شهر صفر: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر»

منذ 2013-12-07

من زعم أنَّ من الأيام يوم نحس وسوء، أو من الشهور شهر تَطيّر وشؤم فقد شابه الجاهليين، وجعل للأيام والأزمان المدبَّرة المسخَّرة تأثيراً في العالمين. والله مالك الليل والنهار يدبرها بحكمته وعلمه، لا خير إلا خيره، ولا طير إلا طيره، ولا إله غيره.

 

مقدمة:

إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71].



أما بعد:

فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فقد جعل الله تعالى في اختلاف الليل والنهار عبرةً لأولي الألباب، وخلفةً لمن أراد أن يتذكر أو أراد الشكور. والناظر إلى سرعة انقضاء الأيام وتصرم السنين يُدرك أنَّ الله بحكمته أراد من عباده التذكر والمحاسبة، والتوبة والمراجعة، وشكره على نعمه التي تغدو عليهم وتروح.

والشهور والأزمان لا فضل لشهرٍ على شهر، ولا ليوم على آخر إلا بما جعله الله فيها، أو ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم، وخصّها بفضل أو عبادة تقع فيها، وما سوى ذلك. فمن ادّعى في يوم فضلاً أو زعم في شهرٍ مزية وقدراً فقد قال منكراً من القول وزوراً، وفاه بما ليس له به علم، وكان قوله مردوداً، وابتدع في دين الله ما ليس منه.

وبالمقابل فمن زعم أنَّ من الأيام يوم نحس وسوء، أو من الشهور شهر تَطيّر وشؤم فقد شابه الجاهليين، وجعل للأيام والأزمان المدبَّرة المسخَّرة تأثيراً في العالمين. والله مالك الليل والنهار يدبرها بحكمته وعلمه، لا خير إلا خيره، ولا طير إلا طيره، ولا إله غيره.

ومن ذلك ما أحدثه الجاهليون الأول، وبقيت آثاره عند بعض ضعاف الإيمان من التشاؤم بشهر صفر يضاهئون فعل المشركين، قاتلهم الله أنى يؤفكون.

فأحببت جمع كلام أهل العلم في شأن صَفر من الأحاديث وبيان فقهها، وبيان عقيدة الموحدين، والحَذر من مشابهة المشركين والجاهليين في التشاؤم بالأيام والشهور.

والله أسأل التوفيق والسداد في القول والعمل.

ولا يسعني في الختام إلا أن أشكر الله تعالى الذي هداني لهذا العمل، وما كنت لأهتدي لولا أنْ منَّ الله عز وجل عليَّ بذلك، ثم أشكر كلَّ من قام بمراجعة هذه الرسالة أو أرشد إلى تعديل أو إضافة، سائلاً الله لأن يجعله خالصاً صواباً، وأن يجعله مما يُنتفع به في الحياة وبعد الممات، وما كان فيه من حقٍ وصوابٍ فمن الله وحده، وما كان من خطأٍ أو سهوٍ فمن نفسي والشيطان، والله بريءٌ منه ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

التعريف بشهر صفر

شهر صَفر هو الشهر الثاني من شهور السنة الهجرية، بعد شهر الله المُحرَّم.

اختلف في سبب تسميته بهذا الاسم:

فقيل: لإصفار مكة من أهلها، أي: خلوها إذا سافروا فيه.

وقيل: "سَمَّوا الشهر صفراً لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صِفراً من المتاع؛ أي: يسلبونه متاعه، فيصبح لا متاع له" (لسان العرب لابن منظور: [4/ 462-463]، وانظر: عمدة القاري شرح صحيح البخاري: [14/363]).

ما جاء في شهر صفر من السنة النبوية:

لم يرد في كتاب الله تعالى لفظ صفر، وإنما ورد ما يراد به صفر، كما في تفسير قول الله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة من الآية:5]، قال بعض أهل العلم: "إنّ المراد به أشهر الإمهال؛ عشرون من ذي الحجة والشهر المحرَّم وشهر صفر وشهر ربيع الأول وعشراً من ربيع الآخر" (تفسير ابن كثير، ط. دار طيبة: [4/103]).

وقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة من الآية:37]، وسيأتي أن مِنْ أهل العلم مَنْ فسر «لا صفر»، بهذا النسيء، وهو التأخير.

وإنما جاء في الأحاديث الصحيحة والصريحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنها ما يلي:

1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى[1]، ولا طيرة، ولا صفر[2]، ولا هامة[3]»، فقال أعرابي: يا رسول الله! فما بال إبلي تكون في الرَّمْل كأنها الظباء، فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها يجربها؟ فقال: «فمن أعدى الأول» (متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب الطب، حديث رقم: [5715]، ورواه مسلم كتاب السلام، حديث رقم: [2220]).

2- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى، ولا طيرة[4]، ولا هامة، ولا صفر» (متفق عليه؛ رواه البخاري: كتاب الطب، حديث رقم: [5757]).

وفي رواية لمسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى، ولا غول[5]،... ولا صفر» (رواه مسلم: كتاب السلام، حديث: [2222] [108]).

3- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لا يُعْدي شيء شيئًا»، فقال أعرابي: يا رسول الله، البعير أجرب الحشفة [6] نُدبِنْهُ[7] فيُجْرِبُ الإبلَ كلّها؟ فقال رسول الله صلى الله علي ه وسلم: «فمن أجرب الأول؟ لا عدوى ولا صفر، خلق الله كل نفس، فكتب حياتها ورزقها ومصائبها»[8].

4- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفر، ويقولون: إذا برأ الدَّبر[9]، وعفا الأثر[10]، وانسلخ صفر، حلَّت العمرة لمن اعتمر. قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله، أي الحل؟ قال: «الحلُّ كله»" (رواه البخاري: كتاب الحج، حديث رقم: [1564]. ورواه مسلم: كتاب الحج، حديث: [1240]. وانظر شروح مشكل الآثار: [6/216]).

المراد بـ (صفر) في الأحاديث المتقدِّمة:

اعلم وفقنا الله وإياك أن للعلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا صفر» ثلاثة أقوال:

1- المراد بصفر: داءٌ يكون في البطن يُصيب الماشية والناس، وهو أعدى من الجرب عند العرب، والمراد بنفي الصفر هنا: ما كانوا يعتقدونه بسببه من العدوى، وبه قال ابن عيينة وأحمد ورجَّحه البخاري في صحيحه، وابن جرير الطبري، وعضدوا ترجيحهم هذا بأنه قُرِن في الحديث مع نفي العدوى.

2- المراد بصفر: داءٌ يأخذ البطن[11] يقال إنه دود فيه كبار كالحيات، وكانوا يعتقدون أنه يُعدي، فنفى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. قال به سفيان بن عيينة والإمام أحمد وابن جرير وغيرهم.

3- المراد بصفر: شهر صفر، ثم اختلفوا في تفسيره على قولين:

أحدهما: "نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء، فكانوا يستحلُّون المحرّم ويُحرِّمون صفر مكانه، وهذا قول مالك، وأبي عبيدة" (انظر: التمهيد: [24/199]، وسنن أبي داود: [4/233]، وفتح الباري: [10/171]، والديباج للسيوطي: [5/235]، والتحرير والتنوير لابن عاشور: [10/190]).

والثاني: "أن أهل الجاهلية كانوا يتشاءمون بصفر ويقولون: إنه شهر مشؤوم، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وهذا حكاه أبو داود عن محمد بن راشد المكحولي عمّن سمعه يقول ذلك" (سنن أبي داود: [3915]).

قال ابن رجب رحمه الله: "ولعل هذا القول أشبه الأقوال، وكثير من الجهال يتشاءم بصفر، وربما ينهى عن السفر فيه، والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها" (لطائف المعارف، ص: [81]).

ثم قال ابن رجب رحمه الله: "وأما تخصيص الشؤم بزمانٍ دون زمان كشهر صفر أو غيره فغير صحيح، وإنما الزمان كله خلق الله تعالى، وفيه تقع أفعال بني آدم، فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه، وكل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو مشؤوم عليه، فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله تعالى، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا كان الشؤم في شيء ففيما بين اللحيين؛ -يعني اللسان-"، ثم أطال رحمه الله في هذا المعنى والاستدلال له بما ورد عن السلف الصالح، فانظره فإنه نفيس (لطائف المعارف، ص: [75-76]).

صفر عند العرب في الجاهلية:

كان للعرب في شهر صفر منكران عظيمان:

الأول: هو النَسيء الذي ذكره الله عنهم في القرآن بقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} [التوبة من الآية:37]، وهو التلاعب به تقديماً وتأخيراً.

والثاني: التشاؤم به.

وتوضيح ذلك كما يلي:

أولاً: التلاعب في صفر تقديماً وتأخيراً

من المعلوم أنَّ الله تعالى خلق السَّنَة وعِدة شهورها اثنا عشر شهراً، وقد جعل الله تعالى منها أربعة حُرماً، حرَّم فيها القتال تعظيماً لشأنها، وهذه الأشهر هي: "ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرَّم، ورجب".

ومصداق ذلك في كتاب الله قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة من الآية:36].

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرَّم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان...» (رواه البخاري: [5230]، ومسلم: [1679] عن أبي بكرة رضي الله عنه).

وقد عَلِمَ المشركون ذلك، لكنهم كانوا يؤخرون فيها ويُقدِّمون على أهوائهم، ومن ذلك: أنهم جعلوا شهر صفر بدلاً من المحرَّم! وكانوا يعتقدون أنَّ العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وهذه طائفة من أقوال أهل العلم في ذلك:

1- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرَّم صفراً، ويقولون: إذا برأ الدَّبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر: حلَّت العمرة لمن اعتمر" (رواه البخاري حديث رقم: [1489]، ومسلم حديث رقم: [1240]).

2- قال ابن العربي رحمه الله في كيفية النسيء ثلاثة أقوال:

الأول: عن ابن عباس رضي الله عنه: "أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني، كان يوافي الموسم كل عام، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يعاب ولا يجاب، ألا وإن صفراً العام الأول حلال، فنحرمه عاماً، ونُحله عاماً، وكانوا مع هوازن وغطفان وبني سليم، وفي لفظة: أنه كان يقول: إنا قدمنا المحرَّم وأخرنا صفراً، ثم يأتي العام الثاني فيقول: إنا حرَّمنا صفراً وأخرنا المحرَّم؛ فهو هذا التأخير".

الثاني: الزيادة؛ قال قتادة: "عمد قوم من أهل الضلالة فزادوا صفراً في الأشهر الحرم، فكان يقوم قائمهم في الموسم فيقول: ألا إن آلهتكم قد حرمت العام المحرّم، فيحرمونه ذلك العام، ثم يقوم في العام المقبل فيقول: ألا إن آلهتكم قد حَرّمت صفراً فيُحرِّمونه ذلك العام، ويقولون: الصَفَرَان".

وروى ابن وهب، وابن القاسم عن مالك نحوه، قال: "كان أهل الجاهلية يجعلونه صفرين، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صفر»، وكذلك روى أشهب عنه".

الثالث: تبديل الحج؛ قال مجاهد رحمه الله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} حجُّوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرَّم عامين، ثم حجُّوا في صفر عامين، فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافت حجة أبي بكر رضي الله عنه في ذي القعدة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة، فذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في خطبته: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» (رواه ابن عباس رضي الله عنه وغيره، واللفظ له).

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد يومي هذا في هذا الموقف، أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم حرام إلى يوم تلقون ربكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم. وقد بلغت، فمن كان عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإنَّ كل ربا موضوع، ولكم رؤوس أموالكم، لا تَظلِمون ولا تُظلمون، قضى الله أن لا ربا، وإنَّ ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله، وإن كل دم في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، كان مسترضعًا في بني ليث فقتلته هذيل، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية. أما بعد، أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فقد رضي به، فاحذروه أيها الناس على دينكم، وإن {النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُوإنَّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حُرُم: ثلاثة متواليات، ورجب مُضَر الذي بين جمادى وشعبان»[12]، وذكر سائر الحديث (أحكام القرآن لابن العربي: [2/ 503-504]) ا.هـ.

ثانيًا: التشاؤم منه

أما التشاؤم من شهر صفر فقد كان مشهوراً عند أهل الجاهلية، ولا زالت بقاياه في بعض من ينتسب إلى الإسلام، وجاءت الشريعة الغراء بنفيه والنهي عنه، وذلك في كتاب الله تعالى، وفيما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.



قال الله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء:78].

وقال: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:131]. وقال: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل:47]. وقال: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ . قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:18-19].

فقد وصف الله تعالى في هذه الآيات أعداء الرسل عليهم السلام بالتطير والتشاؤم على وجه الذم والتقبيح لفعلهم والتجهيل والتسفيه لعقولهم، فهم لا يفقهون ولا يعلمون، بل هم مفتونون مسرفون، وفي ذلك أعظم زاجر عن هذه الخصلة الذميمة، قال صديق حسن خان رحمه الله: "وبالجملة، التطير من عمل أهل الجاهلية المشركين، وقد ذمهم الله تعالى به، ونهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنه شرك" (الدين الخالص: [2/144]).

وأما النهي عنه في السنة المباركة فقد صحت في ذلك أحاديث كثيرة، قال النووي رحمه الله: "وقد تظاهرت الأحاديث في النهي عن الطيرة" (شرح صحيح مسلم للنووي: [5/27])، فمن ذلك:

1- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر» (رواه البخاري: [5757] واللفظ له، ومسلم: [2220]).

قال النووي رحمه الله: "والتطير: التشاؤم، وأصله الشيء المكروه من قول أو فعل أو مرئي، وكانوا يتطيرون بالسوانح والبوارح، فينفرون الظباء والطيور، فإن أخذت ذات اليمن تبركوا به ومضوا في سفرهم وحوائجهم، وإن أخذت ذات الشمال رجعوا عن سفرهم وحاجتهم وتشاءموا بها، فكانت تصدهم في كثير من الأوقات عن مصالحهم، فنفى الشرع ذلك وأبطله ونهى عنه، وأخبر أنه ليس له تأثير بنفع ولا ضر" (شرح صحيح مسلم: [14/470]).

وقال ابن القيم رحمه الله: "وهذا يحتمل أن يكون نفياً، وأن يكون نهياً، أي: لا تطيروا، ولكن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «لا عدوى، ولا صفر، ولا هامة»، يدل على أن المراد النفي، وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها، والنفي في هذا أبلغ من النَّهي؛ لأنَّ النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدل على المنع منه" (مفتاح دار السعادة، لابن القيم: [3/280]).

قوله: «ولا هامَة» المحفوظ من روايتها تخفيف الميم، قال ابن حجر رحمه الله: "قال القزاز رحمه الله: الهامة: طائر من طير الليل، كأنه يعني البومة. وقال ابن الأعرابي رحمه الله: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم، يقول: نَعت إليَّ نفسي أو أحداً من أهل داري. وقال أبو عبيد رحمه الله: كانوا يزعمون أنَّ عظام الميت تصير هامة فتطير، ويُسمُّون ذلك الطائر الصدى. فعلى هذا فالمعنى في الحديث: لا حياة لهامة الميت، وعلى الأول: لا شؤم بالبومة ونحوها" (فتح الباري لابن حجر العسقلاني: [10/24]).

قوله: «ولا صفر» قال البغوي رحمه الله: "معناه أن العرب كانت تقول: الصفر حية تكون في البطن تصيب الإنسان والماشية، تؤذيه إذا جاع، وهي أعدى من الجرب عند العرب، فأبطل الشرع أنها تعدي، وقيل في الصفر: إنه تأخيرهم تحريم المحرَّم إلى صفر، وقيل: إن أهل الجاهلية كانوا يتشاءمون بصفر، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك" (شرح السنة: [12/271]).

2- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطيرة شرك -ثلاثًا- "وما منا إلا"، ولكنَّ الله يُذهِبه بالتوكل» (رواه البخاري في الأدب: [909]، أبو داود: [3910] واللفظ له، والترمذي: [1614]).

قال البيهقي رحمه الله: "قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى يريد -والله تعالى أعلم- الطيرة شرك على ما كان أهل الجاهلية يعتقدون فيها، ثم قال: "وما منا إلا" يقال: هذا من قول عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: "وما منا إلا" وقع في قلبه شيء عند ذلك على ما جرت به العادة، وقضت به التجربة، لكنه لا يقر فيه، بل يحسن اعتقاده أن لا مدبر سوى الله تعالى، فيسأل الله الخير، ويستعيذ به من الشر، ويمضي على وجهه متوكلًا على الله" (شعب الإيمان للبيهقي: [2/62]).

وقال النووي رحمه الله: "أي: اعتقاد أنها تنفع أو تضر، إذ عملوا بمقتضاها مُعتقدين تأثيرها، فهو شرك؛ لأنهم جعلوا لها أثراً في الفعل والإيجاد" (شرح صحيح مسلم: [14/471]).

وقال ابن حجر رحمه الله: "وإنما جعل ذلك شركاً لاعتقادهم أنَّ ذلك يجلب نفعاً أو يدفع ضراً، فكأنهم أشركوه مع الله تعالى" (فتح الباري: [10/213]).

وقال صديق حسن خان رحمه الله: "وهذا صريح في تحريم الطيرة، وأنها من الشرك؛ لما فيه من تعلق القلب بغير الله" (الدين الخالص: [2/142]).

وقال ابن عثيمين رحمه الله: "واعلم أن التطير ينافي التوحيد، ووجه منافاته له من وجهين:

الأول: أنَّ المتطير قطع توكله على الله واعتمد على غيره، الثاني: أنه تعلق بأمر لا حقيقة له؛ فأي رابط بين هذا الأمر وبين ما يحصل لك؟! وهذا لا شك أنه يخل بالتوحيد؛ لأن التوحيد عبادة واستعانة، قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، إذن فالطيرة محرَّمة، وهي منافية للتوحيد كما سبق" (القول المفيد على كتاب التوحيد: [2/ 77-78]).

3- عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من تَطير أو تُطير له» (رواه البخاري برقم: [3578]).

قال الحليمي ما ملخصه: "كان التطير في الجاهلية في العرب إزعاج الطير عند إرادة الخروج للحاجة... وهكذا كانوا يتطيرون بصوت الغراب وبمرور الظباء، فسموا الكل تطيراً؛ لأنَّ أصله الأول... فجاء الشرع برفع ذلك كله، وقال: «من تكهَّن أو ردَّه عن سفرٍ تطيرٌ فليس منا»، ونحو ذلك من الأحاديث. وذلك إذا اعتقد أن الذي يشاهده من حال الطير موجباً ما ظنه ولم يضف التدبير إلى الله تعالى، فأما إن علم أن الله هو المدبر ولكنه أشفق من الشر؛ لأن التجارب قضت بأن صوتاً من أصواتها معلوماً أو حالاً من أحوالها معلومة يُردفها مكروه، فإن وطن نفسه على ذلك أساء، وإن سأل الله الخير واستعاذ به من الشر ومضى متوكلاً لم يضره ما وجد في نفسه من ذلك، وإلا فيؤاخذ به، وربما وقع به ذلك المكروه بعينه الذي اعتقده عقوبة له، كما كان يقع كثيراً لأهل الجاهلية، والله أعلم" (فتح الباري: [10/215]).

إشكال وجوابه:

في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس، والمرأة، والدار» (رواه البخاري: [2858] واللفظ له، ومسلم: [2225]).

فاختلف أهل العلم رحمهم الله في توجيه هذا الحديث مع ما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم من نفي الشؤم والطيرة والنهي عنهما، وهذه أقوالهم باختصار[13]:

1- قال بعضهم: إن الحديث ليس على ظاهره، وإنما هو إخبار عما كان عليه أهل الجاهلية؛ فعن أبي حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة فقالا: إنّ أبا هريرة رضي الله عنه يُحدث أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار». قال: فطارت شقّة منها في السماء وشِقّة في الأرض، قال السندي: شقة بكسر فتشديد، أي قطعة وهذه مبالغة في الغضب والغيظ. فقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما هكذا كان يقول، ولكن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «كان أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في المرأة والدار والدابة»، ثم قرأت عائشة رضي الله عنها: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22][14].

2- وقال آخرون: بل الحديث على ظاهره وفيه إثبات للطيرة، ولكن لهذا توجيهه، وهو أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأعلمهم أن لا طيرة، فلما أَبوا أن ينتهوا بقيت الطيرة في هذه الأشياء الثلاثة، وبهذا يكون حصول الشؤم في هذه الأشياء لمن تطير بها دون من لم يتطير.

3- وقال آخرون: إن التطير منفي ولا وقوع له، ولكن لما كانت هذه الأشياء هي أكثر ما يتطير به الناس، أُبيح لمن وقع في نفسه شيءٌ نحوها أن يتركه ويستبدل به غيره؛ حتى يغلق باب التطير ويرتاح من تحديث نفسه بذلك.

4- وحمل بعضهم الشؤم على ظاهره، ولكن فسره بمعنى جرى قدر الله بوقوعه لدى بعض الناس، فيكون المسلم مأموراً حينئذ بمجانبة ما يكره.

5- قال الخطابي رحمه الله: "معناه: إبطال مذهبهم في الطيرة بالسوانح والبوارح من الطير والظباء ونحوها، إلا أنه يقول: إن كانت لأحدكم دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس لا يعجبه ارتباطه، فليفارقها بأن ينتقل عن الدار ويبيع الفرس، وكان محل هذا الكلام محل استثناء الشيء من غير جنسه، وسبيله سبيل الخروج من كلام إلى غيره، وقد قيل: إن شؤم الدار ضيقها وسوء جوارها، وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها، وشؤم المرأة أن لا تلد" (معالم السنن للخطابي: [4/237]).

6- وقيل: بل هو بيان أنه لو كانت الطيرة ثابتة لكانت في هذه الأشياء، لكنها غير ثابتة في هذه الأشياء، فلا ثبوت له أصلاً.

قال ابن القيم رحمه الله: "وبالجملة فإخباره صلى الله عليه وسلم بالشؤم أنه يكون في هذه الثلاثة ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها، وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق منها أعياناً مشؤومة على من قاربها وسكنها، وأعياناً مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر، وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولداً مباركاً يريان الخير على وجهه، ويعطي غيرهما ولداً شرّاً مشؤوماً نذلا، يريان الشر على وجهه، وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية أو غيرها، فكذلك الدار والمرأة والفرس.

والله سبحانه خالق الخير والشر، والسعود والنحوس، فيخلق بعض هذه الأعيان سعوداً مباركة، ويقضي بسعادة من قارنها، وحصول اليمن له والبركة، ويخلق بعض ذلك نحوساً يتنحس بها من قارنها، وكل ذلك بقضائه وقدره، كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة؛ فكما خلق المسك وغيره من حامل الأرواح الطيبة، ولذذ بها من قارنها من الناس، وخلق ضدها وجعلها سبباً لإيذاء من قارنها من الناس، والفرق بين هذين النوعين يُدرك بالحس، فكذلك في الديار والنساء والخيل، فهذا لون، والطيرة الشركية لون آخر" (مفتاح دار السعادة: [3/ 342-343]).

خطورة التشاؤم[15]:

والتشاؤم من الاعتقادات الجاهلية التي انتشرت وللأسف الشديد بين كثير من جهَّال المسلمين، نتيجة جهلهم بالدين عموماً، وضعف عقيدة التوحيد فيهم خصوصاً، وسبب ذلك الجهل، ونقص التوحيد، وضعف الإيمان: هو عدم انتشار الوعي الصحيح فيهم، ومخالطة أهل البدع والضلال، وقلة من يرشدهم ويبيِّن لهم الطريق المستقيم، وما يجب اعتقاده، وما لا يجوز اعتقاده، وما هو شرك أكبر يخرج المسلم عن الملة الإسلامية وما هو شرك أصغر، وما هو ذريعة إلى الشرك ينافي كمال التوحيد ويُوصل الفاعل في النهاية إلى الشرك الأكبر، الذي لا يغفر الله لصاحبه إن مات ولم يتب، ويكون مخلداً في النار، وتحبط جميع أعماله الصالحة، كما قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48].

ومع ذلك لا زال كثير من الناس يتشاءمون من شهر صفر، ومن السفر فيه، فلا يُقيمون فيه مناسبةً ولا فرحاً، فإذا جاءت في نهاية الشهر، احتفلوا في الأربعاء الأخير احتفالاً كبيراً، فأقاموا الولائم والأطعمة المخصوصة والحلوى خارج القرى والمدن وجعلوا يمشون على الأعشاب للشفاء من الأمراض.

وهذا لا شك من الجهل الموقع في الشرك -والعياذ بالله- ومن البدع الشركية، ويتوقف بالدرجة الأولى على عدم سلامة العقيدة، فهذه الأمور لا تصدر إلا ممن يشوب اعتقاده بعض الأمور الشركية، التي يجرُّ بعضها بعضًا كالتوسلات الشركية، والتبرك بالمخلوقين والاستغاثة بهم.

أما منْ أنعم الله عليه بسلامة العقيدة، وصحتها، فإنَّه دائمًا متوكل على الله معتمدٌ عليه، موقن بأن ما أصابه لم يكن ليخطِئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن التشاؤم والطيرة، واعتقاد النفع أو الضر في غير الله، ونحو ذلك كله من الشرك الذي هو من أشد الظلم، قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].

والتشاؤم مما ينافي تحقيق التوحيد.

وتحقيق التوحيد منه ما يكون واجباً، ومنه ما يكون مندوباً.

فالواجب: تخليصه وتصفيته عن شوائب الشرك والبدع والمعاصي، فالشرك ينافيه بالكلية، والبدع تنافي كماله الواجب، والمعاصي تقدح فيه وتُنقص ثوابه.

فلا يكون العبد محقِّقاً التوحيد حتى يسلم من الشرك بنوعيه، ويسلم من البدع والمعاصي.

والمندوب: تحقيق المقربين[16]، وهو انجذاب الروح إلى الله محبة وخوفاً وإنابةً وتوكلاً ودعاءً وإخلاصاً، وإجلالاً وهيبة، وتعظيماً وعبادة، فلا يكون في قلبه شيء لغير الله، ولا إرادة لما حرَّم الله، ولا كراهة لما أمر الله، وذلك هو حقيقة لا إله إلا الله (تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، للشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ، ص: [87-89]).

لا تقل: "صفر الخير"

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "والأزمنة لا دخل لها في التأثير وفي تقدير الله، فصفر كغيره من الأزمنة يقدَّر فيه الخير والشر، وبعض الناس إذا انتهى من شيء في صفر أرَّخ ذلك وقال: انتهى في صفر الخير، وهذا من باب مداواة البدعة ببدعة، والجهل بالجهل فهو ليس شهر خير ولا شهر شر" (القول المفيد على كتاب التوحيد: [2/102]).


وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله: "وبعض يقول: (صفر الخير) تفاؤلاً يرد ما يقع في نفسه من اعتقاد التشاؤم فيه، وهذه لوثة جاهلية من نفسٍ لم يصقلها التوحيد بنوره" ا.هـ (معجم المناهي اللفظية، ص: [340]).

بعض البدع المنتشرة في شهر صفر

انتشر عند بعض الناس بعض البدع التي تتعلق بهذا الشهر، نذكر منها ما يلي:

1- بدع الأربعاء الأخير من شهر صفر:

سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السؤال التالي:



إن بعض العلماء في بلادنا يزعمون أن في دين الإسلام نافلة يصليها يوم الأربعاء، آخر شهر صفر وقت صلاة الضحى أربع ركعات، بتسليمة واحدة تقرأ في كل ركعة: فاتحة الكتاب وسورة الكوثر سبع عشرة مرة، وسورة الإخلاص خمسين مرة، والمعوذتين مرةً مرةً، تفعل ذلك في كل ركعة، وتسلم، وحين تسلم تشرع في قراءة: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ثلاثمائة وستين مرة، وجوهر الكمال ثلاث مرات، واختتم بسبحان ربك ربِّ العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.

وتصدَّق بشيء من الخبز إلى الفقراء، وخاصية هذه الآية لدفع البلاء الذي ينزل في الأربعاء الأخير من شهر صفر.



وقولهم إنه ينزل في كل سنة ثلاثمائة وعشرون ألفاً من البليات، وكل ذلك يوم الأربعاء الأخير من شهر صفر، فيكون ذلك اليوم أصعب الأيام في السنة كلها، فمن صلَّى هذه الصلاة بالكيفية المذكورة: حفظه الله بكرمه من جميع البلايا التي تنزل في ذلك اليوم!

فأجابت اللجنة بما يلي:

"الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:

هذه النافلة المذكورة في السؤال لا نعلم لها أصلاً في الكتاب ولا من السنَّة، ولم يثبت لدينا أنَّ أحداً من سلف هذه الأمة وصالحي خلفها عمل بهذه النافلة، بل هي بدعة منكرة.

وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»، وقال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (رواه البخاري: [2550]، ومسلم: [1718]).

ومن نسب هذه الصلاة وما ذُكر معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى أحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم: فقد أعظم الفرية، وعليه من الله ما يستحق من عقوبة الكذَّابين" (فتاوى اللجنة الدائمة: [2/354]، برقم: [1619]).

"وقد اعتاد الجهلاء أن يكتبوا آيات السلام كـ{سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ}... إلخ في آخر أربعاء من شهر صفر ثم يضعونها في الأواني ويشربون ويتبركون بها ويتهادونها لاعتقادهم أن هذا يُذهب الشرور، وهذا اعتقاد فاسد، وتشاؤم مذموم، وابتداع قبيح يجب أن يُنكره كل من يراه على فاعله" (السنن والمبتدعات، ص: [111-112]، للشيخ محمد عبد السلام الشقيري).

2- عدم الزواج أوالختان في شهر صفر:

سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السؤال التالي:



لقد سمعنا أن هناك اعتقادات تفيد أن شهر صفر لا يجوز فيه الزواج والختان وما أشبه ذلك، نرجو إفادتنا في ذلك حسب الشرع الإسلامي والله يحفظكم.

فأجابت اللجنة بما يلي:

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فما ذكر من عدم التزويج أو الختان ونحو ذلك في شهر صفر نوع من التشاؤم من هذا الشهر، والتشاؤم من الشهور أو الأيام أو الطيور ونحوها من الحيوانات لا يجوز؛ لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر»، والتشاؤم بشهر صفر من جنس الطيرة المنهي عنها، وهو من عمل الجاهلية وقد أبطله الإسلام (فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: [1/451]، برقم: [10775]).

"بل إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها في شهر صفر، وكذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه تزوج من فاطمة رضي الله عنها في شهر صفر كما سيأتي معنا".

3- دعاء مبتدع عن شهر صفر:

سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السؤال التالي:



تجدون برفقته دعاءً وُجِد يوزع مع بعض الوافدين عن شهر صفر، ومنه قوله: "اللهم بسِرِّ الحسن وأخيه وجده وأبيه، اكفنا شر هذا اليوم وما ينزل فيه يا كافي {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وبكلماتك التامات، وبحرمة نبيك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن تحفظنا، وأن تعافينا من بلائك، يا دافع البلايا، يا مفرج الهم، ويا كاشف الغم، اكشف عنا ما كُتب علينا في هذه السنة من هم أو غم، إنك على كل شيء قدير".

فآمل من سماحتكم التكرم بالنظر فيه.

فأجابت اللجنة بما يلي:

"هذا دعاءٌ مبتدَع من حيث تخصيصه بوقت معين، وفيه توسل بالحسن والحسين، وحرمة الرسول صلى الله عليه وسلم وجاهه، وبأسماء سمي الله بها لم تثبت في القرآن ولا في السنة، والله سبحانه لا يجوز أن يسمى إلا بما سمَّى به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والتوسل بالأشخاص، أو بجاههم في الدعاء بدعة، وكل بدعة ضلالة ووسيلة إلى الشرك. وعليه فيجب منع توزيعه وإتلاف ما وجد منه، ويظهر أنه من دسِّ الشيعة الضُلَّال" (فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: [1/187]، برقم: [20316]).

4- الذبح في يوم 6 صفر:

سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السؤال التالي:



ما هو حكم الذبح في وقتٍ محدد وزمن معلوم من كل سنة حيث أنه يوجد عدد كثير من الناس يعتقدون أنَّ الذبح في 27 رجب و6 من صفر و15 من شوال و10 من شهر محرَّم أن هذا قربة وعبادة إلى الله، فهل هذه الأعمال صحيحة وتدل عليها السُّنَّة، أم أنَّها بدعة مخالفة للدين الإسلامي الصحيح، ولا يُثاب عليها فاعلها؟

فأجابت اللجنة بما يلي:

العبادات وسائر القُربات توقيفية، لا تُعلم إلا بتوقيف من الشرع، وتخصيص الأيام المذكورة من تلك الشهور بالذبائح فيها لم يثبت فيه نص من كتاب ولا سنة صحيحة، ولا عُرِف ذلك من الصحابة رضي الله عنهم وعلى هذا فهو بدعةٌ محدثةٌ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (رواه البخاري: [2550]، ومسلم: [1718]).

وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم (فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: [3/53]، برقم: [7465]).

بعض الأحداث التي حدثت في شهر صفر

صفر ليس شهراً منحوساً كما يعتقد البعض، وليس من عقيدة المؤمن الذي يعلم أنَّ الحوادث بيد الله وأنَّ الأيام والشهور لا تدبير لها بل هي مدبرة مسخرة، ليس عن عقيدته أن يستاء من هذا الشهر، أو يتضجر، أو يمتنع من مزاولة أموره الشخصية، في شؤون حياته، بل هو كبقية الأشهر والأيام.

ولو تصفحنا التاريخ لوجدنا أنَّه حدث في هذا الشهر بشائر وحوادث مشرقة للأمة، ومنَّ الله على الأمة بفتوحات إسلامية، ونصر مؤزر، ولو كان التشاؤم صحيحاً لما قام الفاتحون بما قاموا به في شهر صفر، وسنعرض بعضاً من هذه الأحداث والوقائع على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر.

فمِمَّا وقع في هذا الشهر:

أولاً: غزوة الأبواء

فقد "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفر غازيًا على رأس اثني عشر شهراً من مقدمة المدينة لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر صفر، حتى بلغ ودان، وكان يريد قريشاً، وبني ضمرة، وهي غزوة الأبواء، ثم رجع إلى المدينة، وكان استعمل عليها سعد بن عبادة" (عيون الأثر: [1/295])، وهذه أوَّل غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: فتح خيبر

قال ابن إسحاق رحمه الله: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني قد أعطى ابن لقيم العبسي حين افتتح خيبر ما بها من دجاجة أو داجن، وكان فتح خيبر في صفر" (تهذيب سيرة ابن هشام: [1/334]).

ثالثاً: سرية قطبة بن عامر بن حديدة

سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم بناحية بيشة قريباً من تربة في صفر سنة تسع، قال ابن سعد: قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قطبه في عشرين رجلاً إلى حي من خثعم بناحية تبالة، وأمره أن يشن الغارة، فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها، فأخذوا رجلاً فسألوه فاستعجم عليهم، فجعل يصيح بالحاضرة، ويحذرهم؛ فضربوا عنقه، ثم أقاموا حتى نام الحاضر فشنوا عليهم الغارة فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعاً، وقتل قطبة بن عامر ممن قتل، وساقوا النعم، والشاء، والنساء إلى المدينة، وجاء سيل فحال بينهم وبينه فما يجدون إليه سبيلاً، وكانت سهمانهم أربعة أبعرة، والبعير يعدل بعشر من الغنم بعد أن أفرد الخمس (عيون الأثر: [2/238]).

رابعاً: غزوة ذي أمر

عن ابن إسحاق قال: "ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة السويق أقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم أو عامته، ثم غزا نجداً يريد غطفان وهي غزوة ذي أمر، فأقام بنجد صفر كله، أو قريباً من ذلك، ثم رجع إلى المدينة فلم يلق كيداً" (دلائل النبوية للبيهقي: [3/184]).

خامساً: وفد بني عذرة

قَدِمَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني عذرة في صفر سنة تسع اثنا عشر رجلاً فيهم جمرة بن النعمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من القوم؟»، فقال متكلمهم: من لا تنكر، نحن بنو عذرة، إخوة قصي لأمه، نحن الذين عضدوا قصياً، وأزاحوا من بطن مكة خزاعة، وبني بكر، ولنا قرابات وأرحام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مرحبًا بكم وأهلًا، ما أعرفني بكم»، فأسلموا، وبشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح الشام، وهرب هرقل إلى ممتنع بلاده، ونهاهم عن سؤال الكاهنة، وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها، وأخبرهم أن ليس عليهم إلا الأضحية، فأقاموا أياماً بدار رملة، ثم انصرفوا وقد أجيزوا (عيون الأثر: [2/309]).

سادساً: إسلام عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم

عن ابن إسحاق قال: "كان إسلام عمرو بن العاص، وخالد ابن الوليد، وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم عند النجاشي فقَدِموا إلى المدينة في صفر سنة ثمان من الهجرة" (المعجم الكبير: [9/61]).

سابعاً: خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة نحو المدينة

قال يزيد بن أبي حبيب: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة في صفر، وقدم المدينة في ربيع الأول" (صفة الصفوة: [1/125]).

ثامناً: زواجه صلى الله عليه وسلم من خديجة بنت خويلد رضي الله عنها

قال ابن إسحاق: "في شهر صفر كان زواج السيدة خديجة بنت خويلد من النبي محمد صلى الله عليه وسلم عقب خمسة وعشرين يوماً من صفر سنة ستة وعشرين" (سبل الهدى والرشاد: [2/165]).

تاسعاً: زواج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالسيدة فاطمة رضي الله عنها

قال ابن كثير: "وأما فاطمة رضي الله عنها فتزوجها ابن عمها علي ابن أبي طالب رضي الله عنه في صفر سنة اثنتين، فولدت له الحسن والحسين، ويقال: ومحسن، وولدت له أم كلثوم وزينب رضي الله عنهم" (السيرة النبوية لابن كثير: [4/611]).

عاشراً: غزو الروم

في شهر صفر لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة أًمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لغزو الروم، وأمرهم بالجِدِّ، ثمَّ دعا من الغد يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر أسامة بن زيد رضي الله عنه، "وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم لأربع بقين من صفر، وأمره بغزو الروم والإغارة عليهم بما أمر، وعقد له لواء بيده المباركة، وجهزه في المهاجرين والأنصار أرباب الصوارم الفاتكة" (المقتفى من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم: [1/82]).

وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم ببعث هذا الجيش.

فهذه بعض الأحداث المشرقة التي حدثت للأمة ووقعت في شهر صفر، وكلها تدلُّ على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتشاءم من هذا الشهر، بل كان يتعامل فيه كما يتعامل في بقية الأشهر، فقد تزوج في هذا الشهر، وزوج ابنته بعلي رضي الله عنه في هذا الشهر، وغزا في هذا الشهر، وهذا كله يدلُّ دلالةً واضحةً على إبطال دعاوى من يدعي أنَّ هذا الشهر شهر شؤم ونحس.

ولهذا نقول لمن تشاءم من هذا الشهر: أين أنتم من هذا الهدي النبوي؟ وماذا تقولون أو تردون؟ وما موقفكم من هذه النصوص؟

وفي الجانب الآخر نجد أنه كما حدث في شهر صفر أحداث مشرقة للأمة، حدثت أحداث ومصائب فيه، وهذا لا يعني أن هذا الشهر شهر شؤم تقع فيه المصائب؛ لأنَّه لا دخل للزمن فيما قدره الله، ولا يجلب الزمن أو يرد قضاء الله وقدره، ومن تلك الأحداث:

أولاً: غزوة الرجيع

"وكان أصحاب الرجيع ستة نفر منهم: عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق حليف لبني ظفر، وخالد بن البكير الليثي، ومرثد بن أبي مرثد، وكان من شأنهم أن نفراً من عضل والقارة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن فينا مسلمين فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم حتى نزلوا بالرجيع؛ استصرخوا عليهم هذيلاً، فلم يرع القوم إلا والقوم مصلتون عليهم بالسيوف، وهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم فقالت هذيل: إنا لا نريد قتالكم، فأعطوهم عهداً وميثاقاً لا يريبونهم، فاستسلم لهم خبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، ولم يستسلم عاصم بن ثابت، ولا خالد بن البكير، ولا مرثد بن أبي مرثد، ولكن قاتلوهم حتى قتلوا، وخرجت هذيل بالثلاثة الذين استسلموا لهم حتى إذا كانوا بمرِّ الظهران نزع عبد الله بن طارق يده من قرانه ثم أخذ سيفاً؛ فرموه بالحجارة حتى قتلوه، وقَدِموا بخبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة مكة، فأما خبيب فابتاعه آل حجير بن أبي إهاب فقتلوه بالحارث بن عامر، وابتاع صفوان بن أمية زيد بن الدثنة فقتله بأبيه" (دلائل النبوة للبيهقي: [3/402]).

ثانيًا: مرض النبي صلى الله عليه وسلم

"مرض النبي صلى الله عليه وسلم لاثنتين وعشرين ليلة من صفر، وبدأ وجعه عند وليدة له يقال لها ريحانة كانت من سبي اليهود، وكان أول يوم مرض يوم السبت، وكانت وفاته يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول لتمام عشر سنين من مقدمه المدينة" (عمدة القاري شرح صحيح البخاري: [26/343]).

الخاتمة:

هذا ما يسَّر الله جمعه في هذا الكتيب، وقصدت فيه أن أنبه نفسي وإخواني إلى ما ورد في هذا الشهر وتحذيرهم من بعض المخالفات والاعتقادات المصاحبة له، نصحًا لهم وإرشادًا وتذكيرًا.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على إصلاح أنفسنا ومجاهدتها لنحصل على الهداية التامة كما جاء في وعده تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].

وأن يرزقنا الصدق والإخلاص في القول والعمل، إنه على كل شيء قدير وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

____________

المراجع:

[1]- («لا عدوى»: المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده من أنَّ المرض والعاهة تعدي بطبعها، لا بفعل الله تعالى. يُراجع: شرح النووي على صحيح مسلم: [14/213]).

[2]- («لا صفر»: قيل: المراد تأخير تحريم المحرَّم إلى صفر وهو النسيء، وقيل: دواب في البطن. يُراجع: شرح صحيح مسلم للنووي: [14/ 214-215]، وقيل: التشاؤم بشهر صفر. وسيأتي ذكر ذلك، ص: [10-12]).

[3]- (الهامة: قيل: طائر معروف من طير الليل، وقيل: هي البومة، وقيل: إن روح الميت تنقلب هامة تطير. يُراجع: شرح النووي على صحيح مسلم: [14/215]).

[4]- (الطيرة: نوع من السحر، قيل: هو ما تتحبب به المرأة إلى زوجها والتطير: التشاؤم، وأصله الشيء المكروه من قول أو فعل أو مرئي، وكانوا يتطيرون بالسوانح والبوارح، وفي الحديث: الطيرة شرك. يُراجع: شرح صحيح مسلم للنووي: [14/ 218-219]).

[5]- («ولا غول»: كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات، وهي جنس من الشياطين فتتراءى وتتغول تغولاً -أي: تتلون تلوناً- فتضلهم عن الطريق فتهلكهم. يُراجع: شرح صحيح مسلم للنووي: [14/ 216-217]).

[6]- (الحَشَفة: ما فوق الختان، وهي رأس الذكر. لسان العرب: [9/47] مادة "حشف". والمراد بذلك: عند ضرب فحل الإبل إياها).

[7]- (نُدْبِنْهُ: الدِّبن: حظيرة الغنم إذا كانت من القصب، وجمعها أدبان ودبون. يُراجع: النهاية لابن الأثير: [2/99]، مادة "دبن"، ولسان العرب: [13/144]، والمراد هنا: ندخله حظيرة الإبل ليضربها، وقيل: إن صواب اللفظ: بذنبه. انظر تحفة الأحوذي، والمعنى ندخل البعير أجرب الحشفة في المعاطن فيجرب الإبل كلها. يُراجع: تحفة الأحوذي: [6/354]).

[8]- (رواه الإمام أحمد في مسنده: [1/440]، والترمذي رقم: [2230]، والطحاوي في شرح معاني الآثار [4/308] بإسناد صحيح. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة: [3/143] حديث رقم: [1152]، وروي بنحوه أيضاً عن أبي هريرة عند أحمد برقم: [8343]، وابن حبان: [6119]. وانظر الكلام على هذه الأحاديث وألفاظها وفقهها تهذيب الآثار للطبري: [1/3-44] مسند علي رضي الله عنه).

[9]- (الدَّبر: بفتح الباء أي ما كان يحصل بظهور الإبل من الجروح من الحمل عليها، ومشقة السفر، فإنه كان يبرأ بعد انصرافهم من الحج. فتح الباري: [3/426]).

[10]- (أي: اندرس أثر الإبل وغيرها في سيرها، ويحتمل أن المراد أثر الدبر المذكور. انظر: شرح السنة للبغوي [7/78]، يُراجع: فتح الباري: [3/426]).

[11]- (انظر: فتح الباري: [10/171]).

[12]- (أصله متفق عليه، وانظر البخاري حديث رقم: [5550]، [7447]، ومسلم حديث رقم: [1679]).

[13]- (ينظر في ذلك: التمهيد لابن عبد البر: [2/279]، وشرح السنة للبغوي: [9/13]، ومفتاح دار السعادة: [3/332]، والآداب الشرعية لابن مفلح: [3/359]، وفتح الباري: [6/36]، والسلسلة الصحيحة برقم: [1897]).

[14]- (رواه أحمد برقم: [26088]، والحاكم في المستدرك: [2/479] وقال: "حديث صحيح الإسناد"، ولم يخرجاه، وهو حديث صحيح، انظر: السلسلة الصحيحة للألباني برقم: [993]، وانظر: شرح معاني الآثار للطحاوي: [4/314]، وشرح مشكل الآثار له: [2/249]، وما بعدها).

[15]- (المناسبات الموسمية بين الفضائل والبدع والأحكام، ص: [42-44]).

[16]- (الذين قال الله فيهم: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ . أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ . فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:10-12]).

 

 

سليمان بن جاسر الجاسر

 

  • 3
  • 0
  • 30,791

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً