الانهزام الفكري
فترة المراهقة تَمُر بمراحل نفسيَّة عديدة، يتشكَّل من خلال التعامل معها هذا الإنسانُ؛ فهو في هذه الفترة يتلقَّى المعلومات، ويُحلِّل ويُعارِض، ويَفرِض رأيه، ويُصوِّب ويُخَطِّئ، ويجب أن نُوقِن أن هذا ليس بخطأ؛ فهو كائن مستقر، والإنسان أكرم ما فيه عقله، وهو مَناط التكليف، ومن الطبيعي أن يحاول الشاب -خاصة في فترة المراهقة- أن يُثبِت تفوُّقَه وثقافته وفَهْمه للحياة، وتميُّزه عن أقرانه؛ ولذلك يتباهى كثيرًا بمعرفة بعض الكتب الفلسفية أو القراءة لبعض الغربيين.
أخذني الطالب إلى زاوية ثم قال لي: "يا أستاذ، هذه مسألة أرَّقتني كثيرًا، وأريد منك جوابًا شافيًا".
قلت: "ما هي؟!"
قال: "لماذا فرض الله للأنثى نصفَ ميراث الذَّكَر؟" فأردتُ أن أُمهِّد له الجوابَ، وقلت: "أولًا، هذا حُكْم الله سبحانه وتعالى والله يقول بعد آيات المواريث: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [النساء من الآية:13]".
قال: "عفوًا يا أستاذ، لا أريدك أن تقول لي آية، فأنا أحفظها! أريد منك دليلًا عقليًّا يسوِّغ إعطاء الأنثى نصف ميراث الذَّكر، فعقلي لا يقبل هذا، بل يُوجِب أن تكون الأنثى مِثْل الذَّكر!".
ولستُ هنا بصدد بيان هذه المسألة وبيان الحِكم الكثيرة من إعطاء المرأة نصف ميراث الرجل، ولكن ثَمَّة أمر استوقفني كثيرًا وهو: كيف أن شابًّا لم يتجاوز عمره الأربعة عشر عامًا يُعارِض كتاب الله بعقله! ثم عرفت -فيما بعد- أنه مُولَع بالكتب التي تحمل أسماء غربية، أو الكتب التي تدَّعي أنها تدرس الإسلام دراسة نقدية: ثم تحشر في عقلك مئات الشُّبَه حول الشريعة الإسلامية.
أين الخطأ؟!
ليس هناك أحد لديه المناعة الكاملة للتصدِّي للانحراف الفكري، والنبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم كان يُكثِر من قوله: «» (صحّحه الألباني).
ويقول ابن مسعود: "الحي لا تُؤمن عليه الفتنة"، وحينما تُمرِّر ناظريك تجد أن ما وقع فيه هذا الطالب هو مُتجذِّر في نفوس كثير من الشباب، خاصة مع العولمة المدنيَّة وانفتاح العالَم بين أيديهم، واطلاعهم على الحضارة الغربية المادية، ولا نستطيع في هذا المقال القصير أن نَحصُر أسبابَ هذا الانحراف؛ لأن كل مشكلة -خاصة تلك المتعلِّقة بالشباب- مكوَّنة من مجموعة أسباب وظروف تتكامَل في تشكيل تلك المشكلة، غير أن ثَمَّ سببًا رئيسيًّا يتبدَّى بجلاء ووضوح في هذه المشكلة، وهو: الانهزام الفكري!
هذا الشاب يشعر بالنقص الشديد، ويعيش حالةَ عدم رضا لحال أُمَّته؛ لأنه يرى ويَنبهِر بهذه الحضارة الغربية، التي يراها تتقدَّم يومًا بعد يوم، بينما أغلب الدول الإسلامية -إن لم تكن كلها- تعيش أزمات متعدِّدة على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والسياسية.
تحت المجهر:
فترة المراهقة تَمُر بمراحل نفسيَّة عديدة، يتشكَّل من خلال التعامل معها هذا الإنسانُ؛ فهو في هذه الفترة يتلقَّى المعلومات، ويُحلِّل ويُعارِض، ويَفرِض رأيه، ويُصوِّب ويُخَطِّئ، ويجب أن نُوقِن أن هذا ليس بخطأ؛ فهو كائن مستقر، والإنسان أكرم ما فيه عقله، وهو مَناط التكليف، ومن الطبيعي أن يحاول الشاب -خاصة في فترة المراهقة- أن يُثبِت تفوُّقَه وثقافته وفَهْمه للحياة، وتميُّزه عن أقرانه؛ ولذلك يتباهى كثيرًا بمعرفة بعض الكتب الفلسفية أو القراءة لبعض الغربيين.
وهنا يَحِق لنا أن نتساءل: لماذا يتوجَّه مباشرة إلى الكتب الغربية؟!
ولماذا يهتم كثيرًا بالكتب الفكريَّة التي تَخترِق نسيجَ تعظيم النصِّ والشريعة؟!
هل لنَقْص في المؤلِّفين الإسلاميين؟ أم أن وراء الأَكَمَةِ أسبابًا أخرى يجب علينا أن نعرفها، وأن نضع أيديَنا عليها حتى نعرفَ أساس المشكلة، لنتمكَّن من معالجتها بشكل سليم؟!
يجب علينا إذا ما أردنا أن نُعالِج هذه المشكلة أن نعرف النقاط الآتية:
1- إن الخروجَ على المألوف، والانفلات من التمسك بالنصوص، أصبح فضاء محبَّبًا لبعض الشباب؛ لظنِّه أن في ذلك إثباتًا للذات، ويشعُرُ من خلال ذلك أنه مُتميِّز، وأنه قد تجرَّأ على ما لم يتجرَّأ عليه إلا القليلُ، وكل ذلك تأثُّرًا بأصحاب الفِكْر الحَدَاثي، كمثل: محمد عابد الجابري، وفهمي هويدي، وحسن حنفي... وغيرهم.
2- النظرة الدونية للفِكْر الإسلامي؛ فهو قد تقرَّر عنده أن الشريعة الإسلامية صادرت الحرية من الناس، وفيها الكثير من الأغلال، خاصة ما يتعلَّق بالقضايا التي تَخُص المجتمع: كالعلاقة بين السلطان والرعيَّة، أو قضايا المرأة، فالشاب حينما يقرأ في الكتب الفكرية يُصاب بانفتاح فوضوي، ويَنطلِق دون أيَّة منهجيَّة واضحة، فلا يقع بصرُه إلا على تلك الأفكار التي تؤيِّد ما هو مُقرَّر في باطنه، فينتقي منها تلك التي يظنها أدلةً وبراهين على ما يقوله ويعتقده، ومن ثمَّ يَبُث تلك الأفكار على زملائه ومجتمعه.
3- الهوس بقراءة الكتب الفلسفية والفكرية التي تَخدُم منظومات فكريَّة مختلفة، وكلها تُجابِه الشريعة، وتحاول هدْمَها، مع ادعائها الموضوعية وأنها دراساتٌ فكرية نقدية، فينبهر الشاب بهذا، ويظن أن تلك الدراسات صادقةٌ فيما ادَّعت، فيَظل يقرؤها دون أن تكون لديه خلفيَّة ثقافية واضحة حول مرجعية النص الشرعي، ومكانة الخطاب القرآني والنبوي.
ما الحل إذًا؟
يجب على المربين والأساتذة أن يتصدَّوا لهذا الخطر، وأن يؤدوا الأمانة التي على أعناقهم تُجاه هذا الجيل، الذي سيُمسِك زِمامَ الجيل القادم، وإذا لم ننظِّف عقولَهم من هذه اللوثة ستَظَل تُتَوارث جيلًا بعد جيل؛ لذلك يجب علينا -وخاصة المربين والمدرسين- أن نُعالِج الأمر عبر النقاط الآتية:
1- غَرْس قيمة الدِّين الإسلامي في نفوس الشباب، وبيان أن هذا الدين إنما جاء لإسعاد البشريَّة، ولأجل الربط بين الدين والدنيا وإعطاء كلٍّ حقه، بمنهجية عادلة واضحة تُحافِظ على الخصائص الإنسانية، والتي ماتت في أحضان الحضارة الغربية؛ حيث إن الإنسان أصبح أقرب إلى الآلة منه إلى الإنسان، وأغفلت الجانب الرُّوحي الذي أودعه الله في نفس كل إنسان.
2- عدم تضخيم شأن الكتب الفلسفية والقراءات النقديَّة للدين -كغالب كُتُب الفِكْر الحداثي- وعدم جعل أولئك الكتاب عباقرة العصر ومفكِّريه، بل ينبغي صَرْف الشاب إلى ما هو أنفع له في دينه ودنياه، فيُركِّز على تَخصُّصه وعلى الكتب التي تَغرِس فيه تعظيم الكتاب والسنَّة، وتُعمِّق فيه مبدأ معصوميَّة النص الشرعي، كما ينبغي على المربِّي أن يُعرِّف الشابَّ بالثروة المعرفيَّة الضخمة التي تركها سلفنا الصالح؛ حيث إن أغلب الشباب لا يعرفون عن هذا الثراء المعرفي في الفكر الإسلامي.
3- تعميق معنى الاستسلام لله، والانقياد لهذا الدين، وغَرْس تعظيمه، وبيان عِصْمته، وأنه يحمل خيريِ الدنيا والآخرة، مع بيان زيف تلك الدعاوى التي تدعو إلى الانفلات عن النص الشرعي بدعوى دراستها دراسة نقدية، أو ما أشبهها من الدعاوى الكثيرة.
4- لا نفهم من هذا أننا نُغلِق باب القراءة في كُتب الفكر الحديث، ولن نستطيع فِعْل ذلك، بل يجب علينا -قَدْر الإمكان- أن نُوجِّه الشبابَ إلى ضرورة تكوين حصيلة علميَّة كافية قبل الخوض في هذه الكتب، حتى يعلم صِدْقها وصحتها من زيفها وضلالها.
هذا هو واجب المربِّين والمدرِّسين والدعاة، حتى تبقى عقول هذا الجيل صافية نقيَّة محصَّنة، قبل أن يُصاب الشاب بداء كراهية الدين واعتقاد نُقصانه، والله الهادي إلى سواء السبيل.
- التصنيف: