سارة والإنذال

منذ 2007-01-30

لم تكن النار قد إلتهمت كل شيء في المدينة، ولم يكن الدخان الأسود المنبعث من المساكن والجثث والسيارات ليغطي أجواء المدينة، كلها سحب سوداء منتشرة هنا وهناك، وأعمدة دخانية تمتد في الأفق فوق الأطلال، لم ينج إلا من هرب إلى الجبال، حتى الطيور لم تنج من حمم اللهب، فقد تركت أعشاشها للدمار، وضحت بصغارها الذين شملهم الحريق.

مرت ليلة أخرى حالكة لتخلف مزيداً من الدمار، بنايات قليلة ظلت صامدة لقذائفهم المنهمرة لأيام أخرى قبل أن تنهار تماماً، دمار شاملٌ طال المدينة ولاح للمشردين الذين وقفوا على رؤوس التلال المحيطة يرقبون بأعين حزينة ويتأملون ما حل بمدينتهم التي كانت يوماً ما جميلة ورائعة.

ظلت روائح الجثث المتعفنة المختلطة بدخان القذائف تزكم الأنوف أسابيع وأياماً، وحدها الفئران كانت تشعر بزهو ونشوة.
مشت بين الأنقاض بخطوات وئيدة مضطربة مع اثنتين من قريباتها تبتغي الوصول إلى المنزل الذي ظل سليماً بالرغم من آلاف القذائف التي دكت أرجاء المدينة، دقات قلبها تخفق للخوف الجامح الذي اعتراها، نظرت إليهما نظرة ندم وحسرة، ليتنا لم نأت إلى هنا، إني خائفة.

توقفن عن المسير وسط أكوام من الركام المختلط بالجثث والأشلاء،
صرخت إحداهن بحرقة انبعثت من أعماق مرتجفة، لم تحتمل المشهد المؤلم أمامها بين الأنقاض.
طفلٌ رضيعٌ في حضن أمه التي استلقت على جدار منهار دون رأس.

ركضن مسرعات نحو منزلهن على أطراف المدينة، كان لا بد أن يجتزن الطريق الذي تمر منه الدبابات، زادت سرعة دقات قلوبهن الضعيفة، جمدت الدموع في عيونهن، شعرن بخوف داهم يهيمن عليهن، التصقت كل واحدة بأختيها.

- أتسمعين يا سارة.
تنصت والهلع يكاد يخلع قلبها من مكانه.

- يا إلهي .. يبدو أنهم قادمون إلينا.
ويتلاشى الدخان شيئاً فشيئاً لتظهر من خلفه أشباح رجال يرتدون الزي العسكري.

تصرخ سارة.
- اهربا بسرعة.

ينتبه الجنود لحركتهن .. يصرخ القائد بأتباعه.
- عليكم بهن.
قهقهات فاجرة تزيد من تلوث الأجواء المكفهرة.

مطاردة آثمة للقبض على النساء اللاتي وقعن في شرك المعتدين، صراخ وعويل.

فزعت الغربان فطارت بعيداً لتحلق في السماء، ناحت الريح وصفقت بعنفوانها أغصان الأشجار المعفرة بسواد الدخان، سيقت النساء نحو المعسكر، كانت توسلاتهن ضعيفة مكتومة من شدة الرعب والأسى، صرخن بأصواتهن المبحوحة يطلبن الرحمة والشفقة، وقفن أمام القائد الفظ يطلبن النجاة، جعلت سارة ترجوه بحرارة، جعلت تستثير فيه نخوة الرجولة وشهامتها.

- أتقتلون نساء ضعيفات لا حول لهن ولا قوة، أرجوك .. خذ كل ما في منزلنا، لا نريد شيئاً، فقط أطلقوا سراحنا.

ينظر إليها بعينين وقحتين، ينفجر مقهقهاً بأعلى صوته، تهتز لمشهده وهو يترنح أمامها، تدرك أنه شرب حتى الثمالة، تتمتم بأسى.

- يا إلهي .. أي رجال هؤلاء .. ماذا نفعل ؟!!
يتقدم نحوها، يحاول مد يده ليمسك بها، تبعد يده بقوة.
- أبعد يدك عني أيها الحقير.
تعود للمحاولة مرة أخرى.
- أرجوك دعنا نذهب، من أجل أطفالنا، إنهم بانتظارنا.
ينظر إلى جنوده بغضب.
- قيدوهن.
يهجم الجنود كالذئاب، تصرخ النساء.
تتمايل أغصان الشجر مصدرة صوتاً حزيناً، تسمع أصوات اشتباكات بعيدة، قذائف تنهمر تباعاً.
يصرخ أحد الجنود.
- يبدو أن معركة نشبت هناك.
يشير إلى الأفق حيث ارتفعت أعمدة الدخان، يتنهد القائد، يشير إلى جنوده بعنجهية.
- تخلصوا منهن بسرعة.
يمسك بهن الجنود بقوة، يوثقون عصابات حول أعينهن، يسندونهن إلى جدار مخرق بالقذائف والرصاص، يقفن مرتجفات وقد جف الماء في حلوقهن، يرددن الشهادتين، يصطف الجنود بأسلحتهم، يصوبون فوهات البنادق نحو صدورهن، ينظر الضابط بحقد نحوهن.
- أطلقوا الرصاص.

وتنهمر رصاصات الغدر الآثمة على الأجساد الطرية البريئة، تصرخ النساء صرخة مدوية، يتضاحك الجنود، تزمجر الرياح فتهتز لها غصون الشجر، تنعق الغربان فيمتزج نعيقها بصوت الرصاص، يتقدم أحد الجنود نحو سارة، تمتد يده لنزع قرطها من أذنها، يشده بعنف فيمزق أذنها، تسيل الدماء على خدها، يرفع يدها فيرى خاتماً في أصبعها، يتحسس جيبه يبحث عن سكين.
- آآه .. لقد نسيت السكين في الدبابة.

يركلها بقدمه فلا تتحرك، يظنها ميتة مثل قريبتيها، يلتفت يمنة ويسرة يبحث عن شيء، يعثر على فراش مهترئ ممزق، يهرع نحوه، يجمعه ويحمله ويعود، يلقي به على جثثهن، يخرج ولاعة من جيبه، ينظر بعينين ينبعث منهما شرر الحقد الأعمى، يبتسم ابتسامة تشف وانتقام، يشعل النار، يسمع صراخاً من قبل الجنود، يهرع نحوهم، يقفز بخفة فوق ظهر دبابة، تتململ سارة، تنسل من تحت الفراش قبل أن يحترق، تزحف نحو الطريق وهي تنزف الدم بغزارة، تتحامل وتواصل الزحف، تنظر إلى الأفق فترى غمامات يغشين عينيها، تشعر بدوار، تحاول النهوض، تتكئ على شجرة تترنح وتهوي، يخرج من بين الأشجار رجل فتي يبدو أنه كان يراقب المكان،
يشير إلى مجموعة كانت تختبئ بين الأشجار، يخرجون وهم يحملون الأسلحة، يتقدم أحدهم ليرى إن كانت سارة ما زالت حية أم لا، يحس نبضها، يطرق قليلاً.

- إنها لا تزال حية، ولكن حالتها خطيرة .

يحملها المجاهدون ويبحثون عن مكان خفي يعالجونها فيه، يلجأون لمغارة في التلة القريبة، يضمدون جراحها، ينتظرون بأعين يقظة منتبهة، تصدر صوت أنين، يهرع أحد المجاهدين نحوها، تستيقظ شيئاً فشيئاً، تنظر حولها، تدرك أنها نجت دون قريبتيها، تنهمر الدموع على وجنتيها، يتنهد المجاهدون، تشرق الشمس وترسل أشعتها الذهبية، تبدو السماء زرقاء داكنة تتناثر في أرجائها سحب بيضاء متفرقة، يتهيأ المجاهدون للعودة إلى معسكرهم، تمضي القافلة نحو الجبال، تلوح في الأفق سحب الدخان، تصل المجموعة لمكان حدثت فيه مواجهة بالسلاح، تظهر آليات مدمرة، تنظر سارة بدهشة، تتأمل الجثث المبعثرة للجنود الروس، تحاول النهوض بصعوبة، ينتبه لها أحد المجاهدين.
- على رسلك يا سارة .. إنك جريحة.
تشير إلى أحد القتلى.
- ماذا .. هل تعرفينه ؟.
- يا إلهي .. إنه هو.
- ومن يكون ؟
- إنه هو .. إنه الضابط الذي أمر بقتلنا .. الحمد لله .. الحمد لله.

  • 2
  • 0
  • 10,752
  • abu hamzah

      منذ
    [[أعجبني:]] مقالة رائعة وجيدة تعبر عن وجه من واقعنا المرير اريد سؤالك سؤال اتمنى لو تجيبني بضصراحة على بريدي الالكتروني لماذا اخترت اسم سارة؟
  • أحمد

      منذ
    [[أعجبني:]] استم بارك الله فيك
  • أحمد

      منذ
    لم يعجبني: عدم الحديث عن هجوم المجاهدين

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً