أين البلسم ... ؟

منذ 2007-01-26

أم حسان الحلو

لا … إنني لا أراه ، لا أعرفه ، لا أحس به فمن الطبيعي أنني لا أستطيع وصفه … لا أسمعه ، لا أفهمه ، لا أدرك كنهه ولا أعرف مصدره ، فكيف أفرح به ؟ … حواسي تعطلت ، أحاسيسي تناثرت ، جوارحي تحجرت، كلماتي ماتت … وآهاتي تدفقت … باختصار يا حضرة الدكتور : أنا ميتة !! … قتلت منذ زمن ولم ينعني أحد !! … أنا التي نعيت نفسي إلى نفسي ، وكل الذين يعرفونني هم الذين يمشون في جنازتي التي تشيع يوميا !! …

بدا كلام السيدة ( ساهرة ) غريبا على مسامع الدكتور ( سامي ) الذي بدا مهتما بكلام محدثته رغم ما فيه من غرابة ، لكنه لا يستطيع أن يتجاهل قسمات وجهها الصادقة ونظراتها المفعمة بالحزن الدفين … فسألها :

منذ متى وأنت على هذه الحالة ؟ ..

لا أعرف زمنا بالضبط ، كل الذي أعرفه تماما أنني لم أحس بجمال الحياة لحظة واحدة ، الشيء الوحيد الذي أفهمه أن الحياة لا تستحق أن تعاش !! ..

هز الدكتور رأسه ونظر إلى ورقة المريضة .

  وتساءل : منذ متى داهمك هذا الإحساس ؟! ..

منذ خمسة وثلاثين عاما … وربما قبل ذلك أيضا !! .

رفع الدكتور رأسه وقال :قلت أنك متزوجة منذ عشرة أعوام ولديك أطفال ؟ ..

نعم ..

ولم تعرفي الفرحة أو البهجة أبدا ولا حتى يوم زفافك ؟.. فأجابت بحزن :

ربما زارتني ومضة من الفرح سرعان ما تلاشت …!!

اعتدل الدكتور في جلسته وقال :

هل ازدادت تعاستك بعد زواجك ؟ ..

فأجابت بثقة : كلا.. إن زوجي إنسان عظيم ، يحاول إسعادي قدر المستطاع ، أنا التي قلبت حياته إلى جحيم كما يبدو .

  واسترسلت بقولها :أنا التي أقترح أماكن زياراتنا ، وما إن أدخل وأسلم على الناس حتى أنادي عليه ، وأطلب منه الخروج الفوري ، وأنا التي أطلب منه أن يدعو أصدقاءنا لزيارتنا ، وما إن يدخلوا حتى أتبرم في وجوههم ، وأبدأ بالشكوى والأنين ، وعندما يقترح علي الذهاب مع صديقاتي … أفرح لذلك وأعود إليه بعد قليل … وعندما يقترح علي زيارة أهله أسارع بذلك ثم أخرج من بيتهم مسرعة ..!!

تابع الدكتور سامي حديثها ، وأحس أن هناك فجوة ما ، فهي لم تتحدث عن أهلها حتى الآن ، فسألها :

وهل تزورين أهلك ؟ … أشاحت بوجهها وقالت :

أنا ليس لي أهل … أقصد ليس لي " أم " .

ابتسم الدكتور سامي ابتسامة خفيفة … يبدو أنه بدأ يضع إصبعه على الجرح ، فسألها :

حدثيني عن أهلك ؟ ..

لا أعرف عنهم شيئا …

أهم بعيدون عنك ؟ … فقالت بيأس قاتل :

لا ، إنهم يشاركوننا بلدنا وحتى شارعنا .

تساءل بدهشة : ومتى رأيتهم آخر مرة ؟

فأجابت وكأنها تحاول صرف أمر مزعج : لا أذكر !! …

فقال لنفسه : أما الآن فقد وجدتها !! … والتفت إليها وسألها :

هل من الممكن أن تحدثينني عن طفولتك ؟

بدت وكأنها خائفة … مضطربة … وجلة … شحب وجهها وضاقت أنفاسها ، وارتجفت أطرافها وقالت :

لا … لا أرجوك ، أنا لا أستطيع ، أرجو إعفائي …إني أخاف ، أخشى أن …

فنظر إليها نظرة إشفاق وقال لها :

اطمئني ، فلن يعلم أحد بذلك …

هدأ روعها قليلا وبدأت حديثها بعد تردد :

كنت في الثالثة من عمري عندما ماتت أمي رحمة الله عليها ، أذكر وجهها الجميل وصوتها الرخيم الحنون ، إنها لا تغيب عني ، تركتني طفلة وحيدة في بيت كبير ومع أب غارق حتى أذنيه في أمور دنياه ، أذكر أن جدتي لأمي احتضنتني فترة ، غبت فيها عن بيتي وألعابي وأدواتي وذكريات أمي ، وغاب وجه أبي عني ، كانت جدتي تغمرني بالعطف والهدايا ، حتى إذا بلغت السادسة من عمري مرضت جدتي وأرسلت إلى والدي كي تستشيره في أمري ، فاقترح بأن يأخذني لكي أعيش معه في بيته الجديد ومع زوجته الجديدة ، وكانت الصدمة الثانية القاسية في حياتي، فقد حزنت على جدتي أضعاف حزني على أمي وكيف لا وقد عوضتني الكثير مما افتقدته ..

أخذني والدي وأمسك بيدي ، شعرت منذ الوهلة الأولى بخشونة يده وقسوتها ، ووضعني في سيارته الفارهة وانطلق بي …

أدخلني بيته ، كان كل ما في البيت غريبا علي ، أشار إلى سيدة مدللة تجلس في الركن وتشاهد الشاشة وقال : هذه أمك يا " ساهرة " ، فابتسمت تلك السيدة ابتسامة صفراء ، وهزت رأسها مع خصلات شعرها ولم تغير جلستها وقالت ببرود : أهلا أهلا … أنت " ساهرة " إذن … أصبحت صبية يمكن الاعتماد عليها ..

رأيت صغارا من حولي ، منهم من يركلني ومنهم من كان يضحك معي أو علي لا أدري … مشيت في البيت خطوات متثاقلة … شعرت أن العيون علي معقودة ، والأنفاس علي معدودة …

جلست بجوار والدي تائهة النظرات ، لا أدري ما بي … حاولت أن أمسك يده فقالت السيدة بصوت حازم :

اسمعي يا ( ساهرة ) ، أنا لا أحب الدلع … اجلسي مؤدبة ، مفهوم ؟!!

وقفت وأردت التحرك ، فقالت :

اسمعي يا بنت .. لا بد أن تعرفي التعليمات ، انظري لهذا البيت كم هو مرتب ونظيف وأنيق وجميل ، وأنا لا أحب الفوضى التي يحدثها أمثالك من الصغار … وأردفت :

اسمعي أنا لا أحب أن أراك في كل المواقع في هذا البيت … افهمي منذ الآن أن هذا طريقك لتلك الغرفة التي ستكون غرفتك … بجوارها حمام يمكنك استعماله ، وهذا الطريق الذي يؤدي إلى المطبخ … طبعا يمكنك أن تدخلي المطبخ وقت استدعائك ، مفهوم ؟!! .

نظرت إلى والدي فتجاهل نظراتي ، وأشاح بوجهه عني ، وقال بصوت هادئ : ادخلي غرفتك يا حبيبتي واستريحي ..

مشيت بخطوات متثاقلة ، وبدأت أشعر برغبة جارفة في البكاء … لكني كتمت دموعي وأنفاسي وفتحت باب غرفتي وجلست فيها …

يا الله … صحيح أن الغرفة جميلة وكل ما فيها أنيق ومرتب ، لكني أشعر أنها غريبة عني … وأنا عنها أشد غرابة ، وقفت ونظرت من النافذة فرأيت سيدة البيت … تقطف ورودا جميلة … تمنيت لو أكون بجوارها لأقطف وردة أو أنعم بعبيرها ، تحلق الصبية حولها ونادوني … رفعت رأسها ونظرت إلي نظرات قاسية … انتحرت ابتسامتي فورا … قالت : أغلقي الشباك واجلسي في غرفتك مؤدبة ولا تحاولي التجسس على الآخرين … وتمتمت : يا الله يبدو أنها فتاة متعبة …

بوجوه من القسوة لا أنساها استقبلتني زوجة أبي ، فزرعت بذورا من الحزن والأسى واللوعة والحرمان في سويداء قلبي … وهكذا فقد تقلبت بين أنواع من الحرمان والأسى وتجرعت كؤوس المرارة والعلقم على مر الأيام …

قال الدكتور بدهشة : … وماذا كان موقف والدك ؟ أجابت :

والدي كان يحاول الدفاع عني أحيانا ، لكنه كان لا يصمد كثيرا أمام شكاويها وألاعيبها وكيدها لي … بل كانت تحول بيني وبين الكلام مع والدي مباشرة ، وكان هو يكتفي بنشرة الأخبار التي تبثها له كل يوم …

نظر الدكتور نظرات بعيدة وقال :

قد أجد بعض المبررات لنظرتك السوداوية البائسة لهذه الحياة ، لكن لم أدرك حتى الآن لماذا كل هذا الحزن والتشاؤم وهذه الكآبة القاتلة ؟ …

عشرون عاما عشتها بين أهلي الغرباء .. عشرون عاما يا حضرة الدكتور عشتها على رصيف الحياة لكن وسط بيت وعائلة …

كانت السيدة ربة البيت تسهر من أجل إطفاء بريق سعادة قد يلوح بها الدهر لي ، كان حزنها يتصاعد وصوتها يعلو عندما تبصر على وجهي شبه ابتسامة … كان ذهنها متوقدا بالأوامر السريعة التي تقطع علي فرحي وابتسامتي وتفكيري وتعليمي ، لقد أصرت أن تقلب كل ضحكة أضحكها إلى دموع منهمرة … وكل فكرة حلوة إلى فكرة مدمرة ، أنا يا حضرة الدكتور لم أعرف سوى قبح الحياة وضياعها وتشوهها وترهلها … لقد حاولت الـ..

وصمتت ومسحت دموعا انحدرت على وجنتيها … ثم أكملت : أنا أكره الحياة أريد أن تنتهي وبأقصى سرعة !! ابتسم الدكتور ابتسامة هادئة وقال : ربما تكون الحياة لا تستحق أن تعاش كما تشعرين … ولكن ألا تتمنين العيش من أجل صغارك ؟ ما ذنب هؤلاء الصغار ؟ أترغبين أن تغرسي في قلوبهم ما غرس في قلبك ؟! .

يؤسفني أن أقول لك يا دكتور … بأنني أشعر بأن الأمومة شرف لا يستحقه أمثالي … يبدو لي أني لست إنسانة كما تظنون .. ربما تغيرت فصيلة دمي … وتبدلت خلايا جسدي ، أجل أنا لست إنسانة ولا أستطيع أن أتصرف تصرفات إنسانية حتى مع صغاري وزوجي …

أنا جسد حي وروح ميتة قتلت ولم يعاقب القانون قاتلها ، أنا من يصدق علي وصف الشاعر القائل :

وقـــاتل النــفــس مأخوذ بفــعلــته            وقـــاتل الــروح لا يــدري به أحـــد

دكتور … أرجوك هل تستطيع مساعدتي ؟ هل أجد عندك بلسما ؟ ..

فأجابها الدكتور بثقة : إن كآبتك شديدة و مزمنة ، ويؤسفني أن أخبرك بأن بلسمك ليس عندي ولن تجديه إلا في عالم المعاني الرفيعة وفي ظل كتاب الله ، أنصحك بالتعرف على أخوات صادقات مؤمنات ، فهن الوحيدات القادرات على إروائك بينابيع خير دفاق تغسل ما في قلبك من ران وأدران … عندها سيتدفق الخير في دمك ويفيض على يديك ، فيروي صغارك ومجتمعك بل والإنسانية أجمــع ..

المصدر: ألبوم نخبة النخب
  • 4
  • 0
  • 10,752
  • حسان صبح

      منذ
    [[أعجبني:]] الحمد لله القصة كونها تعبر عن حالة وجدانية يعيشها أنس كثر تمر بهم أحوال وأيام لا يستطيعوا أمام شدتها إلا أن يتمنوا الموت وقد تغافلوا عن البلسم وهو الرجوع إلى الله سبحانه فإن من دعائنا قولنا اللهم دبر لنا فإنا لا نحسن التدبير فقد يكون الشيء المفرح لك في ظاهره هلاكك فلذلك علينا جميعا أن نرضى بقضاء الله [[لم يعجبني:]] قد تكون فيها دغدغة للعواطف وقد تفتح على الواحد منا جراحات ماضية ألئمها الزمن
  • احمد عباس حلمي

      منذ
    [[أعجبني:]] السرد القصصي جيد جدا و بها من التشويق ما يجبرك علي متابعتها [[لم يعجبني:]] النهاية قصيرة جدا فتحس ان القصة بترت
  • ام عبدالرحمن

      منذ
    [[أعجبني:]] اعجبني واقيعتها وانها قريبه جدا مني فبعض الأحداث التي تحصل لنا في الطفوله يبقى أثرها طوال العمر [[لم يعجبني:]] يأس تلك السيدة وعد تفائلها فالدنيا لا تستحق كل هذا الحزن

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً