ما وراء التوجه الصهيوني لفرض السـيادة على الأقصى
تتجه إسرائيل بخطواتٍ ثابتة ومتسارعة نحو تهويد المسجد الأقصى، بعد أن قطعت شوطاً كبيراً في تهويد مدينة القدس؛ ومن المفارقة أن يتزامن تسارع خطوات تهويد المسجد الأقصى، التي تتم تحت غطاء حكومي مباشر وغير مباشر، مع تواصل المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
تتجه إسرائيل بخطواتٍ ثابتة ومتسارعة نحو تهويد المسجد الأقصى، بعد أن قطعت شوطاً كبيراً في تهويد مدينة القدس؛ ومن المفارقة أن يتزامن تسارع خطوات تهويد المسجد الأقصى، التي تتم تحت غطاء حكومي مباشر وغير مباشر، مع تواصل المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
وما يثير الاستهجان أن أحداً في السلطة الفلسطينية وفي النظام الرسمي العربي بشكلٍ عام؛ لا يجد في الإجراءات الصهيونية ما يدعو للقلق على مصير أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
وقبل الخوض في حصر وسرد مظاهر وأنماط عمليات التهويد التي تستهدف الأقصى نفسه، لا حاجة هنا للتذكير بأن الشريعة اليهودية المحرَّفة ترى في الحرم القدسي الشريف المكان الذي يضم تحت جنباته الهيكل المزعوم، حيث يُقدِّرون أنه يقع تماماً تحت مسجد "القبة المشرفة".
ونحن هنا سنحاول التدليل على طابع الإجراءات التي تعكف عليها إسرائيل وتهدف لتهويد الحرم القدسي الشريف.
مشاريع قوانين برلمانية لفرض السيادة اليهودية على الحرم
إن أخطر مظاهر التحرُّك الصهيوني لتهويد المسجد الأقصى تتمثَّل في المبادرة التي يعكف عليها حالياً وزراء ونواب في الائتلاف الحاكم، والهادفة إلى تمرير مشروع قانون في البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) ينص على فرض السيادة اليهودية على المسجد الأقصى.
وقد بادر إلى طرح الفكرة نواب من حزب "البيت اليهودي" الذي يرأسه نائب رئيس الوزراء ووزير الاقتصاد، نفتالي بنت، وهو ثالث أكبر حزب في الائتلاف الحاكم. وعلى الرغم من عدم وضوح الاستحقاقات المترتبة على هذا القانون في حال أقر، فإنه بكل تأكيد سيفضي إلى نزع صلاحيات إدارته من دائرة الأوقاف الإسلامية، وتسليمها لوزارة الأديان الصهيونية.
وكما يُستدل من الجدل الدائر في الكنيست حول مسوغات القانون؛ فإن المتحمّسين له يرون أنه يهدف إلى توفير مُسوِّغ قانوني ودستوري يسمح بإحداث نقلة كبيرة في تعاطي الحكومة الإسرائيلية مع المسجد الأقصى، ويُمهّد لتبنّي سياسات تهويد أكثر وضوحاً، وفي المقابل يُقلِّص من الحضور الإسلامي فيه.
وعلى الرغم من أن ديوان نتنياهو يتحفَّظ على مشروع القانون؛ إلا أن المفارقة تكمن في حقيقة أن أكثر المتحمسين لسنّ القانون هم تحديداً نواب حزب "الليكود" الذي يرأسه نتنياهو نفسه؛ وعلى رأس هؤلاء: زئيف إلكين، نائب وزير الخارجية، وداني دانون، نائب وزير الحرب، وأوفير أوكينوس، نائب وزير الإسكان.
ويحظى مشروع القانون بدعم حزب "إسرائيل بيتنا" الذي يتزعمه أفيغدور ليبرمان؛ مع العلم أن البرنامج الانتخابي لهذا الحزب تضمن بنداً ينص على التزام الحزب بفرض السيادة اليهودية على المسجد الأقصى.
محاولة تكريس حق اليهود بالصلاة في "الأقصى"
على الرغم من أن السلطات الصهيونية تسمح لليهود بتدنيس المسجد الأقصى منذ أن تم احتلال المدينة المقدسة خلال حرب 1967م؛ إلا أنها في المقابل حرصت على عدم السماح لهم بالصلاة في المسجد الأقصى، وذلك لمسوغين أساسيين:
أولاً: مسوغ سياسي
لقد خشيت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أن يؤدي السماح لليهود بالصلاة في المسجد الأقصى إلى ردة فعل فلسطينية وعربية وإسلامية عارمة تمسّ بالأمن "القومي" الصهيوني وتزيد من وتيرة عمليات المقاومة ومسوغاتها، انطلاقاً من الأراضي المحتلة وعبر الحدود مع الدول العربية، وخشية أن يتم توظيف الأمر في تبرير ضرب الأهداف الإسرائيلية واليهودية في العالم.
وقد كان من الواضح أن إسرائيل خشيت المسّ بمكانتها الدولية والإقليمية بسبب ردات الفعل المتوقعة على القمع الذي ستواجه به آلة الحرب الصهيونية الغضب الفلسطيني.
ثانياً: مسوغ "فقهي"
لقد أصدرت الحاخامية اليهودية الكبرى، التي تُمثِّل المؤسسة الدينية الرسمية في الكيان الصهيوني؛ فتوى تحظر على اليهود الصلاة في المسجد الأقصى.
وقد زعمت الفتوى، التي صدرت عام 1968م؛ أن رفات الحاخامات واليهود الذين قُتِلوا أثناء تدمير الهيكل الثاني قد اختلطت بتراب الحرم القدسي، لذا؛ فإن الصلاة لا تجوز إلا بعد إعادة بناء الهيكل وإعادة دفن رفات الحاخامات واليهود.
لقد التزمت جميع المرجعيات الدينية اليهودية بهذه الفتوى حتى عام 2008م، حيث شكَّل هذا العام نقطة تحول في الموقف "الفقهي" من مسألة صلاة اليهود في المسجد الأقصى؛ فقد وقَّع العشرات من حاخامات المدن على فتوى تؤكد أنه يمكن تجاوز المسوغات التي استندت إليها الحاخامية الكبرى في تحريم الصلاة في الحرم القدسي الشريف.
ومنذ 2008م حتى الآن أصبحت المرجعيات الدينية اليهودية التي تحث على الصلاة في المسجد الأقصى تُمثِّل الأغلبية.
وقد استندت التنظيمات اليهودية المتطرفة إلى هذه الفتاوى في تبرير عمليات اقتحام المسجد الأقصى والصلاة فيه عنوة.
إن التطور الخطير الذي حدث على هذا الصعيد هو توجه وزراء في الحكومة ونواب من الائتلاف الحاكم للقيام بدور رئيس في تنفيذ عمليات الاقتحام والصلاة في المسجد الأقصى عنوةً ودون التنسيق مع الشرطة الإسرائيلية نفسها؛ مستغلين الحصانة البرلمانية.
وقد برز وزير الإسكان، أوري أرئيل، الرجل الثاني في حزب "البيت اليهودي" المتدين، بشكلٍ خاص في تنظيم وقيادة عمليات اقتحام للمسجد الأقصى، حيث نظَّم وقاد مؤخراً ثلاث عمليات لاقتحام الأقصى، بمشاركة ساسة ونشطاء من حزبه.
ولم يكتفِ أرئيل باقتحام الأقصى، بل قام بأداء ما يُعرَف بـ "صلاة بركات كوهنيم" قبالة قبة الصخرة المشرفة.
وعرض أرئيل شريط فيديو يُوثِّق أداءه الصلاة على موقع "مفجاش"، الذي يديره، والمتخصص في التحريض على اقتحام المسجد الأقصى. وعلى خطى "أرئيل" سار "موشيه فايغلين"، النائب عن حزب الليكود الحاكم، وزعيم معسكر "القيادة اليهودية"، أحد أهم المعسكرات داخل الحزب، الذي صرَّح مراراً بأنه "من العار أن يبقى جبل الهيكل تحت سيطرة المسلمين".
وقد تعهّد فايغلين، الذي تنافس أمام نتنياهو على زعامة الليكود؛ بأن يكون إعلان السيادة اليهودية على المسجد الأقصى أول قرار يتخذه في حال وصل إلى رئاسة الحكومة في إسرائيل.
وتلعب نائبة الوزير المتدينة، تسيفي حوتبيلي، من حزب الليكود؛ دوراً مهماً في التحريض والمشاركة في عمليات اقتحام المسجد الأقصى، حيث اختارت قبل خمسة أشهر أن تحتفل بعقد قرانها في داخل المسجد الأقصى وتحت حراسة الشرطة الإسرائيلية، وتعد حوتبيلي من القيادات الشابة التي تجاهر بتطلّعها للصعود إلى قمة الهرم القيادي لليكود والحكومة.
في هذه الأثناء؛ تعاظمت الدعوات داخل الكنيست والحكومة وفي أوساط النخب اليهودية، وضمنها النخب العلمانية؛ لتقاسم مواعيد الصلاة بين المسلمين واليهود في المسجد الأقصى على غرار ما تم في المسجد الإبراهيمي في الخليل.
وتجرى حالياً مداولات بين ممثلي الأحزاب اليمينية والدينية حول سنّ قانون يلزم الحكومة بتقسيم مواعيد الصلاة في الحرم القدسي، ولا تقتصر الدعوات لاقتحام المسجد الأقصى على القيادات السياسية المتدينة، بل تعدّتها للقيادات العلمانية؛ فقد دعا الجنرال المتقاعد عوزي ديان، الذي شغل في السابق منصب نائب رئيس أركان الجيش ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، طلاب المدارس والجامعات الإسرائيلية للانقضاض على المسجد الأقصى من أجل تكريس ما أسماه "العلاقة الأزلية بين الشعب اليهودي وهذا المكان".
الدعوة لتدمير المسجد الأقصى
ماذا يحدث لو دعا رجل دين مسلم في بلد عربي أو إسلامي إلى تدمير الكنائس في هذا البلد؟
بكل تأكيد فإن التنديد والشجب سينطلق من القيادات الدينية الإسلامية قبل غيرها ضد مثل هذه الدعوات.
لكن في إسرائيل تبدو الأمور مختلفة تماماً، فمرجعيات دينية وازنة ومؤثرة تدعو جِهاراً نهاراً إلى تدمير المسجد الأقصى، وبعض هذه المرجعيات مرتبطة بالحكومة وبالأحزاب المشاركة فيها.
فعلى سبيل المثال؛ يعد الحاخام دوف ليئور، حاخام مستوطنة "كريات أربع"، المرجعية الدينية الأبرز لحزب "البيت اليهودي" الذي يحتفظ بأربع حقائب وزارية في حكومة نتنياهو، وقد أفتى هذا الحاخام صراحة بوجوب العمل على تدمير المسجد الأقصى في أسرع وقت.
وقد تبنَّت معظم المرجعيات الدينية الفتوى التي أصدرها الحاخام مردخاي إلياهو، الذي كان الحاخام الشرقي الأكبر لإسرائيل، والتي نصَّت على أن "صفاء الحياة اليهودية في أرض إسرائيل تتوقف على إعادة بناء الهيكل".
وعلى الرغم من أن مردخاي لم يتحدَّث عن تدمير المسجد الأقصى بشكلٍ صريح؛ إلا أن هذه الفتوى تتضمن دعوة ضمنية لتدميره، على اعتبار أن إعادة بناء الهيكل تتطلب تدمير الحرم.
وقد صدر مؤخراً كتاب في إسرائيل يتناول المنظمات اليهودية التي تُعنى بتدمير المسجد الأقصى، حيث أحصى الكتاب 30 منظمة، وضمنها منظمات نسوية.
وبحسب الكتاب؛ فإن اختصاصات هذه المنظمات تتفاوت بين التخطيط الفعلي والمادي لتدمير المسجد الأقصى، وهي تعمل بشكلٍ سري، في حين تتخصص منظمات أخرى في "تأصيل المسوغات الفقهية" التي توجب تدمير المسجد الأقصى ونشرها وتسويقها لدى الجمهور الصهيوني، في مسعى لتكريس رأي عام داعم لتنفيذ هذا المخطط وتحمّل تبعاته؛ في حين أن هناك منظمات تُعنى بضمان توافر الدعم المادي والمالي لتحقيق هذه الغاية.
فعلى سبيل المثال؛ هناك منظمة نسائية يطلق عليها "نساء الهيكل" تختص بجمع الحلي والمجوهرات التي سيزيَّن بها الهيكل الثالث بعد إعادة بنائه.
تهويد محيط الأقصى
من المعروف أن الآلاف من العقارات والمنازل الفلسطينية التي تُحيط بالمسجد الأقصى قد تركها أهلها في أعقاب حرب عام 1967م، حيث فرَّ بعضهم إلى الضفة الغربية، في حين نزح البعض الآخر إلى الدول العربية.
وقد أقدم البرلمان الإسرائيلي على سنّ قانون "أملاك الغائبين"، والذي منح الحكومة الصهيونية حق التصرُّف الحصري في جميع أملاك الغائبين الفلسطينيين، حيث استُغلت هذه المنازل وتلك العقارات في بناء جيوب يهودية في قلب البلدة القديمة من القدس، وتحديداً في محيط المسجد الأقصى؛ لعزله عن الأحياء الفلسطينية.
ومن اللافت أن هناك تعاوناً وثيقاً بين الحكومة الصهيونية وجماعات يهودية متخصصة في تنفيذ مشاريع التهويد في المدينة المقدسة، لا سيما منظمة "عطيرات كوهنيم"، التي يُموِّل جميع أنشطتها الملياردير اليهودي الأمريكي أورفينغ ميسكوفتيش، الذي جمع ثروته من خلال إدارة صالات القمار في أرجاء الولايات المتحدة.
وقد تلقَّت مشاريع التهويد التي تستهدف محيط المسجد الأقصى دفعة قوية الأسبوع الماضي، عندما ردَّت المحكمة الصهيونية العليا دعاوى ضد التمييز الذي تتّبعه الحكومة الإسرائيلية في تطبيق قانون "أملاك الغائبين"، حيث إن القانون يُطبَّق بشكل انتقائي، بحيث إن الحكومة لا تضع يدها على أملاك الغائبين الخاصة باليهود؛ بل على العكس، تظل عهدة لدى بلدية الاحتلال.
تهويدٌ بحماية المفاوضات
من الواضح أنه لم يكن ليتسنَّى لإسرائيل أن تُقدِم على ما تُقدِم عليه من جرائم بحق المسجد الأقصى ومدينة القدس من دون توظيف المفاوضات التي تجريها السلطة الفلسطينية معها، حيث إنه لا يمكن لطرف عالمي أو إقليمي أن يوجه نقداً لإسرائيل بسبب سياساتها في القدس، في الوقت الذي تجري فيه السلطة الفلسطينية المفاوضات معها، دون أن تُحرِّك قيادتها ساكناً.
بل على العكس؛ يكافئ رئيس السلطة، محمود عباس، إسرائيل بتعميق وتكثيف التعاون الأمني الذي يستهدف حركات المقاومة في الضفة الغربية.
المفارقة أن سلوك السلطة شجَّع إسرائيل لاتخاذ مزيد من الخطوات لتكريس إخراج قضية القدس من قائمة القضايا التي ستُبحث في المفاوضات؛ فقد قرَّرت الحكومة الإسرائيلية أن طرح قضية القدس على طاولة التفاوض لن يتسنَّى إلا في حال وافق على ذلك ثلثا أعضاء البرلمان الصهيوني، مع العلم أن اليمين الديني واليمين العلماني يسيطران على 70% من المقاعد في البرلمان، وهذا يعني أن مواصلة التفاوض بعد صدور هذا القرار تفريط واضح بالقدس ومقدساتها.
ناقوس الخطر يدق في القدس، الأقصى في خطر، فهل من مغيث؟!
صالح النعامي
- التصنيف: