هذا هو الطريق
منذ 2007-05-29
لقد بُعث رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بهذا الدين، وأخصب بلاد العرب وأغناها ليست في يد العرب، إنما هي في أيدي غيرهم من الأجناس!
بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم، يحكمها أمراء عرب من قبل الروم، وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس، يحكمها أمراء عرب من قبل الفرس، وليست في أيدي العرب إلا الحجاز تهامة ونجد، وما إليها من الصحاري القاحلة التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك!
وربما قيل أنه كان باستطاعة محمد -صلى الله عليه وسلم-وهو الصادق الأمين الذي حكَمه أشراف قريش من قبل في وضع الحجر الأسود، وارتضوا حكمه منذ خمسة عشر عاماً قبل الرسالة، والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسباً.. أنه كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب التي أكلتها الثارات ومزقتها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة.. الرومان في الشمال والفرس في الجنوب.. وإعلاء راية العربية والعروبة، وإنشاء وحدة قومية في كل أرجاء الجزيرة.
وربما قيل: أنه لو دعا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة، بدلاً من أن يعاني ثلاثة عشر عاماً في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة!
وربما قيل: أن محمداً-صلى الله عليه وسلم- كان خليقاً- بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة، وبعد أن يولَوه فيهم القيادة والسيادة، وبعد استجماع السلطان في يديه، والمجد فوق مفرقيه-أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعث بها، في تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبَدهم لسلطانه البشرى!
ولكن الله-سبحانه- وهو العليم الحكيم، لم يوجه رسوله- صلى الله عليه وسلم- هذا التوجيه! إنما وجهه إلى أن يصدع بـ (لا اله إلا الله)، وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء!
لماذا؟ أن الله-سبحانه- لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه. إنما هو-سبحانه- يعلم أن هذا ليس هو الطريق، ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي، إلى يد طاغوت عربي.
فالطاغوت كله طاغوت! إن الأرض لله، ويجب أن تخلص لله. ولا تخلص لله إلا أن ترفع كلمة (لا اله إلا الله). وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو فارسي، إلى طاغوت عربي. فالطاغوت كله طاغوت! أن الناس عبيد لله وحده، ولا يكونون عبيداً لله إلا أن ترتفع راية(لا اله إلا الله)-لا اله إلا الله كما يدركها العربي العارف بمدلولات لغته،: لا حاكمية إلا الله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على أحد، لأن السلطان كله لله، ولأن( الجنسية) التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله.
وهذا هو الطريق..
***
وبعث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-بهذا الدين، والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعاً للثروة والعدالة.
قلة قليلة تملك المال والتجارة، وتتعامل بالربا فتتضاعف تجارتها ومالها. وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع. والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة، وجماهير كثيرة ضائعة من المال والمجد جميعاً!
وربما قيل: أنه كان في استطاعة محمد-صلى الله عليه وسلم- أن يرفعها راية اجتماعية، وأن يثيرها حرباً على طبقة الأشراف، وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع، ورد أموال الأغنياء على الفقراء!
وربما قيل: أنه لو دعا يومها رسول الله-صلى الله عليه وسلم-هذه الدعوة، لانقسم المجتمع العربي صفين: الكثرة الغالبة مع الدعوة الجديدة في وجه طغيان المال والشرف والجاه، والقلة القليلة مع هذه الموروثات، بدلاً من أن يقف المجتمع كله صفاً في وجه (لا اله إلا الله) التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس!
وربما قيل: أن محمداً-صلى الله عليه وسلم-كان خليقاً بعد أن تستجيب له الكثرة، وتوليه قيادها، فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها، أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبَدهم لسلطانه البشرى!
لكن الله-سبحانه- وهو العليم الحكيم، لم يوجهه هذا التوجيه..
لقد كان الله-سبحانه- يعلم أن هذا ليس هو الطريق.. كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لابد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل، يرد الأمر كله لله، ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة التوزيع، ومن تكافل الجميع، ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه سواء أنه ينفذ نظاماً شرعه الله، ويرجوا على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء.
فلا تمتلئ قلوب بالطمع ولا تمتلئ قلوب بالحقد، ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا وبالتخويف والإرهاب! ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح، كما يقع في الأوضاع التي تقوم على غير(لا اله إلا الله).
***
وبُعث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى- إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية.
كان التظالم فاشيا في المجتمع، تعبر عنه حكمة الشاعر (زهير بن أبي سلمى):
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه *** يهدَّم ومن لا يظلم الناس يُظلمِ
ويعبر عن القول المتعارف في الجاهلية انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً.
وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية، ومن مفاخره كذلك يعبر عن هذه الخصلة الشعر الجاهلي بجملته.. كالذي يقول طرفة بن العبد:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى*** وجدَك لم أحفل متى قام عوَّدي
فمنهن سبقى العاذلات بشـربة *** كـميت متى ما تعل بالماء تزبد
وما زال تشاربي الخـمور ولذتي *** وبذلي وإنفاقي طريقي وتالدي
إلى أن تحامتنى العشـيرة كلهـا *** وأفردت إفأـراد البعـيـــر المـعبًّــد
وكانت الدعارة- في صور شتى- من معالم هذا المجتمع- شأنه شأن كل مجتمع جاهلي قديم أو حديث- كالتي روته عائشة رضي الله عنها:
(أن النكاح في الجاهلية كان على أربع أنحاء:
فنكاح منها نكاح الناس اليوم.. يخطب الرجل إلى الرجل وليَته او ابنته، فيصدقها ثم ينكحها..
والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته- إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبعضي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها ابدً حتى يتبين حملها من ذلك الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها الرجل إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع..
ونكاح آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة، كلهم يصيبها. فإذا حملت ووضعت، ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل..
والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع من جاءها .. وهن البغايا.. كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها، جمعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطه، ودعى ابنه لا يمتنع عن ذلك)( ).
وربما قيل: أنه كان قي استطاعة محمد-صلى الله عليه وسلم- أن يعلنها دعوة إصلاحية، تتناول تقويم الأخلاق، وتطهير المجتمع، وتزكية النفوس.
وربما قيل: أنه-صلى الله عليه وسلم- كان واجداً وقتها- كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة- نفوساً طيبة يؤذيها هذا الدنس.
وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير.
وربما قال قائل: أنه لو صنع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذلك لاستجابت له- في أول الأمر- جمهرة صالحة، تتطهر أخلاقها، وتزكوا أرواحها، فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها، بدلاً من أن تثير دعوة(لا اله إلا الله) المعارضة القوية منذ أول الطريق. ولكن الله- سبحانه- كان يعلم أن ليس هذا هو الطريق!
كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم على أساس من عقيدة، تضع الموازين، وتقرر القيم، كما تقرر السلطة التي تستند إليها هذه الموازين والقيم، والجزاء الذي تملكه هذه السلطة، وتوقعه على الملتزمين والمخالفين. وأنه قبل تقرير هذه العقيدة، وتحديد هذه السلطة تظل القيم كلها متأرجحة وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك، بلا ضابط، وبلا سلطان، وبلا جزاء!
فلما تقررت العقيدة-بعد الشاق- وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة.. لما عرف الناس ربهم وعبدوه وحده.. لما تحرر الناس من سلطان العبيد ومن سلطان الشهوات سواء.. لما تقررت في القلوب (لا اله إلا الله).. صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون.. تطهرت الأرض من (الرومان والفرس).. لا ليتقرر فيها سلطان (العرب). ولكن ليتقرر فيها سلطان (الله).. لقد تطهرت من سلطان (الطاغوت) كله.. رومانياً، وفارسياً، وعربياً، على السواء.
وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته. وقام (النظام الإسلامي)، يعدل بعدل الله، ويزن بميزان الله، ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده، ويسميها راية (الإسلام). لا يقرن إليها اسماً آخر، ويكتب عليها: (لا اله إلا الله)!
وتطهرت النفوس والأخلاق، وزكت القلوب والأرواح، دون أن يحتاج الأمر حتى للحدود والتعازير التي شرعها الله- إلا في الندرة النادرة- لأن الرقابة قامت هناك في الضمائر، ولأن الطمع في رضا الله وثوابه، والحياة والخوف من غضبه وعقابه، قد قاما مقام الرقابة ومكان العقوبات.
وارتفعت البشرية في نظامها، وفي أخلاقها، وفي حياتها كلها، إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط، والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام.
ولقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وإحكام، كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم، في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك.
وكانوا قد وعدوا على إقامة هذا الدين وعداً واحداً، لا يدخل فيه الغلب والسلطان.. ولا حتى بهذا الدين على أيديهم.. وعداً واحداً لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا.. وعداً واحداً هو الجنة. هذا كل وعدوه على الجهاد المضني، والابتلاء الشاق، والمضي في الدعوة، ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان في كل زمان وفي كل مكان، وهو: ( لا إله إلا الله)!
فلما أن ابتلاهم الله فصبروا، ولما أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم، ولما أن علم الله منهم أنهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض- كائناً ما كان هذا الجزاء، ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم، وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم- ولما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجد ولا قوم، ولا اعتزاز بوطن ولا أرض، ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت.. لما أن علم الله منهم ذلك كله، علم أنهم قد أصبحوا- إذن- أمناء على هذه الأمانة الكبرى.. أمناء على العقيدة، التي يتفرد فيها الله- سبحانه- بالحاكمية في القلوب والضمائر، وفي السلوك والشعائر، وفي الأرواح والأموال، وفي الأوضاع والأحوال.. وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة الله ينفذونها، وعلى عدل الله يقيمونه، دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لأنفسهم، ولا لعشيرتهم، ولا لقومهم، ولا لجنسهم.
إنما يكون السلطان الذي في أيديهم لله، ولدينه وشريعته، لأنهم يعلمون أنه من الله، هو الذي آتاهم إياه.
ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوى الرفيع، إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء. وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها.. راية لا اله إلا الله.. ولا ترفع معها سواها. وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره، المبارك الميسر في حقيقته.
وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص لله، لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية، أو دعوة اجتماعية، أو دعوة أخلاقية.. أو رفعت أي شعار بجانب شعارها الواحد: (لا اله إلا الله).
ذلك شأن القرآن المكي كله في تقرير: (لا اله إلا الله) في القلوب والعقول، واختيار هذا الطريق-على مشقته في الظاهر- وعدم اختيار السبل الجانبية الأخرى، والإصرار على هذا الطريق.
من كتاب معالم في الطريق للأستاذ / سيد قطب
نقلها: محمد أبو الهيثم
- التصنيف:
حسين ابوالعلا احمد
منذأم أحمد
منذأبوعبدالرحمن
منذهدى
منذ