وأثناء الوجود الإسرائيلي في لبنان وقعت مجزرة (صبرا وشاتيلا) التي راح ضحيتها قرابة ألفي لاجئ فلسطيني، وحمَّلت لجنة تحقيق إسرائيلية مستقلة شارون المسؤولية. وزيادة على هذه المسؤولية فقد اتهم شارون بنشر أكاذيب عن هذه الحرب، وعن العملية العسكرية التي ستنتهي خلال يوم أو يومين حسب زعمه لكنها امتدت لتشمل قصف بيروت واقتحامها، وأدت في نهاية المطاف إلى غرق قوات الاجتياح في المستنقع اللبناني، قبل أن تدحرها المقاومة في الجنوب بشكل كامل في عام 2000م.
وعلى خلفية تقرير لجنة (كاهان) الإسرائيلية الصادر في العام 1983م، والخاص بالتحقيق في مذبحة صبرا وشاتيلا، اضطر شارون لمغادرة موقعه الوزاري بعد تأكيد تورطه في المجازر.
ثم انتخب شارون رئيسًا للوزراء بعد هزيمة منافسه (إيهود باراك) في الانتخابات التي جرت في فبراير عام 2001م، وكان العامل الأساسي وراء اختيار الناخب الإسرائيلي له هو رغبته في إعادة الأمن الذي افتقده تحت وطأة العمليات الاستشهادية التي ينفذها أفراد تابعون لمختلف فصائل المقاومة الفلسطينية. وقد تعامل شارون مع انتفاضة الأقصى بعنف أسفر عن مقتل ما يزيد على ألف فلسطيني وجرح أكثر من ثلاثين ألفا آخرين.
ويعتبر شارون واحدًا من أشد القادة العسكريين والإسرائيليين تشددًا، فهو يرفض تقسيم القدس ويصر على أنها ستبقى العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل، ويرفض كذلك مبدأ حق العودة للفلسطينيين اللاجئين، أو المساس بأي من المستوطنات الموجودة، ويسعى إلى تهويد الأراضي العربية بإقامة المزيد من المستوطنات عليها.
ومن أقواله المأثورة: "جميعنا يجب أن يتحرّك، أن يركض، يجب أن نستولي على مزيد من التلال، يجب أن نوسّع بقعة الأرض التي نعيش عليها. فكل ما بين أيدينا لنا، وما ليس بأيدينا يصبح لهم".
ويقول أيضًا: "أتعهد بأن أحرق كل طفل فلسطيني يولد في هذه المنطقة، فالأطفال والنساء الفلسطينيون أكثر خطورة من الرجال؛ لأن وجودهم يعني استمرار أجيال قادمة من الفلسطينيين".
هذا ما قاله شارون في لقائه مع الجنرال (أوز ميرهرام) عام 1956م، وتنقل صحيفة (فلسطين كرونيكل) الفلسطينية الصادرة بالإنجليزية، في عددها الصادر على الإنترنت الاثنين 1-4-2002م، بقية حوار شارون الذي قال فيه: "أتعهد بأني حتى لو فقدت كل المناصب وأصبحت مواطنًا إسرائيليًا عاديًا، فإنني سأحرق كل فلسطيني أقابله في الطريق، وسأجعله يتعذب قبل أن يموت"، ويضيف: "أنا لا تهمني الأعراف الدولية، فقد قتلت بضربة واحدة أكثر من 750 في رفح عام 1956م، وأريد أن أشجع جنودي على اغتصاب الفتيات الفلسطينيات؛ لأنهن عبيد للإسرائيليين، ولا يملي أحد علينا إرادتنا، بل نحن من يصدر الأوامر، وعلى الآخرين الطاعة".
لم يكن شارون يفكر يومًا أنه ربما سيواجه تلك اللحظة .. فالعجز والمرض أو فكرة الموت بشكل عام لم تشغل حيزاً في عقله، وهذا بحسب ما أكده المقربون منه، فكان دائم التصرف على أنه سيعيش ويعيش ويعيش، والدليل أنه رغم قربه من الثمانين لم يتردد في تأسيس حزبه الجديد (كاديما) حتى آمن أغلب من حوله بأنه سيعيش إلى الأبد، لكن (البلدوزر) شارون كان على موعد مع السقوط، وعند ذلك فقط أدرك أنه كما أن لكل شيء نهاية فإنه هو نفسه له نهاية!!
- التصنيف: