أهمية الدعاء في الشدة والرخاء

منذ 2013-11-01

الدعاء هو العبادة وأفضلها


الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.

قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].

وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].

وقال تعالى: {وقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].

وقال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء من الآية:32].

أولاً: الدعاء هو العبادة وأفضلها

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] (رواه أحمد: [18378]، تعليق شعيب الأرنؤوط: "إسناده صحيح"، وأبو داود: [1479]، والترمذي: [2969]، وصححه الألباني في صحيح الجامع: [3407]، صحيح أبي داود: [1329]، المشكاة: [2330]، والروض النضير [888]).

وقال الإمام الخطابي رحمه الله: "معنى الدعاء استدعاء العبدِ ربَّه عز وجل العنايةَ، واستمدادُه منه المعونة، وحقيقته إظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتبرّؤ من الحول والقوة، وهو سمة العبودية واستشعارُ الذلة البشريَّة، وفيه معنى الثناء على الله عز وجل، وإضافة الجود والكرم إليه، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة» (شأن الدعاء: ص: [4]).

وقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: «إِذَا سَألْتَ فَاسأَلِ الله، وإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللهِ» (صحيح؛ أخرجه أحمد: [2669]، والترمذي: [2516]، وصححه الألباني في صحيح الجامع: [7957]، وسيأتي معنا بتمامه).

يقول الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "وقوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَألْتَ فَاسأَلِ الله، وإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللهِ»؛ هذا مُنزع من قوله تعالى مما أنزل في فاتحة كتابه ويقرأه عبده المسلم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه، والدعاء هو العبادة (جامع العلوم والحكم؛ للإمام ابن رجب ط دار المنار: [ص195]، بتصرُّف).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «أفْضَلُ العِبادَةِ الدُّعاءُ» (صحيح: أخرجه الحاكم في المستدرك، وابن عدي في الكامل عن أبي هريرة، وابن سعد عن النعمان بن بشير، وصححه الألباني في صحيح الجامع: [1122]، والسلسلة الصحيحة؛ للألباني).

وقال الإمام الخطابي رحمه الله في كتابه: "شأن الدعاء وقوله صلى الله عليه وسلم: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» معناه: أنه مُعظم العبادة أو أفضل العبادة، كقولهم: الناس بنو تميم، والمال الإبل، يريدون أفضل الناس، أو أكثرهم عددًا، أو ما أشبه ذلك، وأن الإبل أفضل أنواع المال، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الْحَجُّ عَرَفَةُ» يريد أن معظم الحج الوقوف بعرفة، وذلك أنه إذا أدرك عرفة فقد أمن فوات الحج، ومثله في الكلام كثير" (شأن الدعاء؛ ص: [7]).

وَعَن أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَنَّهُ قَالَ:
«يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلاَ تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي، إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» الحديث (رواه مسلم: [2577]).

ويحثنا النبي صلى الله عليه وسلم على أن نسأل الله تعالى كافة حاجتنا، فعن أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا، حَتَّى يَسْأَلَ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ» (حسن: رواه الترمذي، ورواه البزار: [6867] ورجاله رجال الصحيح غير سيار بن حاتم وهو ثقة، انظر: مجمع الزوائد: [17221]، وانظر: المشكاة: [2252]).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «قَالَ الله تعالى: يَا ابْنَ آدَمَ، إنَّكَ ما دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلا أُبَالِي. يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغت ذُنُوبُك عَنَانَ السماءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَوْ أتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايا، ثُمَّ لَقَيْتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لأَتَيْتُكَ بقُرَابِها مَغْفِرَةً» (حسن؛ أخرجه الترمذي: [3540]، وقال: "حديث حسن"، والضياء، وانظر: صحيح الجامع: [4338]، والمشكاة: [2336]).

وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها، قالت: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: «لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» (رواه مسلم: [214]، وأحمد في المسند: [24665]، وابن حبان: [330]، وصحيح الجامع: [7806] للألباني).

قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟" معناه: هل ذلك مخلصه من عذاب الله المستحق بالكفر، فأجابها بنفي ذلك، وعلّله بأنه لم يؤمن. وعبّر عن الإيمان ببعض ما يدلّ عليه وهو قوله: «لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» (المُفْهِمْ لِمَا أَشْكَلَ مِنْ تلخيصِ كتابِ مُسْلِمْ؛ للإمام أحمَدُ بن أبي حَفْصٍ عُمَرَ بنِ إبراهيمَ الحافظ الأنصاريُّ القرطبيُّ).

ثانيًا: الدعاء أكرم العبادة على الله:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الدُّعَاءِ»[1].

ثالثًا: الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل:

عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ» (صحيح؛ أخرجه أحمد، وأبي داود، الترمذي، وابن ماجة، الحاكم في المستدرك، انظر: صحيح الجامع: [1757]).

وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءِ يَنْفَعُ مَمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلُ، وَإِنَّ البَلاَءِ لَيَنْزِلُ، فَيَتَلَقَّاُه الدُّعَاءُ، فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوُمِ الْقِيَامَةِ» (حسن؛ أخرجه الحاكم في المستدرك، انظر صحيح الجامع للألباني: [7739]، المشكاة: [2234] للألباني).

وَعَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ» (حسن؛ أخرجه الترمذي: [2139]، والحاكم، عن سلمان رضي الله عنه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: [7687]).

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلاَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا
»، قَالُوا: إِذًا نُكْثِر. قَالَ: «اللَّهُ أَكْثَرُ» (حسن صحيح؛ أخرجه أحمد: [11149]، تعليق شعيب الأرنؤوط: "إسناده جيد"، والبخاري في الأدب المفرد: [710]، والبزار، وأبو يعلى، وقال المنذري في الترغيب والترهيب: "بأسانيد جيدة"، والحاكم، انظر صحيح الترغيب: [1633]، وصحيح الأدب المفرد للألباني: [550]، ومشكاة المصابيح: [2259]).

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "والدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، وهو من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن.

وللدعاء مع البلاء ثلاث مقامات:

1- أن يكون الدعاء أقوى من البلاء فيدفعه.
2- أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد، ولكن يخففه وإن كان ضعيفًا.
3- أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه" (الجواب الكافي؛ لابن القيم. ط. دار الريان للتراث، الطبعة الأولى، ص:7]).

ولهذا شُرِعَت صلاة الاستخارة والدعاء فيها، بأن العبد يسأل ربه عز وجل في أي أمر يُقدِم عليه، بأن كان هذا الأمر خير له في دينه، ومعاشه، وعاقبة أمره، أن يُيسِّره له، وإن كان هذا الأمر نقيض ذلك، أن يصرفه عنه.

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، يَقُولُ: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَعِينُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي، وَمَعَاشِي، وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، -أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ-، فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي، وَمَعَاشِي، وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، -أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ-، فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ
». قَالَ: «وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ»" (رواه البخاري: [1166]، [6382]، [7390]، والترمذي: [480]، والنسائي: [3253]، وابن ماجة: [1383]).

رابعًا: الوقوف على حقيقة أمر الدعاء

يقول ابن القيم رحمه الله: "وههنا سؤال مشهور؛ وهو أن المدعو به إن كان قُدِرَ لم يكن بد من وقوعه، دعا به العبد أو لم يدع، وإن لم يكن قد قُدِرَ لم يقع، سواءً دعا به العبد أو لم يسأله. فظنت طائفة صحة هذا السؤال، فتركت الدعاء، وقالت: لا فائدة فيه.

وهؤلاء مع فرط جهلهم وضلالهم متناقضون، فلو اطرد مذهبهم لوجب تعطيل جميع الأسباب، فيقال لأحدهم: إن كان الشبع والري قد قُدِرَ لك، فلابد من وقوعهما، أكلت أو لم تأكل، وإن لم يُقَدراَ لك لم يقعا، أكلت أو لم تأكل، وإن كان الولد قد قُدِرَ لك، فلا بد منه، وطئت الزوجة أو الأمة أو لم تطأهما، وإن لم يُقَدَّر ذلك لم يكن، فلا حاجة إلى التزوّج والتسرّي. وهلم جرا... فهل يقول هذا عاقل أو آدمي؟! بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته، فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين كالأنعام، بل هم أضل سبيلاً.

وتكايس بعضهم وقال: الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض، يثيب الله عليه الداعي، من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجهٍ ما، ولا فرق عند هذا المتكايس بين الدعاء وبين الإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب، وارتباط الدعاء عندهم به كارتباط السكوت ولا فرق.

وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء: بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله سبحانه وتعالى أمارة على قضاء الحاجة، فمتى وفّق العبد للدعاء كان ذلك علامة له وأمارة على أن حاجته قد قُضِيَت. وهذا كما إذا رأيت غيمًا أسودًا باردًا في زمن الشتاء؛ فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يُمطر. قالوا: وهكذا حكم الطاعات مع الثواب، والكفر والمعاصي مع العقاب، لا أنها أسباب له.

وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار، والحرق مع الإحراق، والإزهاق مع القتل. ليس شيء من ذلك البتة، ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه، إلا مجرد الاقتران العادي، لا التأثير السببي، وخالفوا بذلك الحس والعقل، والشرع والفطرة، وسائر طوائف العقلاء، بل أضحكوا عليهم العقلاء.

والصواب: وهاهنا قسمًا ثالثًا، غير ما ذكره السائل، وهو أن هذا المقدور قُدِرَ بأسباب، ومن أسبابه الدعاء. فلم يُقدر مجردًا عن سببه، ولكن قُدِرَ بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهذا كما وقع الشبع والري بالأكل والشرب، قُدِرَ الولد بالوطء، قُدِرَ حصول الزرع بالبذر، قُدِرَ خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قُدِرَ دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال.

وهذا القسم هو الحق، وهذا الذي حُرِمَهُ السائل ولم يُوفق له.

وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء، لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال، وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء، ولا أبلغ في حصول المطلوب.

ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأفقههم في دينه كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم، وكان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يستنصر به على عدوه، وكان أعظم جنديه، وكان يقول لأصحابه: "لستم تُنصرون بكثرة، وإنما تُنصرون من السماء.

وكان يقول: "إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن هم الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء فإن الإجابة معه".

وأخذ الشاعر هذا المعنى فنظمه، فقال:


لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه *** من جود كفيك ما عودتني الطلبا


فمن اُلهِمَ الدعاء فقد أُريد به الإجابة، فإن الله سبحانه يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.

وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}" (الجواب الكافي؛ لابن القيم رحمه الله، ط. دار الريان للتراث، ص: [14-16]).

وقال الغزالي رحمه الله في (كتاب الإحياء): "فاعلم أنّ من القضاء ردّ البلاء بالدّعاء، فالدّعاء سبب لردّ البلاء واستجلاب الرّحمة، كما أنّ التّرس سبب لردّ السّهام، والماء سبب لخروج النّبات من الأرض، فكما أنّ التّرس يدفع السّهم فيتدافعان، فكذلك الدّعاء والبلاء يتعالجان.

وليس من شرط الاعتراف بقضاء اللّه تعالى أن لا يحمل السّلاح، وقد قال تعالى: {وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} كما أنّه ليس من شرطه أن لا يسقي الأرض بعد بثّ البذر، فيقال: إن سبق القضاء بالنّبات نبت البذر وإن لم يسبق لم ينبت، بل ربط الأسباب بالمسبّبات هو القضاء الأوّل الّذي هو {إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [القمر من الآية:77]، وترتيب تفصيل المسبّبات على تفاصيل الأسباب على التّدريج والتّقدير هو القدر، والّذي قدّر الخير قدّره بسبب، والّذي قدّر الشّرّ قدّر لرفعه سببًا، فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته. ثمّ في الدّعاء من الفائدة أنّه يستدعي حضور القلب مع اللّه وهو منتهى العبادات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "الدّعاء مُخّ العبادة" (رواه الترمذي: [3371]، وضعّفه الألباني).

والغالب على الخلق أن لا تنصرف قلوبهم إلى ذكر اللّه عز وجل إلاّ عند إلمام حاجة وإرهاق ملمّة، فإنّ الإنسان {
وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ} [فصلت من الآية:51].

فالحاجة تحوج إلى الدّعاء، والدّعاء يردّ القلب إلى اللّه عز وجل بالتّضرّعِ والاستكانة، فيحصل به الذّكر الّذي هو أشرف العبادات، ولذلك صار البلاء موكّلاً بالأنبياء عليهم السلام، ثمّ الأولياء، ثمّ الأمثل فالأمثل، لأنّه يردّ القلب بالافتقار والتّضرّع إلى اللّه عز وجل، ويمنع من نسيانه، وأمّا الغنى فسبب للبطر في غالب الأمور، فإنّ الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" (إحياء علوم الدين: [1/298]).

يقول مطرف بن عبد الله بن الشخّير رحمه الله: "تذاكرتُ: ما جماع الخير؟ فإذا الخير كثير، الصيام، والصلاة، وإذا هو في يد الله، وإذا أنت لا تقدر على ما في يد الله إلا أن تسأله فيعطيك، فإذا جماع الخير الدعاء" (انظر: مدارج السالكين؛ للإمام بن القيم رحمه الله: [3/104]).

ويقول فضيلة الشيخ الدكتور ناصر الزهراني:


وسوف يظل الذلُّ والعار وصمةٌ *** على وجه أعداء الهُدى والمعابد
ونحن لنا من قوة الله ملجأٌ *** نُخِيفُ به الأنذال من كل مارد

فيا ربّ إن الظلم قد فاض بحره *** وحلّت بقومي مذهلات المناكد
يعيث بنا الأوغاد في غير هيبة *** وداسوا على أطفالنا والقواعد

وكم من فتىً قد مزّق البغي جسمه *** ومن يافعٍ للفكر والوعي فاقد
تبدّدت الأحشاء من فيض حزننا *** ومما نراه بالعيون السواهد

وأمسى لهيب الهم يكوي نفوسنا *** لما دبَّروه من بغيض المكائد
أيا ناصر المظلوم يا خير شافع *** وخير ملاذٍ في حليك الشدائد

أجرنا فإن البغي أرسى جذوره *** وأضحى بعيد الغور عن كل حاصد
وهيئ لنا من يدفع الضيم والأذى *** بجيشٍ أبيًّ صادق النهج راشد

إذا أنت راضٍ لن نبالي بما نرى *** سنمضي بعزمٍ واثق الخطو حاشد
بلطفك يا ذا اللطف وحّد صفوفنا *** لنغدو برأيٍ واضح الدرب واحد

وأفرغ علينا الصبر وأملأ قلوبنا *** بنور من الإيمان يا ذا العوائد
ننازل أعداء الهدى في عقيدة *** فلا فوز إلا في ظلال العقائد[2]


خامسًا: الضلال المبين لمن صرف الدعاء لغير الله ربّ العالمين

قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ . وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5-6].

وقوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ . إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13-14].

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ: «يَا غُلَامُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» (صحيح؛ أخرجه أحمد في المسند: [2669]، والترمذي: [2516]، وصححه الألباني في صحيح الجامع: [7957]، وسيأتي معنا بتمامه).

الشاهد من الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَأَلْتَ، فَاسْأَلِ اللَّهَ، وإذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِالله».

ويقول ابن القيم رحمه الله في كتابه (الجواب الكافي): "حقيقة الشرك: هو التشبيه بالخالق والتشبيه للمخلوق به، هذا هو التشبيه في الحقيقة، لا إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فعكس الأمر من نكس الله قلبه وعمى عين بصيرته، وأركسه بكسبه، وجعل التوحيد تشبيهًا، والتشبيه تعظيمًا وطاعة، فالمشرك مشبهٌ للمخلوق بالخالق في خصائص الألوهية. فإن من خصائص الألهية التفرُّد بملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل به وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا -فضلاً عن غيره- شبيهًا لمن له الأمر كله، فأَزمَّة الأمور كلها بيديه، ومرجعها إليه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع، بل إذا فتح لعبده رحمته لم يمسكها أحد، وإن أمسكها عنه؛ لم يرسلها إليه أحد".

"فمن أقبح التشبيه: تشبيه العاجز الفقير بالذات، بالقادر الغني بالذات، ومن خصائص الألوهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجهٍ من الوجوه. وذلك يُوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم، والإجلال، والخشية، والدعاء، والرجاء، والإنابة، والتوبة، والتوكل، والاستعانة، وغاية الذل مع غاية الحب، كل ذلك عقلاً وشرعًا وفطرة، أن يكون له وحده، فمن جعل شيئًا من ذلك لغيره، فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له، ولا مثيل له، ولا نِدّ له، وذلك من أقبح التشبيه وأبطله، ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة" (الجواب الكافي؛ لابن القيم رحمه الله، ط.دار الريان للتراث: ص: [159-160]).

_____________________

[1]- (صحيح؛ أخرجه البخاري في الأدب المفرد: [712]، والترمذي: [3370]، وابن ماجة: [3829]، والحاكم في المستدرك: [1/490]، وابن حبان في صحيحه: [780]، والبيهقي في الشعب: [1006]، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد: [552] وصحيح الترغيب والترهيب: [1629]، وصحيح الجامع: [5392]. قوله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الدُّعَاءِ»؛ «
أَكْرَمَ»: منصوب على أنه خبر «لَيْسَ»، و«عَلَى اللَّهِ»: بمعنى عنده. انظر: سنن ابن ماجة؛ هامش: [3/349] محمد فؤاد عبد الباقي، ط. دار الحديث، الطبعة الأولى).

[2]- (كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة؛ للدكتور ناصر الزهراني. مكتبة العبيكان - الرياض - المملكة العربية السعودية. الطبعة الثانية، ص: [52-53]).



صلاح عامر قمصان

 

  • 17
  • 3
  • 60,016

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً