فلسفة أبي علي في النوم

منذ 2014-02-20

يبحث الأطباء في النوم، وفي مقدار النوم الملائم للإنسان، ويتكلم أرباب الهمة على النوم، ويذمون إطالته، ويوصون بخفة الرأس، ويمدحون من كان كذلك

 

يبحث الأطباء في النوم، وفي مقدار النوم الملائم للإنسان، ويتكلم أرباب الهمة على النوم، ويذمون إطالته، ويوصون بخفة الرأس، ويمدحون من كان كذلك، كما قال أحدهم في مدح ابنه: "أعرف منه قلة النعاس، وخفةً في رأسه من رأسي".

ويشتكي المهمومون، والعشاق، وصرعى الغرام من الأرق والسهاد، كما قال امرؤ القيس:

 

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي *** بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل

 

وكما قال الحصري القيرواني:

 

يا ليل الصب متى غده *** أقيام الساعة موعده


 

وهكذا يشكو من قلة النوم مَنْ أرَّقه الهم، وأضناهم الغم أياً كانت أسباب الأرق.

ولقد كنت كغيري أنزعج إذا أَرِقْتُ، فيجتمع مع الأرق الهمُّ، حتى يسّر الله لي الحج في عام 1402هـ مع مجموعةٍ من الأقارب كهولاً، وشباباً.

وكان من بين المجموعة قريبٌ لي، اسمه عبد الرحمن بن علي الحمد، ويُكَنَّى بأبي علي، وكان عمره آنذاك قريباً من الخمسين، وكان عامياً، ذا طرفةٍ، وظرفٍ وشهامةٍ، وخدمةٍ للآخرين، وكان يجيد الطبخ، ويحرص على إيناس من معه بدون أدنى تكلف، وكان يقود إحدى السيارات، وكانت الرحلة للحج من أول يومٍ من عشر ذي الحجة.

ولا يخفى ما في ذلك من التعب في تلك الأيام من جراء طول المدة، وشدة الحرارة، ونقل الماء، والتنقل بين المشاعر وما جرى مجرى ذلك.

 

ولما قضينا من منى كل حاجة *** ومسَّح بالأركان من هو ماسحٌ

 

سلكنا طريق المدينة النبوية قاصدين مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الطريق آنذاك غير مزدوج، بل هو طريقٌ واحدٌ للذهاب والإياب، فحصل حادثٌ مروريٌ في منتصف الطريق، فتوقف السير، وكان الوقت منتصف الليل، فما كان منا إلا أن أخذنا ذات الشمال، وأنزلنا الفرش، كي نرتاح ريثما يفتح الطريق، فما إن نزلنا حتى أخلد الصحب إلى نومٍ عميقٍ، لأن الإعياء قد بلغ بهم مبلغه.

 

أما صاحبنا أبو علي فله شأنٌ آخر؛ إذ يكاد يكون أشدهم إعياءً، وأكثرهم حاجةً إلى الراحة والنوم، فلما وضع رأسه على الوسادة ظنّ أن الفراش سيسلمه إلى نومٍ طويلٍ، وأحلامٍ سعيدةٍ.

ولكنه فوجئ بأن النوم بعيدٌ عنه، فحاول فلم يفلح.

حينها بدأ يخاطب نفسه بكلماتٍ يسمعها من بجواره، ويقول: "يا جسمي: الفراش أمامك، والطريق واقفٌ، والنوم مهيأً لك، وليس لديك أي شغلٍ، وغداً أمامك طريقٌ، فإذا أردت النوم، وكانت لك به حاجةٌ فنم، وإلا فأنت وشأنك، واعلم بأن هذه فرصتك للنوم، أما إذا طلع الفجر، وصلينا فسنواصل السير، وإن بلغ بك التعب ما بلغ".

 

سمعت منه هذه الكلمات، وإذا بها تحمِل حكمةً فطريةً رائعةً لو تدبرها العاقل لأراحته من الهم إذا طار عنه النوم، وأرَّقه السهاد.

ولقد أفدت من فلسفة صاحبنا أبي علي، فإذا تعاصى عليَّ النومُ تركته وشأنه، وأقصرت عن منته والتذلل له، فاعمد إلى مطالعةٍ أو قراءةٍ أو تصحيح أبحاثٍ أو مراجعة كتاب أو إكمال كتابة، أو نحو ذلك، فإن أتى النوم من تلقاء نفسه فبها ونعمت، وإن غادر كان فيما أنا بصدده خيرٌ وبركةٌ.

 

وبعدُ، فَجرِّب فلسفة أبي علي، وخذ بوصفته، فإذا طار عنك النوم فاشتغل بالذكر، أو قراءة القرآن، والصلاة، أو قم بما تريد القيام به من أعمالٍ تحتاج إلى تأملٍ، وهدوء بالٍ.

 

ألست طيلة النهار تبحث عن جوٍّ هادئٍ، وتحاول إسكات الصغار في المنزل؛ ليصفو لك الجو، وتقوم بالبحث أو القراءة، أو التأمل؟

 

ها هو الجو مهيأ لك، وهذه فرصتك التي ربما تكون خيراً لك، وَالصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ.
 

محمد بن إبراهيم الحمد

دكتور مشارك في قسم العقيدة - جامعة القصيم

  • 3
  • 0
  • 2,198

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً