من قاموس مفردات الدعوة (العظة)

منذ 2013-10-22

ما أحوج الإنسان إلى من يخاطب عقله ووجدانه، أو قلبه ونفسه، ليكون سهل العريكة، لين الجانب. وما أشد حاجة الداعي إلى فقه النفس الذي به يخاطب الآخرين، والإسلام جاء بأسلوب تربوي متكامل، يأخذ بكل أسباب التأثير ووسائله مما لا يتعارض مع محكمات الشرائع والعقول. ولعل الموعظة من أهم الوسائل التربوية وأساليبها المشروعة والمرغب فيها في الإسلام. فما مفهومها؟ وما منزلتها في القرآن العظيم وسنة النبي الكريم؟ ولدى رجال العلم والبيان والأدب؟

 

ما أحوج الإنسان إلى من يخاطب عقله ووجدانه، أو قلبه ونفسه، ليكون سهل العريكة، لين الجانب. وما أشد حاجة الداعي إلى فقه النفس الذي به يخاطب الآخرين، والإسلام جاء بأسلوب تربوي متكامل، يأخذ بكل أسباب التأثير ووسائله مما لا يتعارض مع محكمات الشرائع والعقول. ولعل الموعظة من أهم الوسائل التربوية وأساليبها المشروعة والمرغب فيها في الإسلام. فما مفهومها؟ وما منزلتها في القرآن العظيم وسنة النبي الكريم؟ ولدى رجال العلم والبيان والأدب؟

مفهوم الموعظة:
الموعظة اسم من وعظ يعظ وعظاً وعِظَة: التخويف والإنذار هذا رأي ابن فارس. وقال الخليل: هو التذكير في الخير بما يرقق القلب. وقال في الصحاح: الوعظ: النصح والتذكير بالعواقب. والهاء في لفظة: العظة عوض عن الواو المحذوفة، إذ الأصل وعظ [1].

ذلك عن المفهوم اللغوي. فإذا ما بحثنا عن المفهوم الشرعي أو الاصطلاحي، فإننا نجد المطابقة للمفهوم اللغوي، حيث لا اختلاف بينهما [2].

مادة العظة في القرآن الكريم:
جاءت مادة (وعظ) خمسًا وعشرين مرة في القرآن. فقد وردت بالفعل الماضي، كقوله تعالى: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء: 136].
ووردت بالفعل المضارع، كقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231].
ووردت بفعل الأمر، كقوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} [النساء: 63].
ووردت باسم الفاعل، كما في الآية السابقة: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء: 136].
كما وردت بالمضارع المبني للمجهول، كقوله تعالى: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} [الطلاق: 2].
وأخيرًا وردت بالمصدر، كقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125].
وجملة تقاصد هذه المادة هنا لا تخرج عن المعاني اللغوية المشار إليها آنفًا.

مادة العظة في السنة النبوية:
وردت مادة (وعظ) في السنة عشرات المرات. سواء أكان ذلك في حديثه وكلمه، كما في قوله: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإن في زيارتها عظة وعبرة» [3] وورودها هنا قليل. أم كان ذلك في فعله والحكاية عنه، كما في حديث أبي سعيد الخدري قالت النساء للنبي: "غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يومًا من نفسك فوعدهن يومًا لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن..." [4]؛ الحديث.. وقد وردت المادة هنا كثيرًا.
كما وردت كثيراً عن السلف. كقول ابن مسعود رضي الله عنه "الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره" [5]. وقول ابن عباس: "كفى بالشيب واعظًا" [6].

مادة العظة في لسان العرب:
وردت هذه المادة على لسان العرب كثيرًا ولا سيما في أمثالهم كقول أكثم بن صيفي: لم يضع من مالك ما وعظك [7]. ومن أمثال المولدين: ما وعظ امرأ كتجاربه[8]. ذلك من حيث ورود المادة ذاتها. أما من حيث مضمونها ومقصودها فإننا نجد المواعظ متناثرة بين آي القرآن العظيم وفي السنة وفي كلام السلف وخطبهم.

لمحة عن العظة في القرآن والسنة والآثار:
أما القرآن الكريم فالموعظة هي من أعظم مقاصد أحكامه وقصصه وأمثاله فعندما تأتي الأوامر والنواهي الإلهية نجد الإشارة إلى العظة والتذكير كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
وفي سورة آل عمران يقول الله عز وجل بعد أن أشار إلى تحريم الربا وأكله ووجوب طاعة الله ورسوله، والمسارعة إلى مغفرة الله، وذلك بفعل الأوامر واجتناب النواهي، يقول الله بعد ذلك كله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138].
وفي أول سورة الطلاق يبين الله تعالى كيفية الطلاق ووقته، وكيف تعامل المرأة المطلقة، ثم يقول سبحانه: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} [الطلاق: 2].

وعندما نأتي القصة في القرآن، نلحظ أنها كثيرًا تختم بالإشارة إلى غايتها وهدفها وهو العظة والعبرة. فمثلاً حينما جاءت الإشارة إلى أصحاب السبت من بني إسرائيل وما عوقبوا به، وذلك في قول الحق تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]. قال الله بعد ذلك: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66].

وفي خاتمة سورة يوسف التي احتوت تفصيل قصته، جاءت الإشارة الموجزة إلى الأنبياء ونهاية مواقفهم مع أقوامهم، ثم قال الحق سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111]. والعبرة: هي كما يقول ابن منظور: كالموعظة مما يتعظ به الإنسان ويعمل به ويعتبر ليستدل به على غيره [9].

أما في مقام الحوارات والجدل في القرآن فللموعظة مكان فسيح ومقام رفيع بصفتها أحد أساليب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. ويقول: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. ويقول: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} [سبأ: 46].

وفي قصة نوح مع ابنه الذي رفض الركوب في السفينة وأصر على الاعتزال ينادي نوح عليه الصلاة والسلام ربه مناجيًا وداعيًا أن ينقذ ابنه وألا يكون مع الهالكين. بيد أن الله تعالى وله الحكمة البالغة وبيده الهدى والضلال ينصح نوحًا بأن يكف عن ذلك وألا يتمادى في سؤال ما ليس له به علم ثم يقول سبحانه: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46].

وقصارى القول أن العظة في القرآن الكريم ذات منزلة واسعة وتكاد تبسط أجنحتها في كل سورة بل في كل آية. ولذا يقول الحق سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]. قال عبد الحق ابن عطية عند تفسير هذه الآية: "هذه آية خوطب بها جميع العالم، والموعظة: القرآن، لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف ويزجر ويرقق ويوعد ويعد، وهذه صفة الكتاب العزيز" [10]. بل ما أكثر ما يرد الأمر بالتقوى وهي موعظة وأي موعظة!!

تلك لمحة عن العظة في القرآن العزيز. فإذا انتقلنا إلى السنة الشريفة أو السيرة العطرة فإننا نجد معالم العظة ظاهرة جلية في معظم الأحاديث. لكن منها ما تأتي العظة فيها بطريق الإشارة. كقوله: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» [11]، ولعلك تلمح العظات في كل جملة من الحديث، وبالأخص آخرها. وربما كان حديثه أو خطبته كلها موعظة، كما قال العرباض بن سارية رضي الله عنه: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد...» الحديث [12].

ونظراً لتنوع الأحاديث والسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ومعالجتها -كشأن القرآن- لأمور الحياة أجمع، فقد صنفها أهل العلم من المحدثين وغيرهم في أبواب، بحسب موضوعاتها. ونجد أبوابًا عديدة تتعلق بالعظة والتذكير مثل: باب الأمر بالتقوى، باب الزهد والرقائق، باب التوبة، باب النصح. وهكذا.

فإذا ما انتقلنا من دوحة القرآن والسنة إلى آثار العلماء والأدباء فسنجدها موشاة بحلية العظة في كثير من المقامات والمناسبات. وعلى الأخص إذا كان ذلك في خطب أو وصايا، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر. ومن هنا نلحظ كتب الأدب لا تكاد تخلو من هذا النوع من الأساليب [13]. بل الشعر يتخذ من الموعظة غرضًا من أهم أغراضه في القديم والحديث، وأبو العتاهية قد ضرب بسهم وافر في هذا المجال، حتى ليستحق لقب واعظ الشعراء.

أما ما صنف في العظات وعن العظات فكثير كثير. ولعل من أقدمها وأشملها كتاب (إحياء علوم الدين) لأبي حامد الغزالي الذي عنى به كثير من العلماء تهذيبًا وتلخيصًا وتخريجًا لأحاديثه ويوجد به بعض الأخطاء والشطحات فيؤخذ منه ما كان موافقًا للكتاب والسنة. وربما خص بعض المؤلفين في عظاته فئات معينة كالسلاطين والملوك، ولابن الجوزي القدح المعلى في طرق باب العظة والتذكير، حيث نجد كثيرًا من مصنفاته متخصصة في هذا الموضوع، بل كان يعظ في دروسه العلمية وكان وعظه آية، يقول الإمام الذهبي: "وحصل له من الحظوة في الوعظ ما لم يحصل لأحد قط، وحضر مجالسه ملوك ووزراء، بل وخلفاء من وراء الستر ويقال: في بعض المجالس حضره مائة ألف فيما قيل" [14].

والله ولي والتوفيق.
_________________
[1] انظر: تاج العروس 20-289.
[2] ينظر: المفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص 527.
[3] رواه الإمام أحمد في المسند 5-356.
[4] رواه البخاري في صحيحه. ك: العلم باب 36.
[5] رواه مسلم في صحيحه. ك: القدر ح/3.
[6] كشف الخفاء ومزيل الإلباس للعجلوني 2-147.
[7] مجمع الأمثال للميداني 2-191.
[8] المرجع السابق 2-327.
[9] لسان العرب 4-531.
[10] المحرر الوجيز 9-56.
[11] رواه مسلم في صحيحه. ك: الطهارة ح/1.
[12] رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. ك: العلم باب 16. انظر مثلاً: عيون الأخبار لابن قتيبة. الجزء السادس كله.
[13] انظر مثلًا: عيون الأخبار لابن قتيبة، الجزء السادس كله.
[14] تذكرة الحفاظ 4-1344.
 

 

عبد اللّه بن إبراهيم الطريقي
 

  • 0
  • 0
  • 8,736

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً