الشخص المعاق.. حقوق وتحديات
لا شك أن الإعاقة ابتلاء إلهي، يختبر الله به عباده، ليميز الصابرين من الجازعين، والراضين من المتأففين. ونظرة واحدة إلى واقع المغرب وغيره من البلاد، تظهر مدى انتشار واكتساح الإعاقة لطائفة من الناس غير يسيرة. فقد سجلت الإحصائيات أن أصحاب هذه الاحتياجات الخاصة، يشكلون اليوم قرابة 10% من سكان العالم، أي 1 على 10، وهو ما يهم نحو 700 مليون شخص، وما لا يقل عن 20% من سكان الأرض الأشد فقرًا يعانون شكلًا من أشكال الإعاقة.
الخطبة الأولى:
حددت دولة المغرب يوم الثلاثين من هذا الشهر مارس من كل سنة، لاستحضار فئة اجتماعية جديرة بالرعاية والاهتمام، مستحقة للمساندة والتعاضد. إنه اليوم الوطني للذين ابتلاهم الله تعالى بنوع من أنواع الإعاقة، أو صعوبة واضحة في قدراتهم العقلية، أو الحركية، أو الحسية، أو الذهنية، كفقد البصر، أو فقد السمع، أو فقد الكلام، أو فقد عضو من الجسد، أو تعطيله، أو اضطراب ذهني، بل قد تكون الإعاقة مركبة، حين تجتمع إعاقات متعددة لدى شخص واحد.
ولا شك أن الإعاقة ابتلاء إلهي، يختبر الله به عباده، ليميز الصابرين من الجازعين، والراضين من المتأففين. ونظرة واحدة إلى واقع المغرب وغيره من البلاد، تظهر مدى انتشار واكتساح الإعاقة لطائفة من الناس غير يسيرة. فقد سجلت الإحصائيات أن أصحاب هذه الاحتياجات الخاصة، يشكلون اليوم قرابة 10% من سكان العالم، أي 1 على 10، وهو ما يهم نحو 700 مليون شخص، وما لا يقل عن 20% من سكان الأرض الأشد فقرًا يعانون شكلًا من أشكال الإعاقة، ونحو 30% من أطفال الشوارع لديهم إعاقة، وقرابة 400 مليون شخص ممن هم في سن العمل معاقون، البطالة فيهم تشكل 80%، و90% من الأطفال المعاقين في دول العالم النامية غير ملتحقين بالمدارس.
أما في المغرب، فأثبتت الدراسات وجود ما يقارب مليونا و نصفا من المعاقين، أي أزيد من 5% من الساكنة، 2.5% تقل أعمارهم عن 15 سنة، و55% من النشطين المعاقين لا يجدون عملا، مع تسجيل ارتفاع نسبة الإعاقة في العالم الحضري ب 58.8% بالمقارنة مع العالم القروي، الذي سجل 41.2%، وهي في الذكور أكثر منها في الإناث. وأبرزت نتائج البحوث أن 45.6% من الأشخاص المعاقين في المغرب لديهم إعاقة واحدة، و54.4% لديهم أكثر من إعاقة. يأتي في مقدمة هذه الإعاقات، القصور الحركي بنسبة 51.9%، ثم الإعاقة المرتبطة بأمراض القلب والشرايين بنسبة 31.8، ثم الإعاقة البصرية بنسبة 28.8%، متبوعة بإعاقة الكلام والنطق بنسبة 25.8%، ثم الإعاقة الذهنية بنسبة 23%، ثم السمعية بنسبة 14.3%.
أما أسبابها عندنا، فتتصدرها الأمراض المكتسبة، بنسبة 38.4%، ثم حوادث السير التي خلفت في السنة الماضية 4222 قتيلًا، و13500 جريح ومعطوب ومعاق بنسبة 24.4%، ثم الأسباب الوراثية بنسبة 22.8%، ثم الشيخوخة 14.4%، دون أن ننسى مخلفات الحروب المشتعلة في جنبات المعمورة.
وإذا كان عدد الأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم 60 سنة في بلدنا يقاربون 6 ملايين شخص، فإن الإعاقة تتفشى في نحو 21.4% من الذين تفوق أعمارهم 60 سنة، و31% في صفوف الذين تتجاوز أعمارهم 70 سنة. وإذا كان عندنا ما يقارب 200 ألف متسول، فإن 12.7% منهم معاقون.
فالقضية أكبر مما كنا نتصور، تحتاج إلى استنفار الضمائر الحية، لمساندة هذه الشريحة ماديا ومعنويا. ولذلك بادرت الدولة إلى إصدار مشروع قانون يتعلق بتعزيز حقوق الأشخاص في وضعية إعاقة، نص في بنوده الستة والثمانين على مجموعة من المكتسبات، قد لا يفطن لها الكثير من الناس، منها حقُّ الأسبقية في ولوج الإدارات، والإعفاءاتُ من التسجيل والضرائب، ومنعُ التمييز على أساس الإعاقة، والحقُّ في الحصول على خدمات التطبيب بالمجان، والحقُّ في نفقات الأجهزة البديلة التي يحتاجها المعاقون، واستفادةُ الابن المعاق -بغض النظر عن سنه- من راتب دائم عن الأب المتوفى أو الأم المتوفاة، يحدد في 75% من مجموع أجرة المعاش، والإعفاءُ من الرسوم الجمركية عن الاستيراد، والضريبةِ على التسجيل، والضريبةِ السنوية على السيارات المعدة لاستعمال الأشخاص المعاقين، وتسهيلاتُ المتكفلين برعاية المعاقين في مواقيت العمل، واستفادةُ المعاق من تخفيض 50% على الأقل من واجبات التكوين المهني الخاص، وتخصيصُ نسبة 7% من مناصب الشغل في القطاع العام، و5% من المناصب في القطاع الخاص، وتخصيصُ نسبة لا تقل عن 5% من البرامج التلفزيونية والإذاعية لقضايا الأشخاص المعاقين، وإعفاءُ المعاق من واجبات الأداء في الفضاءات الترفيهية، والمنشآت، والعروض الثقافية والرياضية العمومية، ومن تخفيض 50% في منشآت وعروض القطاع الخاص، كل هذه مع استحداث صندوق خاص بالمعاقين، يسمى (الصندوق الوطني للنهوض بأوضاع الأشخاص المعاقين).
وكيف لا نعتني بهذه الشريحة المجتمعية الكبيرة، وديننا يحثنا على التعاون، والتآزر، وأخذ القوي بيد الضعيف؟ واحترام المسلم لأخيه، ولا يظلمه، ولا يسخر منه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]. ويقول تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91]. قال أبو حيان: "والمريض من عرض له المرض، أو كان زمِناً، ويدخل فيه العَمى والعَرَج". ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ» (صحيح سنن أبي داود).
وأنزل الله تعالى في شأن عبد الله بن أم مكتوم -وهو أعمى- ست عشرة آية، هي مطلع سورة عبس، كانت تنبيهًا للرسول صلى الله عليه وسلم على ما يجب أن يوليه له من عناية، ولذلك كان يكرمه إذا دخل عليه، وجعله مؤذنًا له مع بلال رضي الله عنه، واستخلفه على المدينة في أثناء غيابه ثلاث عشرة مرة. وقد بلغ من اهتمام عمر بن عبد العزيز بهذه الفئة، أن عمِل على إحصاء المعاقين، وخصص مرافقاً لكل كفيف، وخادماً لكل مقعد لا يقوى على القيام. وقضت تشريعات المسلمين أن يكون بيت المال مسؤولا عن نفقة العاجزين من المعاقين. وبنى الخليفة الوليد بن عبد الملك أول مستشفى للمجذومين عام 88 هـ، وقد أعطى كل مقعد خادمًا، وكل أعمى قائدًا. وبنى الخليفة المأمون مأوى للعميان والنساء العاجزات في بغداد والمدن الكبيرة، كما بنى السلطان قلاوون مستشفى لرعاية المعاقين.
وأوصى الإسلام المعاق بالصبر والاحتساب، عسى أن يجد أجر صبره حسنات يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق من ابتلاه الله تعالى بفقد بصره: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: «إِذَا أَخَذْتُ كَرِيمَتَيْ -عيني- عَبْدِي فِي الدُّنْيَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ جَزَاءٌ عِنْدِي إِلاَّ الْجَنَّةَ» (صحيح سنن الترمذي).
الخطبة الثانية:
ومع ذلك، فإن المعاقين في الإسلام لم يكونوا كلهم عاطلين منتظرين، بل كان منهم من قام بإنجازات يعجز عنها آلاف الأسوياء. فهذا الصحابي الجليل عمرو بن الجموح، كان رجلًا أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأُسْد، يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، فلما كان يوم أحد، أرادوا حبسه، وقالوا له: إن الله عز وجل قد عذرك. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنيَّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما «أنت فقد عذرك الله، فلا جهاد عليك»، وقال لبنيه: «ما عليكم ألا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة». فخرج معه، فاستشهد يوم أحد" (صححه في فقه السيرة).
وهذا الصحابي الجليل ربعي بن عامر، كان يجد صعوبة في المشي من شدة العرج، ولكنه كان مفاوضًا بارعًا حين أرسله سعد بن أبي وقاص إلى قائد الفرس رستم، فتحداه وهو في قصره الإمبراطوري، وقال له قولته الشهيرة: "جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد"، فكان من أنجح السفراء في العالم. أما أبان بن عثمان بن عفان، فكان به صمم، وحول، وبرص، وفَالَج شلل نصفي، ومع ذلك كان من كبار فقهاء التابعين وعلمائهم، وارتفع شأنه حتى عينه عبد الملك بن مروان واليا على المدينة عام 76 هـ. وموسى بن نصير، القائد العظيم، فاتح الأندلس وإفريقيا، كان مع قوته وشجاعته أعرج. وكذلك كان الإمام الزمخشري، صاحب التفسير المشهور، وعالم اللغة، وواضع أسس البلاغة، كان أعرج.
والإمام الترمذي، المحدث الحافظ، صاحب كتاب السنن، أحد الكتب الستة في الحديث، الذي طاف من أجله البلاد، ورحل إلى الأصقاع ليسمع من العلماء، كان ضريرًا لا يبصر. وكذلك المحدث الحافظ اللغوي النسابة قتادة بن دعامة السدوسي، كان ضريرًا، فعوضه الله سلامة البصيرة، وقوة الذاكرة، فكان يقول: ما قلت لمحدث قط أعد علي، وما سمعَتْ أذناي قط شيئًا إلا وعاه قلبي. قال أحمد بن حنبل: "كان قتادة أحفظ أهل البصرة، لا يسمع شيئاً إلا حفظه، قرأت عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها". وغير هؤلاء كثير.
محمد ويلالي
- التصنيف:
- المصدر: