المتاجرة بكلمة الحق أفسدت الحياة
أين كلمة الحق على مستوى البيت والوظيفة؟ أين كلمة الحق في مؤسساتنا وإعلامنا؟ لماذا أصبحت كلمة الحق مفقودة في حياتنا؟ ولماذا أصبح الكثير يتاجر بكلمة الحق ولو على حساب دينه وقيمه وأخلاقه ووطنه وأمته؟ لقد أمرنا الله بالحق وقول الحق وبين في كتابه أن الحق قامت به السموات والأرض وأنه لا ينفع غير الحق وأن الباطل إلى زوال
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي نور بجميل هدايته قلوب أهل السعادة، وطهر بكريم ولايته أفئدة الصادقين، فأسكن فيها وداده، ودعاها إلى ما سبق لها من عنايته فأقبلت منقادة، الحميد المجيد الموصوف بالحياة والعلم والقدرة والإرادة، نحمده على ما أولى من فضل وأفاده، ونشكره معترفين بأن الشكر منه نعمة مستفادة، وأشهد إن لا اله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير شهادة أعدها من أكبر نعمه وعطائه.
تعطف بفضلٍ منكَ يا مالكَ الورى *** فأنتَ ملاذي سيدي ومعينيِ
لئن أبعدتنيِ عن حِماكَ خَطيئتي *** فأنتَ رجائي شَافعي ويقيني
ولستُ أرى لي حُجة أبتغي بها *** رضاك إن العفوَ منكَ يقيني
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه الذي أقام به منابر الإيمان ورفع عماده، وأزال به سنان البهتان ودفع عناده وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله: ما أسهل الكلام في حياة الناس اليوم؛ في الشارع والمنتديات، وعلى المنابر وفي وسائل الإعلام، وفي الفضائيات وعبر الإنترنت والصحف، وفي الدواوين وفي المناسبات والمحافل والاجتماعات.. الكل يتكلم ويتحدث في كثير من أمور الحياة؛ ولكننا اليوم وفي كثير من مجالات الحياة أصبحنا نفتقد كلمة الحق، فلا تكاد تجد بين هذا الكم الهائل من الكلام كلمة الحق وقول الحق، وأصبح الكذب والنفاق والمجاملة وطمس للوقائع وتزوير الحقائق وتحريف الكلم عن مواضعه هو لغة العصر وشعار الزمان عند كثير من أبناء هذه الأمة حكاماً ومحكومين، علماء وطلبة علم، أدباء وشعراء، صحفيين وإعلاميين، سياسيين وقادة أحزاب، أفراداً وجماعات، رجالاً ونساء إلا من رحم الله الأمر الذي أدى إلى ضياع الكثير من القيم والأخلاق، وبسبب ذلك ساءت الكثير من العلاقات الاجتماعية وضاعت الكثير من الحقوق، وحدث الظلم بأبشع صورة، وتعلمت الأجيال الخوف والجبن وتجرعت ثقافة الخنوع والضعف والاستكانة وتسلط العدو وغيرها من المساوئ.
فأين كلمة الحق على مستوى البيت والوظيفة؟ أين كلمة الحق في مؤسساتنا وإعلامنا؟ لماذا أصبحت كلمة الحق مفقودة في حياتنا؟ ولماذا أصبح الكثير يتاجر بكلمة الحق ولو على حساب دينه وقيمه وأخلاقه ووطنه وأمته؟ لقد أمرنا الله بالحق وقول الحق وبين في كتابه أن الحق قامت به السموات والأرض وأنه لا ينفع غير الحق وأن الباطل إلى زوال، يقول تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ . قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]. وكلمة الحق المطلوب قولها هي الكلام الحقيقي الصادق الذي ينفع الله به بلاء مجاملة أو نفاق أو رياء؛ قال تعالى: {وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ . لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 7، 8]. وبيّن صلى الله عليه وسلم أن كلمة الحق وقول الحق من أعظم الجهاد في سبيل الله، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» (السلسلة الصحيحة للألباني: 491). وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم قول كلمة الحق، في الرضا والغضب، فقد ثبت في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه: «اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيرً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفذ، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين» (رواه النسائي، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي والألباني).
أيها المؤمنون عباد الله: إن المتاجرة بكلمة الحق والعدول عنها إلى الباطل والنفاق والمجاملة ليست من سلوكيات المسلمين ولا من صفاتهم وإنما هي صفات أمم غضب الله عليها ولعنها من اليهود والنصارى؛ قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171]، وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ . كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79]. وواقعنا اليوم يشهد بأن هناك خلل وضعف وتهرب من قول كلمة الحق؛ بل هناك من يتاجر بها فسفكت الدماء في بلاد المسلمين وانتهكت الأموال والأعراض وحدث الشقاق والنزاع وحدث الخلافات بين أفراد هذه الأمة واستطال المسلم في عرض أخيه وماله ودمه. وبهذا السلوك تم تبرير ظلم الظلمة وتجبر الطغاة وتغييب الحق والعدل. ولماذا يلجأ المرء إلى المتاجرة بكلمة الحق والسكوت عن قولها.؟ هل خوفاً من الموت وطلباً للحياة؟ فإنها بيد الله. أم من أجل حفنة من المال؟ أم طمع في منصب أو جاه؟ فإن ما عند الله خير وأبقى. ثم إن قول كلمة الحق لا يقرب من أجل ولا يحرم من رزق يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يمنعنَّ أحدكم رهبةُ الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرب من أجلٍ ولا يباعد من رزق، أن يقول بحق، أو يذكر بعظيم» (رواه أحمد في المسند: 11494 بإسناد صحيح)، وفي الحديث الآخر قال: «لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه، أو شهده، أو سمعه» (الألباني في السلسلة الصحيحة: 1/271). أم أن سبب ذلك الخوف والجبن؟ فأين إيمانك؟! وأين عقيدتك؟! وأين خشيتك من الله عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحقرن أحدكم نفسه، قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؛ قال: يرى أمرًا لله عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة ما منعك أن تقول في كذا وكذا؛ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى» (رواه ابن ماجة 2: 252 بإسناد صحيح)، والله عز وجل يقول: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39].
وقد توعد الله الذين لا يقولون الحق ويعدلون عنه إلى غير بعذاب شديد فقال سبحانه: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]. وانظروا إلى هذه الأمة عندما كان الإيمان يملأ قلوب أبنائها، وعندما كانت تقول كلمة الحق وتصدع به دون خوف أو وجل كيف أثرت في الحياة فشيدت حضارة، وأورثت عزاً، وبنت مجداً وقبل ذلك كله أنها أرضت الخالق سبحانه. دخل سليمان بن عبد الملك المدينة، فأقام بها ثلاثاً، فقال: ما ههنا رجل ممن أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدثنا؟ فقيل له: ها هنا رجل يقال له أبو حازم، فبعث إليه فجاء، فقال سليمان: يا أبا حازم، ما هذا الجفاء؟ قال أبو حازم: وأي جفاء رأيت مني؟ فقال له: أتاني وجوه المدينة كلهم ولم تأتني؟! فقال: ما جرى بيني وبينك معرفة آتيك عليها، قال: صدق الشيخ، يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب، قال: صدقت يا أبا حازم، فكيف القدوم على الله تعالى؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله فرحاً مسروراً، وأما المسيء فكالآبق (الآبق: أي العبد الهارب من سيده) يقدم على مولاه خائفاً محزوناً، فبكى سليمان وقال: ليت شعري، ما لنا عند الله يا أبا حازم؟ فقال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله؟ قال: عند قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}[الانفطار: 13، 14]. قال يا أبا حازم، فأين رحمة الله؟ قال: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] قال: يا أبا حازم، من أعقل الناس؟ قال: من تعلم الحكمة وعلمها الناس، قال: فمن أحمق الناس؟ قال: من حط نفسه في هوى رجل وهو ظالم، فباع آخرته بدنيا غيره، قال: يا أبا حازم فما أسمع الدعاء؟ قال: دعاء المخبتين، قال: فما أزكى الصدقة؟ قال: جهد المقل، قال يا أبا حازم، ما تقول فيما نحن فيه؟ قال: أعفني من هذا، قال سليمان: نصيحة تلقيها، قال أبو حازم: إن ناساً أخذوا هذا الأمر عَنوة من غير مشاورة المسلمين، ولا إجماع عن رأيهم، فسفكوا فيه الدماء على طلب الدنيا، ثم ارتحلوا عنه، فليت شعري، ما قالوا؟ وما قيل لهم؟ فقال بعض جلسائهم: بئس ما قلت يا شيخ، فقال أبو حازم: كذبت، إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه، قال سليمان: يا أبا حازم، أصبحنا تصيب منا ونصيب منك، قال: أعوذ بالله من ذلك، قال: ولمَ؟ قال: أخاف أن أركن إليكم شيئاً قليلاً، فيذيقني ضعف الحياة، وضعف الممات، قال: فأشر عليّ، قال: اتق الله أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك، قال: يا أبا حازم، ادع لنا بخير، فقال: اللهم إن كان سليمان وليك فيسره للخير، وإن كان غير ذلك، فخذ إلى الخير بناصيته، فقال: يا غلام، هات مائة دينار، ثم قال: خذ يا أبا حازم، قال لا حاجة لي فيها (وفيات الأعيان: ج2/ص423).
عباد الله: إن لنا أن نتساءل لماذا سقطت كلمة الحق واختفت أمام المنصب والجاه؟ أين كلمة الحق للمدير في مؤسسته من قِبل موظفيه؟ وأين كلمة الحق للشيخ في قبيلته من قبل أتباعه؟ أين كلمة الحق من عالم رباني لا يخشى إلا الله ولا يعرف إنزال الفتاوى حسب الطلب؟ أين كلمة الحق في بيوتنا من الزوج لزوجته ومن الزوجة لزوجها؟ أين كلمة الحق في محاكمنا وشهاداتنا وأعمالنا؟ بل أين كلمة الحق أمام الحاكم الظالم والملك الجائر والوزير الخائن وهو يفسد ويعبث بمقدرات أمته ووطنه والكل يمجده ويصفق له ويثني عليه ولا يجد كلمة توقظه من غفلته؟ لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ الْعِرَاقَ أَرْسَلَ إِلَى الْحَسَنِ البصري وَإِلَى الشَّعْبِيِّ، فَدَخَلَ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ مُتَوَكِّئٌ عَلَى عَصًا لَهُ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ مُعَظِّمًا لَهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ الأَمِيرَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ يَكْتُبُ إِلَيَّ كُتُبًا أَعْرِفُ أَنَّ فِي إِنْفَاذِهَا الْهَلَكَةَ فَإِنْ أَطَعْتُهُ عَصَيْتُ اللَّهَ، وَإِنْ عَصَيْتُهُ أَطَعْتُ اللَّهَ، فَمَا تَرَيَا لِي فِي مُتَابَعَتِي أَنَّهُ يُرْجَى؟ قَالَ الْحَسَنُ: أَجِبِ الأَمِيرَ، فَتَكَلَّمَ الشَّعْبِيُّ، فَانْحَطَّ فِي حَبْلِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وكأنه جامله بعض الشيء، فَقَالَ: مَا تَقُولُ أَنْتَ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ فَقَالَ: أَيُّهَا الأَمِيرُ قَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ مَا قَدْ سَمِعْتُ، قَالَ: مَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ يَا عُمَرُ بْنَ هُبَيْرَةَ يُوشِكُ أَنْ يَنْزِلَ بِكَ مَلَكٌ مِنْ مَلائِكَةِ اللَّهِ فَظًّا غَلِيظًا لا يَعْصِي اللَّهَ مَا أَمَرَهُ، فَيُخْرِجُكَ مِنْ سَعَةِ قَصْرِكَ إِلَى ضِيقِ قَبْرِكَ، يَا عُمَرُ بْنَ هُبَيْرَةَ إِنْ تَعْصِ اللَّهَ لا يَعْصِمْكَ مِنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَلَنْ يَعْصِمَكَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنَ اللَّهِ، يَا عُمَرُ بْنَ هُبَيْرَةَ لا تَأْمَنْ أَنْ يَنْظُرَ اللَّهُ إِلَيْكَ نَظْرَةَ مَقْتٍ عَلَى أَقْبَحِ مَا تَعْمَلُ فِي طَاعَةِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَيُغْلَقَ بِهَا بَابُ الْمَغْفِرَةِ دُونَكَ، يَا عُمَرُ بْنَ هُبَيْرَةَ لَقَدْ أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ، كَانُوا وَاللَّهِ عَلَى الدُّنْيَا وَهِيَ مُقْبِلَةٌ أَشَدَّ إِدْبَارًا عَلَيْهَا مِنْ إِقْبَالِكُمْ عَلَيْهَا وَهِيَ مُدْبِرَةٌ، يَا عُمَرُ بْنَ هُبَيْرَةَ، إِنِّي أُخَوِّفُكَ مَقَامًا خَوَّفَكَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14]، وَيَا عُمَرُ بْنَ هُبَيْرَةَ إِنْ تَكُ مَعَ اللَّهِ فِي طَاعَتِهِ كَفَاكَ بَائِقَةَ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَإِنْ تَكُ مَعَ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَكَلَكَ إِلَيْهِ، قَالَ: فَبَكَى ابْنُ هُبَيْرَةَ وَقَامَ بِعَبْرَتِهِ قَالَ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَرْسَلَ إِلَيْهِمَا بِإِذْنِهِمَا وَجَوَائِزِهِمَا، فَأَكْثَرَ فِيهَا لِلْحَسَنِ وَكَانَ فِي جَائِزَةِ الشَّعْبِيِّ بَعْضُ الإِقْتَارِ، فَخَرَجَ الشَّعْبِيُّ إِلَى الْمَسْجِدِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُؤْثِرَ اللَّهَ عَلَى خَلْقِهِ فَلْيَفْعَلْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا عَلِمَ الْحَسَنُ مِنْهُ شَيْئًا فَجَهِلْتُهُ، وَلَكِنْ أَرَدْتُ وَجْهَ ابْنِ هُبَيْرَةَ، فَأَقْصَانِي اللَّهُ مِنْهُ، فَكَانَ الْحَسَنُ مَعَ اللَّهِ عَلَى طَاعَتِهِ فَحَابَاهُ اللَّهُ وَأَدْنَاهُ.
ألا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا الله باطلٌ *** وكُلُّ خَلِيلٍ في سوى الله كاذبُ
شَكَوْتُ إِلى رَبِّي ولَيْسَ لِغَيْرِهِ *** وعِندَ الكَريمِ البَرِّ تُرجَى المطالبُ
فإن يَرْضَ عنّي لم أُبَالِ بِخَلْقِهِ *** وويلي إِذا أَرْضَيْتُهم وهْوَ غاضبُ
فاللهم ارحم في الدنيا غربتنا وفي القبور وحشتنا وارحم موقفنا غدا بين يديك، واجعلنا من عبادك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. قلت قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: مما يعين المرء على قول الحق والثبات عليه تذكر عظمة الله وقدرته وسعة ملكه وسلطانه فتصغر عندها في عينه كل الشهوات والأطماع فيجتهد لإرضاء ربه وخالقه مهما كلفه ذلك. ومن هذه الأمور الصبر في ذات الله قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]. وفي حديث طويل لأنس بن مالك رضي الله عنه، في قصة توزيع غنائم هوازن، قال للأنصار آمرا لهم بالصبر: «إنكم سترون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على الحوض» (رواه البخاري ومسلم). ومن ذلك التوكل على الله والاعتماد عليه وإحسان الظن به فبيده سبحانه الموت والحياة، والرزق والسعادة والشقاء، فلماذا يذل المرء نفسه بسبب متاع زائل ويغضب الخالق ليرضي المخلوق الذي لا يملك ضراً ولا نفعاً. هذا سيد قطب رحمه الله، عندما طلب منه المحقق، أن يكتب كلمة اعتذار، واستعطاف لرئيس الدولة، أجاب بقوة المؤمن الثابت على الحق والمبدأ: إن السبابة التي ترتفع بشهادة التوحيد، في التشهد في الصلاة، لتأبى أن تكتب كلمة اعتذار لطاغية، وواجه عقوبة الإعدام، بقلب ثابت وصدر منشرح.
عباد الله: ومن ذلك تدبر قصص الأنبياء والصالحين والعظماء ودراستها للتأسي والعمل، قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]. وعلى المرء أن يتذكر الأجر الذي سيناله من الله في الدنيا والآخرة أو العذاب والحرمان والطرد من رحمة الله إن خالف أمره. وعلينا أخيراً أن نتذكر المصالح التي ستجنيها الأمة من قول كلمة الحق وعدم المتاجرة بها وتغييبها من مواقع الناس؛ فكلمة الحق كلمة طيبة كشجرة طيبه أصلها ثابت وفرعها في السماء؛ بكلمة الحق يُنصر المظلوم، ويُردع الظالم، وتُحفظ الدماء، وتُصان الأعراض، وتُؤدى الحقوق، ويُؤتى بالواجبات، وتقوى العلاقات ويأمن الإنسان على نفسه وماله وعرضه. وبكلمة الحق يقل المنكر ويضعف الفساد، وتتلاشى المحسوبية، ويندحر النفاق، وتتقن الأعمال ويعبد الله حق عبادته، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العَصر: 1- 3]... فاللهم اهدنا إلى الحق وثبتنا عليه واجعلنا من أهله.
هذا وصلوا وسلموا على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56]، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع كلمة الحق والدين وانصر عبادك المؤمنين...والحمد لله رب العالمين.
حسان أحمد العماري
- التصنيف:
- المصدر: