وحدة الأمة في القرآن الكريم
وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف، وقد ضمن الله لهم (أي للمسلمين) العصمة من الخطأ عند اتفاقهم (واجتماعهم) وخيف عليهم (الخطأ) عند الافتراق والاختلاف.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قال تعالى: {إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٩2]، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ . وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 51-52].
وقال سبحانه: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32].
وقال تعالى: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّـهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ . وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:61-63].
وقال جل وعلا: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا . وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:114-115].
وقال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:١٠]، وقال سبحانه وتعالى عن المشركين: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: من الآية١١].
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ . وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:102-103].
وحدة المسلمين واجتماعهم أن يلتقي المسلمون وينضم بعضهم إلى بعض ولا يتفرقوا، والأمر الذي يجتمعون حوله هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي رحمه الله في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران من الآية:103]: "إن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفُرقَةَ، لأن الفُرقَةَ هَلَكَةٌ، والجماعة نجاةٌ، روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الآية الكريمة: أن حبل الله هو الجماعة ".
وقال ابن كثير رحمه الله: "أمرهم الله عز وجل في الآية الكريمة بالجماعة، ونهاهم عن الفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف، وقد ضمن الله لهم (أي للمسلمين) العصمة من الخطأ عند اتفاقهم (واجتماعهم) وخيف عليهم (الخطأ) عند الافتراق والاختلاف، فقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاثٍ وسبعين فرقةً، ومنها فرقة ناجية إلى الجنة، ومُسَلَّمةٌ من النار، وهم الذين على ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ".
وقال أبو حيَّان رحمه الله: "نُهي المسلمون (في هذه الآية الكريمة) عن التفرق في الدين والاختلاف فيه كما اختلف اليهود والنصارى، وقيل: عن إحداث ما يُوجِبُ التفرُّق، ويزُولُ معه الاجتماع".
وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: "وأول مقصد للإسلام، ثم أَجَلُّهُ وأخطره: توحيد كلمة المسلمين، وجمع قلوبهم على غايةٍ واحدة؛ هي إعلاء كلمة الله، وتوحيد صفوفهم في العمل لهذه الغاية، والمعنى الروحي في هذا: اجتماعهم على الصلاة وتسوية صفوفهم فيها أولًا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »، وهذا شيءٌ لا يدركه إلا من أنار الله بصيرته للفقه في الدين، والغوص على دُرره، والسمو إلى مداركه".
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟، قال: « » فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: « ». قلت: وما دَخَنُهُ؟ قال: « ». فقلتُ: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها». فقلت: يا رسول الله! صفهم لنا. قال: « ». قلت: يا رسول الله! فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: « ». فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة، ولا إمام ؟، قال: « » (رواه مسلم).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « » (رواه أبو داود وغيره وهو حديث صحيح).
وعن عرفجة رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « » (رواه مسلم).
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه الترمذي).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه مسلم).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يخطب ويقول: "يا أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنهما حبل الله الذي أمر به".
وعن علي رضي الله عنه قال: "اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف، حتى يكون للناس جماعةً، أو أموت كما مات أصحابي". فكان ابن سيرين يرى أن عامَّة ما يروى عن عليٍ الكذب (رواه البخاري).
وعن سماك بن الوليد الحنفي، أنه لقي ابن عباس رضي الله عنه، فقال: "ما تقول في سلاطين علينا يظلموننا؛ يشتموننا ويعتدون علينا في صدقاتنا، ألا نمنعهم؟"، قال: "لا؛ أعطهم؛ الجماعةَ الجماعةَ، إنما هلكت الأمم الخالية بتفرقها، أما سمعت قول الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران من الآية:103]؟".
ومن أقوال الشعراء:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرًا *** وإذا افترقن تكسرت أفرادًا
من مظاهر هذه الوحدة فيما بين المسلمين:
ومن مظاهر الوحدة بين المسلمين ما ورد في هذه الأحاديث:
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « »، قالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: « »، وفي رواية: « » (رواه البخاري، ومسلم).
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه البخاري، ومسلم).
وفي رواية عنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: « ».
ويقول: « ».
وكان يقول: « ». ونهى عن هجرة المسلم أخاه فوق ثلاث (رواه أحمد [7/191]، وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على (المسند) [5357]: إسناده صحيح).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه الترمذي).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه مسلم).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه أبو داود).
على أي شيء تكون الوحدة والاعتصام؟:
اجتماع المسلمين إنما يكون على الاستعانة بالله، والوثوق به وعدم التفرُّق عنه، والاجتماع على التمسك بعهده على عباده، وهو الإيمان والطاعة، أو الكتاب والسنة، لأن من أطاع الرسول فبفرض الله ذلك في كتابه كما قال عز وجل: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ} [النساء من الآية:80].
أنواع الاعتصام:
قال ابن القيم رحمه الله: "الاعتصام نوعان: اعتصام بالله، واعتصام بحبل الله. قال الله تعالى: { } [آل عمران من الآية:103]، وقال: { } [الحج من الآية:78].
ومدار السعادة الدنيوية والأخروية على الاعتصام بالله، والاعتصام بحبله، ولا نجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين.
فأما الاعتصام بحبله: فإنه يعصم من الضلالة، والاعتصام به: يعصم من الهَلَكَةِ، فإن السائر إلى الله كالسائر على طريق نحو مقصدِهِ، فهو محتاج إلى هداية الطريق، والسلامة فيها، فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له" ا. هـ. من (مدارج السالكين).
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجٌّ ... الحديث وفيه: « » (رواه مسلم).
وعن مالك بن أنسٍ رحمه الله بَلَغَه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ».
فوائد الوحدة والاجتماع بين المسلمين:
1- تحقيق وعي الأمة بفهم ذاتها فهمًا صحيحًا، مما يساعد على توحيد أنماط التفكير والسلوك، وأساليب البحث والنظر على أساس إسلامي صحيح.
2- الوحدة تساعد المجتمع الإسلامي على مواجهة التحديات.
3- تحقيق الاتصال الجماعي بالنماذج الإسلامية المثالية.
4- الوحدة تساعد المجتمع الإسلامي على التحرر من التبعية الفكرية والحضارية، والتي تتولد عن عدم فهم الذات فهمًا صحيحًا واعيًا.
5- تساعد على صياغة صحيحة من أجل الإبداع الحضاري وتثير طاقاته الإبداعية، وتقدم النموذج الإسلامي السليم للإنسان الحضاري.
6- تساعد على إبراز ما للإسلام من آثار عظيمة على المسلم؛ إذ يورثه القوة والعزة والمنعة.
7- تحقيق المفاهيم الإسلامية الحقيقة للأمة، بعقيدتها وأخلاقها، مما يتبلور في النهاية في شكل حضارة إسلامية حقيقة معبرة عن المجتمع الإسلامي.
8- تحقيق الألفة والعدالة والمحبة وكل العوامل المؤدية إلى الترابط في المجتمع الإسلامي.
9- المحافظة على التراث الثقافي واللغة العربية (لغة القرآن) واستمرارها.
10- القضاء على العصبية القبيلة، وعدُّ القاعدة الدينية الاجتماعية أساسًا يتسع لجميع الأمم والشعوب.
11- تتحقق البركة في الاجتماع على الطعام وغيره من أمور البِرّ.
12- الاجتماع والوحدة يحققان مطلبًا إسلاميًا أصيلًا، حَثَّ عليه الإسلام في صلاة الجمعة، وصلاة الجماعة، وأداء الحج.
13- يُؤدِّي الاجتماع والوحدة إلى تحقيق الألفة بين المسلمين، وانتشار التعارف فيما بينهم، وبذلك تتحقق المودة ويسود الإخاء ويعم التعاون.
14- في الاجتماع والوحدة تقوية لجانب المسلمين، ورفع روحهم المعنوية، انطلاقًا من الاعتقاد بأن يد الله مع الجماعة، ومن كانت يد الله معه كان واثقًا من نصر الله عز وجل.
15- الاجتماع والوحدة قوة متجددة للفرد والأسرة والمجتمع، بل ولكل العالم الإسلامي.
16- الاجتماع يخيف الأعداء ويلقي الرعب في قلوبهم ويجعلهم يخشون شوكة الإسلام والمسلمين، ومن ثم يكون في الاجتماع عزةٌ للمسلمين في كل مكانٍ.
17- إن توحيد الصفوف واجتماع الكلمة هما الدعامة الوطيدة لبقاء الأمة، ودوام دولتها، ونجاح رسالتها.
18- الاجتماع والوحدة وسيلة من وسائل الأخلاق الفاضلة وذلك بانغماس الفرد في البيئات الصالحة، وذلك لأن من طبيعة الإنسان أن يكتسب من البيئة التي ينغمس فيها، ويتعايش معها ومع ما لديها من أخلاق وعادات وسلوك.
19- بوجود الإنسان مع الجماعة تنشط روح المنافسة.
20- الوحدة والاجتماع يُذكي في الأفراد روح التفوق والرغبة في إظهار ما لديهم من قدرات، وهذا الدافع لا يتحرك إلا من خلال الجماعة.
21- في وجود الفرد داخل الجماعة وازع أساسي له كي يبتعد عن الرذائل خشية ما يصيبه من ضرر لو اطَّلع الآخرون على هذه الصفات القبيحة، ومن هنا يكون للاجتماع دوره الفعال في مكافحة الجريمة والرذيلة.
22- بالاجتماع وخاصةً مع الصالحين والأسوياء ما يجعل المرء يشعر بأخلاق الجماعة ويحاول تقليدها واكتساب أخلاقها، ثم يتحمس للدفاع عنها.
23- في الاجتماع دواءٌ ناجعٌ لكثير من الأمراض النفسية: كالانطواء والقلق، إذ أن وجود المرء مع الآخرين يدفع عنه داء الانطواء ويُذهب القلق، وخاصة إذا علم أن إخوانه لن يتخلوا عنه وقت الشدة، فالمرء قليلٌ بنفسه كثير بإخوانه.
24- وأخيرًا فإن مجالسة أهل الذكر والاجتماع بهم- وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم- غالبًا ما يكون سببًا لمغفرة الله عز وجل ورضوانه.
25- في الاجتماع طرد للشيطان، وإغاظة له، لأنه يهم بالواحد والاثنين، فإذا كانوا ثلاثة (وهو أقل الجمع) لم يهم بهم الشيطان، كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم.
عبد الله بن علي بصفر
هو الدكتور والشيخ الورع القارئ المعروف للقرآن الكريم وإمام أحد المساجد في مدينة جدة
- التصنيف: