جريمة الرشوة

منذ 2013-11-04

فالرشوة معصية للرب، مَجْلبة للعذاب، وقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي"


الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آلِ عمران:102].

أيها المسلمون: من الشرائع التي قررها الإسلام أن الراعي والرعية يدان يتعاونان على جلب الخير للمجتمع وعلى رعاية مصالحه ولا يستقيم أمره ولا يتَّسِق له شؤونه إلا إذا قام كل بمسؤولياته عدلاً وإنصافاً، نزاهة وإنجازاً.

ومن هنا جاء الإسلام بكل الشرائع الأساسية التي تحفظ مقاصد المسؤولية، وتدْرأ أسباب الانحراف عنها، وتصون المسؤول عما يخل بواجب عمله وميزان العدل عنده.

ومن هذه الشرائع النهيُ الأكيد والزجر الشديد عن جريمة الرشوة أخذاً وإعطاءً وتوسُّطاً.

فالرشوة معصية للرب، مَجْلبة للعذاب، وقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي" (حسنه الترمذي وصححه ابن حبان)، وفي الطبراني: «الراشي والمرتشي في النار».

وتأسيساً على هذه النصوص وغيرها عد أهل العلم كابن حجر الهيثمي والذهبي رحمهما الله تعالى أن الرشوة كبيرة من كبائر الذنوب.

الرشوةُ أكلٌ للأموال بالباطل، وتناولٌ للسحت، والله جل وعلا يقول: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188]، ويقول سبحانه في شأن اليهود: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة من الآية:42].

الرشوة داءٌ وبيل ومرض خطير، فما يقع فيها امرؤ إلا ومحقت منه البركة في صحته ورزقه وقته وعياله وعمره، وما تدنَّس بها أحد إلا حُجبت دعوته، وذَهبت مروءته، وفسدت أخلاقه، ونُزع حياؤه، وساء منْبَته، و«كل لحم نبت من سُحت فالنار أولى به». ومن السحت الرشوة.

الرشوة خطرها عظيم وفسادها كبير تُسبب الهلاك والخسران للمجتمعات، تفسدُ أحوالها، وينتشر الظلم فيها بسبب الرشوة، بل ما تفشَّت في مجتمع إلا وغابت منه الفضيلة، وحلت فيه الرذيلة، وما وقعت الرشاوى في أمة إلا وحلَّ فيها الغش محل النصيحة، والخيانةُ محلَّ الأمانة، وحل الظلم محل العدل، والخوف محل الأمن، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب.

عباد الله؛ حقيقة الرشوة وصورها كثيرة، من ذلك ما يدفعه المرء لمن تولى عملاً من أعمال المسلمين ليتوصل له إلى ما لا يحل له.

ومن أعظم صورها وأنواعها ما يُعطى الموظف لإبطال حق، أو لإحقاق باطل، أو لظلم أحدٍ، فالهدية للموظف إذا ترتب عليها محظور شرعي كأن يحكم للمعطى أو لا تطبق الشروط التي اشترطتها جهة العمل أو ليُقدِّم المعطى على غيره هذه من الرشوة.

ومن ذلك ما تقدمه بعض الشركات من هدايا للموظفين مقابل أن يتنازلوا عن بعض الشروط التي اشترطتها الجهة المسؤولة.

ومن صور الرشوة تقديم الهدية من الموظف لرئيسه في العمل لأنها سبيل للمداهنة وغض البصر عن عمل الموظف.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "محابة الولاة في المعاملة من المبايعة والمؤاجرة والمضاربة والمساقاة والمزارعة نوع من الهبة".

ومن صورها الهدية للموظف إذا كان للمراجع حاجة، سواءً انتهت حاجته أو لم تنته. بل عد جمهور العلماء رحمهم الله تعالى أن الهدية الموظف من الغلول سواء كان للمراجع حاجة أو لم يكن ما دام أنه أهدى إليه من أجل وظيفته وولايته.

ومن صورها مراعاة الموظف في الأسعار.

عباد الله؛ ويستثنى من ذلك ما لو أذن ولي الأمر بالهدية أو كانت لا من أجل العمل بل لكونه بينه وبين الآخر مهاداة لقرابة أو لجوار ونحو ذلك.

كل موظف يأخذ مالاً من أحد من المسلمين على عمل من الأعمال التي في دائرة وظيفته فذلك من الرشوة التي هي من كبائر الذنوب.

الرشوةُ محرَّمةٌ بأي صورة كانت، وبأي اسم سُمِّيت، سواء سُميت هديةً أو مكافأة أو إكرامية، فالأسماء في الشريعة لا تغيِّر الحقائق شيئاً، والعبرة للحقائق والمعاني لا للصور والمباني.

إن هدايا العمَّال غلول، والمراد بالعمَّال كل من تولى عملاً من أعمال المسلمين، وهذا يشمل سائر الموظفين، أياً كانت مراتبهم ودرجاتهم، روى أبو حميد الساعدي رضي الله عنه قال: "استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أُهدي لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي؟! أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أو لا؟! والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه» (خرّجاه في الصحيحين).

قاعدة لا تقبل التأويل يجب تطبيقها، وهو قوله: «أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أو لا؟!» هكذا قرّر النبي صلى الله عليه وسلم.

فالهدية من أجل الوظيفة من الغلول والرشوة، وهذا الفهم هو الذي فهمه محققو أهل العلم، قال الخطابي رحمه الله: "في هذا بيان أن هدايا العمال سُحت، وأنه ليس سبيلها سبيل الهدايا المباحة، وإنما يُهدى إليه للمحاباة، وليخفِّف عن المُهدي، ويُسوِّغ له بعض الواجب عليه، استيفاؤه لأهله" انتهى كلامه.

وروى البخاري معلقاً أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله اشتهى التفاح فلم يجده في بيته، ولا ما يشتري به، فخرج وهو الخليفة فتلقاه غلمان بأطباق التفاح، فتناول واحدة فشمَّها، ثم ردَّ الأطباق، فقيل له في ذلك، فقال: "لا حاجة لي فيها"، فقيل له: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يقبلون الهدية؟! فقال: "إنها لأولئك هدية، وهي للعمال بعدهم رشوة".

فاتقوا الله أيها المسلمون، واستجيبوا لنداء ربكم، وأطيعوا أمره واجتنبوا نهيه، واحذروا أسباب غضبه، تسعدوا في الدنيا والآخرة.

اللهم وفقنا لمراضيك وجنبنا مساخطك، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ولي الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أدَّخرها ليوم الدين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المرسلُ رحمةً للعالمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا أيها المسلمون وأوصيكم ونفسي بتقوى الله فيا سعادة من اتقاه ويا فلاح من أطاعه.

عباد الله؛ بالرشوة تُهدَر الحقوق، وتُعطَّل المصالح، وبها يُقدَّم من يستحق التأخير، ويؤخر من يستحق التقديم، وعن طريقها يقدم السفيه الخامل، ويبعد المجد العامل، فكم ضيَّعت من حقوق، وأهدرت من كرامات، وكم رفع بها من لئيم، وأهين من كريم.

أيها الموظف؛ لا يجوز لك أن تعطل معاملات المراجعين حتى تنال مهم منفعة أو لكي تعملها خارج العمل مقابل منفعة تأخذه من عملك، فعليك أن تنجز لإخوانك المسلمين معاملاتهم، وتفكر في نفسك، وأن هذا المال الذي تأخذه بسبب الحيل واستغلال الوظيفة أنه من الرشوة، ولتكن معاملات الناس سواسية إذ أن بعض الموظفين يبادر بتخليص بعض المعاملات من يرجو منفعته ويتأخر في تخليص معاملات غيره، فاتق الله فإن هذا خلاف الإنصاف والعدل.

عليك أخي الموظف أن تربي نفسك عن التعفف على أموال الناس، وازهد بما في أيدي الناس يحبك الله، إذا تعفف عن أموال الناس طرح الله عز وجل البركة فيما أخذته من أجر، أحبك الناس ونلت عند الله عز وجل أجراً عظيماً ومنزلة كريمة بسبب تفريجك لكرب المسلمين والسعي في حاجاتهم.

عباد الله؛ من شفع لأخيه شفاعة وتوسط له بواسطة فأهدى له هدية فقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن هذه الهدية بسبب هذه الواسطة وتلك الشفاعة إن كانت في أمر واجب كتخليص حق له أو دفع ظلم عنه فإنه لا يجوز أن تقبل هذه الهدية وهي نوع من الرشوة؛ لأن دفع الظلم عن المظلوم أمر واجب، ولا يجوز أن يعاوض عن الواجب، وإن كانت الشفاعة والواسطة في أمر مستحب فأهدى لك هدية فيجوز لك أن تقبل هذه الهدية.

عباد الله؛ صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حيث عبد الله بن زيد الذي رواه البخاري غيره خرج يستسقي فصلى ركعتين ثم استقبل القبلة يدعو وحل رداءه.

فالاستسقاء سنة مؤكدة حري بالمسلم وجدير به أن يحافظ على هذه السنة عملاً بالسنة واقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وفوزاً برحمة الله عز وجل ومشاركة في هذا الاجتماع المبارك الذي هو من أسباب إجابة الدعاء.

وستقام صلاة الاستسقاء إن شاء الله يوم الاثنين القادم فحري بالمسلم وجدير به أن يبادر وأن يخرج هو وأولاده وأن يخرج كما خرج النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج متخشعاً متبذلاً متذللاً متضرعاً.

نسأله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أن يغيث البلاد والعباد، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين.

 

  • 4
  • 0
  • 5,758

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً