صوت الحق: كلمات لعلماء غيرت مجرى التاريخ
في زمن الظلمات، وأيام الفتن المدلهمات، يكون لصوت الحق، قيمة، ولصيحته في وجه الباطل أثر، فكم من كلمة حق غيرت مجرى التاريخ، وكم من موقف مشرف لعالم من علماء الأمة قد أزال ركام الباطل، إن قيمة الكلمة من العالم في زمن الفتنة قيمة لها وزنها، ولها صداها، ولها قوتها، بل لا أبالغ إن قلت أن الناس كلها تنتظر هذه الكلمة، لتستقوي بها بعد الله، وتكون لها بمثابة الزاد الذي يحركها، والنور الذي ينير لها الطريق، ولكنها فقط كلمة الحق التي تقال لله وبالله ومع الله، كلمة الحق التي في سبيلها يستعذب العالم البلاء، ومن أجلها يعاني أصناف الاستعداء، تأملوا أيها الأحبة كيف غيرت كلمات الحق من علماء الهدى وأئمة الدجى مجرى التاريخ، لم يغفلوا عن مهمتهم، ولم يعجزوا عنها، ولم يُؤْثروا فتن الدنيا، وملذاتها، وإنما صاحوا في وجه الباطل، ولم يخشوا في الله لومة لائم
.
فأدعوكم أحبتي إلى هذه الرحلة الجميلة، نستذكر فيها صوت الحق من علماء الحق، لعلنا نتصبر بها على ما نحن فيه من واقع مرير نشكوا فيه من ندرة هؤلاء الأَعْلام وليس لي فيها إلا الجمع.
فإلى صوت الحق:
الصوت الأول: العز بن عبد السلام بائع الملوك والأمراء:
من مواقف العز بن عبد السلام الشهيرة والتي اصطدم فيها مع الصالح أيوب نفسه، أنه لما عاش في مصر اكتشف أن الولايات العامة والإمارة والمناصب الكبرى كلها للمماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب قبل ذلك، ولذلك فهم في حكم الرقيق والعبيد، ولا يجوز لهم الولاية على الأحرار، فأصدر مباشرة فتواه بعدم جواز ولايتهم لأنهم من العبيد، واشتعلت مصر بغضب الأمراء الذين يتحكمون في كل المناصب الرفيعة، حتى كان نائب السلطان مباشرة من المماليك، وجاءوا إلى الشيخ العز بن عبد السلام، وحاولوا إقناعه بالتخلي عن هذه الفتوى، ثم حاولوا تهديده، ولكنه رفض كل هذا مع إنه قد جاء مصر بعد اضطهاد شديد في دمشق، ولكنه لا يجد في حياته بديلاً عن كلمة الحق، فرُفِعَ الأمرُ إلى الصالح أيوب، فاستغرب من كلام الشيخ، ورفضه، وقال إن هذا الأمر ليس من الشئون المسموح بالكلام فيها، فهنا وجد الشيخ العز بن عبد السلام أن كلامه لا يُسمع، فخلع نفسه من منصبه في القضاء، فهو لا يرضى أن يكون صورة مُفتٍ، وهو يعلم أن الله عز وجل سائله عن سكوته كما سيسأله عن كلامه، ومن هنا قرر العالم الورع أن يعزل نفسه من المنصب الرفيع، ومضحياً بالدنيا كلها، وركب الشيخ العز بن عبد السلام حماره، وأخذ أهله على حمار آخر، وببساطة قرر الخروج من القاهرة بالكلية، والاتجاه إلى إحدى القرى لينعزل فيها إذا كان لا يُسمع لفتواه.
ولكن شعب مصر الأبي كان له رأي آخر.
لقد خرج خلف الشيخ العالم الآلاف من علماء مصر ومن صالحيها وتجارها ورجالها، بل خرج النساء والصبيان خلف الشيخ تأييداً له، وإنكاراً على مخالفيه.
ووصلت الأخبار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب، فأسرع بنفسه خلف الشيخ العز بن عبد السلام واسترضاه، فما قبل إلا أن تنفذ فتواه، وقال له إن أردت أن يتولى هؤلاء الأمراء مناصبهم فلابد أن يباعوا أولاً، ثم يعتقهم الذي يشتريهم، ولما كان ثمن هؤلاء الأمراء قد دفع قبل ذلك من بيت مال المسلمين فلابد أن يرد الثمن إلى بيت مال المسلمين، ووافق الملك الصالح أيوب، وتولى الشيخ العزّ بن عبد السلام بنفسه عملية بيع الأمراء حتى لا يحدث نوع من التلاعب، وبدأ يعرض الأمراء واحداً بعد الآخر في مزاد، ويغالي في ثمنهم، ودخل الشعب في المزاد، حتى إذا ارتفع السعر جداً، دفعه الملك الصالح نجم الدين أيوب من ماله الخاص واشترى الأمير، ثم يعتقه بعد ذلك، ووضع المال في بيت مال المسلمين، وهكذا بيع كل الأمراء الذين يتولون أمور الوزارة والإمارة والجيش وغيرها.
الصوت الثاني: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مُجيش الجيوش في معركة شقحب:
في شهر رجب من سنة 702ه قويت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك، واشتد خوفهم جداً كما يقول الحافظ ابن كثير، وقنت الخطيب في الصلوات، وشرع الناس في الهرب إلى الديار المصرية والكرك والحصون المنيعة، وتأخر مجيء العساكر المصرية فاشتد لذلك الخوف.
ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك البلاد فساداً، وقلِق الناس قلقاً عظيماً لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش، وخافوا خوفاً شديداً، وبدأت الأراجيف تنتشر وشرع المثبطون يوهنون من عزائم المقاتلين ويقولون: لا طاقة للمسلمين بلقاء التتار؛ لقلة المسلمين وكثرة التتار، وزينوا للناس التراجع والتأخر. ولكن تأثير العلماء ولاسيما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان يتصدى لهؤلاء المرجفين المثبطين، حتى استطاعوا أن يقنعوا الأمراء بالتصدي للتتار مهما كان الحال. واجتمع الأمراء وتعاهدوا وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم ورعاياهم ونودي بالبلد دمشق أن لا يرحل منه أحد، فسكن الناس وهدأت نفوسهم وجلس القضاة بالجامع يشجعون الناس على القتال، وتوقدت الحماسة الشعبية، وارتفعت الروح المعنوية عند العامة والجند، وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أعظم التأثير في ذلك الموقف، فلقد عمل على تهدئة النفوس، حتى كان الاستقرار الداخلي عند الناس، والشعور بالأمن ورباطة الجأش.
ثم عمل على إلهاب عواطف الأمة، وإذكاء حماستها، وتهيئتها لخوض معركة الخلاص، ثم توجه بعد ذلك ابن تيمية إلى العسكر الواصل من حماة، فاجتمع بهم فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يَحلِف للأمراء والناس: "إنكم في هذه المرة منصورون" فيقول له الأمراء: "قل إن شاء الله" فيقول: "إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً" وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله، منها قول الله تعالى -: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}[الحج:60].
وقد ظهرت عند بعضهم شُبهات تَفُتُ في عضد المحاربين للتتار، من نحو قولهم كيف نقاتل هؤلاء التتار وهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه؟!
فرد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الشبهة قائلاً: "هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليّ ومعاوية رضي الله عنهما، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق من المسلمين وهم متلبسون بالمعاصي والظلم".
فانجلى الموقف وزالت الشبهة، وتفطن العلماء والناس لذلك، ومضى يؤكد لهم هذا الموقف قائلاً: "إذا رأيتموني في ذلك الجانب -يريد جانب العدو- وعلى رأسي مصحف فاقتلوني"، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم، وامتلأت قلعة دمشق والبلد بالناس الوافدين، وازدحمت المنازل والطرق، وخرج الشيخ ابن تيمية رحمه الله من دمشق صبيحة يوم الخميس من باب النصر بمشقة كبيرة وصحبته جماعة كبيرة؛ ليشهد القتال بنفسه وبمن معه.
الصوت الثالث: الإمام أحمد ابن حنبل الثابت في زمن الفتنة:
الإمام أحمد وقف وقفة شجاعة أمام المأمون، ومن بعد المأمون، أمام حرب الاعتزال، أمام تضليل الأمة في عقيدتها وفي كتاب ربها، وقف هذا العالم البطل وقفة كلها شجاعة وكلها إباء، ويأتيه بعض العلماء يشد من أزره ويؤيده؛ ولذلك ذكر العلماء عن قضية من حدثه ومن وقف معه من الأمة، حتى أنه جاءه بعض طلابه وقالوا له: ألا تتأول يا إمامنا؟ قال: كيف أتأول والناس خلف الباب يكتبون ما أقول؟، وصمد سنوات عدة في السجن، والأغلال، والتعذيب، لم يثنه ذلك عن ذكر الله جل وعلا.
هذه مكانة هذا الإمام؛ ولذلك أصبح الإمام أحمد يقول كما نصحه أحد العلماء يقول الإمام أحمد بن حنبل: ما رأيت أحدا على حداثة سنه وقلة علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، وإني لأرجو أن يكون الله قد ختم له بخير، قال لي ذات يوم وأنا معه خاويين: يا أبا عبد الله، الله، الله إنك لست مثلي أنت رجل يُقتدى به، وقد مد الخلق أعناقهم إليك لِما يكون منك فاتق الله، واثبت لأمر الله أو نحو هذا الكلام.
يقول أحمد: فعجبت من تقويته لي وموعظته إياي.
كان في السجن وعندما أراد أن يجلد جاءه رجل قد سجن معه فقال له: يا أحمد: إنني رجل أسرق، وكلما أسرق يؤتى بي وأجلد، ومع ذلك أخرج وأسرق مرة أخرى، فلم يؤثر بي الضرب، وأنت تقوم من أجل حماية عقيدتك فإياك إياك أن أكون أنا أشد عزيمة منك، فاصمد للضرب.
الصوت الرابع: إمام الأزهر الذي نزل بكفنه إلى السوق لمواجهة تغريب المرأة:
عندما قامت الثورة كما يقولون في مصر عام اثنين وخمسين قام محمد نجيب متغطرسا وقال: سنساوي المرأة بالرجل في جميع الحقوق، وخرجت الصحف من الغد فيها أن الرئيس محمد نجيب ذكر في خطابه أنه سيساوي المرأة بالرجل، كان شيخ الأزهر في ذلك الوقت الخضر حسين رحمه الله وهو تونسي، فعندما علم بالخبر اتصل بالرئيس محمد نجيب، وقال له: إما أن تكذب الخبر، وإما سأنزل غدا بكفني إلى السوق، وأدعو الناس إلى مواجهتك.
فجاءه أعضاء مجلس الثورة، جاءوا جميعا إليه في مكتبه، في مشيخة الأزهر، وقالوا له: يا شيخنا هذا الأمر صعب ولكننا نقول لك: هذا غير صحيح.
قال: لا ينفع هذا الكلام أريد كما أعلنت أمام الملأ أن تكذب أمام الملأ، وإلا سأنزل غدا وأنا ألبس كفني، والله لن أقف حتى أنتصر في هذه المعركة أو تذهب روحي، قال له: يا مولانا أأنت مصر على موقفك؟ قال: نعم، فقام محمد نجيب وأعلن تكذيب الخبر وأنه مزيف، وكذا، وكذا وكيف يجوز لي أن أقول بهذا القول وهو يخالف الكتاب والسنة، وبدأ يتكلم في موقف هذا العالم الجليل رحمه الله.
الصوت الخامس: لأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم:
الإمام البويطي هو العلامة سيد الفقهاء يوسف أبو يعقوب بن يحيى المصري البويطي صاحب الشافعي ولازمه مدة وفاق الأقران، وكان إماماً في العلم قدوة في العمل زاهداً ربانياً متهجداً، دائم الذكر.
سعى به أصحاب ابن أبي دُؤاد حتى كتب فيه ابن أبي دُؤاد إلى والي مصر فامتحنه أي في محنة خلق القرآن فلم يجب، وكان الوالي حسن الرأي فيه، فقال له: قل فيما بيني وبينك، قال: إنه يقتدي بي مئة ألف، ولا يدرون المعنى! فأمر به أن يُحمل إلى بغداد.
قال الربيع بن سليمان: رأيته على بغل في عنقه غلٌ، وفي رجليه قيدٌ وبينه وبين الغل سلسلة فيها لَبِنَةٌ طوبة وزنها أربعون رطلاً، وهو يقول: "إنما خلق الله الخلق بِكُن فإذا كانت مخلوقة فكأن مخلوقاً خُلق بمخلوق، ولئن دخلت عليه لأصْدُقَنّه -يعني الواثق- ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم".
وتوفي رحمه الله في قيده مسجوناً بالعراق في سنة إحدى وثلاثين ومئتين من الهجرة.
وبعد أيها الأحبة ما أحوجنا والله إلى مثل هذه الصيحات في وجه الباطل، ما أحوجنا إلى علماء صادقين، ناصحين، مخلصين، قد طلقوا الدنيا ثلاثا، والله يا أحبة إن العلماء وطلبة العلم لو قاموا بواجبهم خير قيام لتغيرت أشياء كثيرة في واقعنا، لكن للأسف أصوات المصلحين قليلة، ومحاصرة، وللأسف من بيننا من باع مبادئه من أجل دنيا فانية.
وقد صدق من قال:
وإخوانٌ حسبتهم دروعا *** فكانوها، ولكن للأعادي
وخلتهم سهاما راميات *** فكانوها، ولكن في فؤادي
ختاما:تأملوا في هذه الأبيات فهي تختصر كثيرا من واقعنا، والله المستعان:
يا ضيعةَ الحق من قوم تُسيرهُمْ *** بطانةُ السوء ما قالت به فعلوا
إذا ارتمى حاكمٌ في حضن رغبته *** فحُكْمُهُ في عيون الناس مُبْتذل
ما بال أمتنا صارت معلقة *** ما بين ذي ثورة يسطو وينفعل
وبين حاكم قوم يستدير إلى *** أعدائه قابلا في الحكم ما قبلوا
وصاحب علم صار ممسحة *** للظالمين فكم أفتى وكم فعلوا
يا حائدين عن الإسلام أسكركم *** لهوٌ وأعماكُم عن ديننا الزللُ
محمد بن مشعل العتيمي
- التصنيف:
- المصدر: