ليبيا والخروج من إرث القذافي
ليبيا أمامها مشوار طويل من أجل الخروج من إرث القذافي المرير ومخلفات فترة حكمه الطويل حتى تستطيع أن تقف على أقدامها وتصبح دولة بالمعنى الحقيقي، تحظى بمؤسسات حكم راشدة وهيئات إدارة فاعلة، وإرادة سياسية ناضجة، تتكاتف خلالها جهود كل المخلصين حيث لا مكان في الدول الراشدة إلا للمخلصين الذين يبغون رفعة الوطن وراحة المواطنين وقبل ذلك كله رضا الله عز وجل.
أضحى الملف الأمني من أبرز التحديات أمام عملية الانتقال وبناء الدولة في ليبيا، وذلك بعد فشل الخطط والبرامج التي تم اعتمادها منذ تأسيس المجلس الانتقالي في 27 فبراير 2011. وظهر جليا أن المشاكل الأمنية تزداد تعقيدا مع استمرار الفشل والعجز الرسمي في مواجهة الانفلات الأمني الذي أخذت وتيرته في التصاعد حتى وصل لخطف رئيس الوزراء (علي زيدان) نفسه والأنكى من ذلك أن خطفه واحتجازه كان في إحدى المباني الحكومية الأمنية في إشارة لمدى اتساع هوة الأزمة الأمنية والسياسية في ليبيا.
الأزمة الأمنية في ليبيا أزمة عميقة بدأت منذ تشكيل المجلس الانتقالي في بداية الثورة الليبية، حيث لم تفلح المجالس المتعاقبة والحكومتين الانتقالية والمؤقتة في التعامل مع هذه الأزمة بصورة جدية، مما أدى لتراكم معطيات الأزمة وتكاثر عواملها السلبية، وكان لكثرة الفواعل في المشهد السياسي الليبي أثر بالغ في تفاقم الأزمة، فالمجلس الانتقالي في فترة ما قبل انتخاب المؤتمر الوطني حاول تأسيس أجهزته الأمنية لضبط المناطق الخاضعة لسيطرة الثوار خاصة في المناطق الشرقية والتي كانت أولى المناطق تحررا في ليبيا عن سلطة القذافي، ولكن تأسيس هذه الأجهزة تم وفق حسابات قبلية ومحاصصة ثورية، وكانت النتيجة الطبيعية لهذه المعايير الأبوية أن جاءت الأجهزة ضعيفة مفككة بل ومتضاربة أيضا، ومن أبرز أسباب هذا التفكك والتضارب تأسيس ما عرف باللجنة الأمنية العليا التي جاءت كتعويض عن عزوف كثير من ضباط الشرطة في عهد القذافي عن العودة للعمل مرة أخرى خشية انتقام الأهالي والثوار منهم فالسلاح كثير والثأر كبير وردع الدولة مفقود.
فقد ارتكب القائمون على إدارة وتأسيس اللجنة الأمنية العليا خطأ فادحا عندما لم يضعوا معاييرً دقيقة لضبط أداء هذه اللجنة، فانتسب إليها عدد كبير من العاطلين عن العمل وعدد من أصحاب السوابق، وحتى بعض منتسبي كتائب القذافي والأمن الداخلي والخارجي واللجان الثورية، مما حدا بالعديد من ضباط الشرطة الذين لم يتركوا العمل لرفض الاعتراف باللجان الأمنية في بعض المدن والعزوف عن التعاون معها. واعتبروا أن اللجنة الأمنية العليا جسم دخيل على مديريات الأمن المكلفة بترسيخ الأمن بمختلف المدن الليبية، ومما زاد الطين بلة قيام الحكومة بتحديد تبعية اللجنة المذكورة لوزارة الداخلية مباشرة وليس لمدراء الأمن بالمناطق مما خلق تضاربا وتداخلا في الصلاحيات بين هذه اللجنة ومديريات الأمن، ورفض قادة وكثير من عناصر اللجنة الأمنية الانضمام للشرطة بحجة فساد جهاز الشرطة ودعمه للنظام السابق ومشاركة العديد من قادته وضباطه وجنوده في قمع الثورة والثوار، الأمر الذي أخَّر عملية دمج الثوار في جهاز الأمن الوطني.
عجز الحكومة الواضح والتعثر المتكرر في ضبط الوضع الأمني وإعادة الهيبة للأجهزة الأمنية السيادية أوجد حالة من الانقسام لدى الرأي العام، وبالرغم من تأييد الجميع لمبدأ تسلم الشرطة والجيش مهام الأمن وتسليم الكتائب العسكرية أسلحتها، إلا أن هناك اعتقادا لدى بعض أوساط الناشطين السياسيين والمثقفين من أن الحاجة لا تزال ماسة لكتائب الثوار لحفظ الأمن، ويدللون على ذلك بأن الخروقات الخطيرة والمتكررة لا يتصدى لها في غالب الأحيان الشرطة والجيش، بل الكتائب العسكرية، فمديرية أمن بنغازي لم تفلح في القبض على المتورطين في الاعتداء الجنسي على الفتيات البريطانيات من أصل باكستاني، بينما اعتقلتهم مجموعات مسلحة تابعة لكتائب درع ليبيا. كما أن بعض السجون التي تخضع لإشراف بعض سرايا الإسناد في طرابلس، وهي كتائب ثوار، تمتاز بدرجة أعلى في الضبط قياسا على بعض السجون التي تخضع للشرطة القضائية. هذا إضافة لتداعيات الانقلاب العسكري في مصر والذي دفع بالكثيرين من الثوار ذوي الخلفية الإسلامية من التخوف من تكرار نفس التجربة في ليبيا حال قيام جيش قوي ونظامي في البلاد.
تردي الأوضاع الأمنية انعكس بشدة على المسار السياسي والاقتصادي، فالأمن هو قاطرة الاقتصاد لا ينهض بدونه، والاقتصاد هو أساس الاستقرار السياسي، فالجميع يتأثر بشدة بتدهور الأداء الأمني، حتى طالت الاعتداءات الأمنية كل مفاصل وأجهزة وقيادات الدولة وآخرها ما جرى لرئيس الوزراء نفسه. ويبقى البحث الدائم عن أفضل السبل لحل هذه الأزمات.
الواقع الأمني المرير في ليبيا ومن قبله في مصر وتونس واليمن ودول الربيع العربي في حقيقة أمره هو إفراز من إفرازات هذه الثورات، وأحد أهم تداعياتها وآثارها السلبية في مرحلة ما بعد سقوط الطواغيت، حيث كانت الأجهزة الأمنية كانت تفتقد في الأساس للفكر المؤسسي السوي، فالأجهزة الأمنية في هذه الدول وغيرها من دول المنطقة قائمة على فكرة حماية أمن النظام وليس أمن الوطن، حيث كانت مهمتها الأصلية والأساسية تتبع كل المعارضين وملاحقتهم والتضييق عليهم، فأجهزة الأمن الوطني وأمن الدولة والاستخبارات الداخلية كلها كانت من أجل ضمان أمن الجالس على الكرسي، وكان ذلك على حساب أمن الوطن والمواطن، مما جعل مظاهر الانفلات الأمني والجريمة المنظمة تظهر قبل سقوط هذه الأنظمة، وإنما تفاقمت وتعاظمت بعد السقوط بسبب العقليات الأمنية القائمة على هذه الأجهزة.
فجوهر ولب الأزمات الأمنية في دول الربيع العربي أن القائمين على هذه الأجهزة كانوا من صنائع النظم البائد، ومصالحهم وثيقة الارتباط بهذه الأنظمة، والعقليات الاستعلائية على المواطنين معشعشة في عقول وقلوب الكثيرين في هذه الأجهزة، ومن ثم كانت نقطة البدء في التعامل مع الأزمة الأمنية في ليبيا وغيرها بالبحث عن أفضل السبل في كيفية الخروج من إرث القذافي وإخوته الطغاة، والمشكلة في ليبيا تحديدا أن القذافي كان يدير البلاد بمفهوم الإقطاعية الخاصة أقرب منه لمفهوم الدولة، فلم يكن ثمة أجهزة ومؤسسات فعلية لإدارة الدولة، مجرد لجان ثورية وشعبية تدير البلاد بقبلية وعشائرية مقصودة معتمدة على حساباتها، وتحكم البلاد بهلاوس القذافي المبثوثة في كتابه الأخضر، لذلك فاللبنة الأولى للخروج من إرث القذافي ومشاكله ببناء مؤسسات الدولة الأمنية والسياسية الحاكمة على أسس سليمة ودقيقة وعلمية ومهنية، وهذا الأمر لن يتحقق إلا بتوافق سياسي بين الفاعلين الحقيقيين في الساحة الليبية، فمساعي إيجاد وفاق وطني حول سياسات احتواء الاختلالات الأمنية وبناء الجيش والشرطة ينبغي أن تكون المدخل للتصحيح.
وهذا لا ينفي ضرورة اتخاذ عدة خطوات هامة في هذا المضمار من عينة رصد الواقع الأمني بشكل علمي دقيق، حيث لا تزال أعداد المجموعات والكتائب المسلحة غير معلومة، ولا توجد معلومات عن العديد من مقارها والمنتسبين إليها ووسائل تمويلها وعلاقاتها الأفقية والرأسية، واستمرار الجهل بهذه المعلومات قد يضعف قدرة الدولة على اتخاذ قرارات ناجعة لضبط الأمن وحفظ النظام العام، كما أن خطط دمج الثوار تفتقر إلى النضج، وآليات تطبيقها تتسم بالقصور، والمطلوب بناء إستراتيجية متكاملة ومترابطة يُعتمد في تنفيذها على آليات واضحة ودعم كامل من قبل الحكومة، ومساندة مستمرة وفاعلة من الرأي العام.
ليبيا أمامها مشوار طويل من أجل الخروج من إرث القذافي المرير ومخلفات فترة حكمه الطويل حتى تستطيع أن تقف على أقدامها وتصبح دولة بالمعنى الحقيقي، تحظى بمؤسسات حكم راشدة وهيئات إدارة فاعلة، وإرادة سياسية ناضجة، تتكاتف خلالها جهود كل المخلصين حيث لا مكان في الدول الراشدة إلا للمخلصين الذين يبغون رفعة الوطن وراحة المواطنين وقبل ذلك كله رضا الله عز وجل.
- التصنيف: