كونوا على الخير أعوانًا
جاء الإسلام بالأمر بالتعاون على البر والخير والنهي عن التعاون على الإثم والعدوان قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۖ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة من الآية:2]. وما أحوجنا في هذا الزمان الذي انتشر فيه الشر وانحسر فيه الخير وقلَّ المعينون عليه أن نحيي هذه الشعيرة العظيمة وندعو إليها ونحثّ عليها لما فيها من الخير العظيم والنفع العميم، من إقامة أمر الدين وتقوية المصلحين، وكسر الشر ومحاصرة المفسدين.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فقد جاء الإسلام بالأمر بالتعاون على البر والخير والنهي عن التعاون على الإثم والعدوان قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۖ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة من الآية:2].
وما أحوجنا في هذا الزمان الذي انتشر فيه الشر وانحسر فيه الخير وقلَّ المعينون عليه أن نحيي هذه الشعيرة العظيمة وندعو إليها ونحثّ عليها لما فيها من الخير العظيم والنفع العميم، من إقامة أمر الدين وتقوية المصلحين، وكسر الشر ومحاصرة المفسدين.
الإعانة ومرادفاتها في اللغة
قال صاحب الألفاظ المؤتلفة:
باب الإعانة:
يقال أعانه وأجاره وأيّده، ورافده وأغاثه وعاونه وعاضده وآزره وناصره.. وظافره وظاهره ومالأه، والعون: الظهير، ورجل معوان كثير المعونة للناس واستعان به فأعانه وعاونه وفي الدعاء: «». وتعاون القوم: أعان بعضهم بعضًا.
ومن ثمرات التعاون الألفة، قال الجرجاني في تعريف الألفة: "اتفاق الآراء في المعاونة على تدبير المعاش". (انظر الألفاظ المؤتلفة [1/ 159]، التعريفات [1/ 51]، ولسان العرب [13/ 298]).
وفي التعريف كلمة مهمة وهي: "اتفاق الآراء" وما توحي به من وحدة الهدف، واجتماع القلوب على بلوغه.
معنى التعاون شرعًا:
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "الإعانة هي: الإتيان بكل خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها، والامتناع عن كل خصلة من خصال الشر المأمور بتركها، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه، وبمعاونة غيره عليها من إخوانه المسلمين، بكل قول يبعث عليها، وبكل فعل كذلك" (تيسير الكريم الرحمن [2/ 238] بتصرف يسير).
وسُئل سفيان بن عيينة عن قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ} [المائدة من الآية:2] فقال: "هو أن تعمل به وتدعو إليه وتعين فيه وتدل عليه" (حلية الأولياء [7/ 284]).
يقول القرطبي في تفسيره: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ}: "هو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى؛ أي ليُعِن بعضكم بعضًا، وتحاثوا على أمر الله تعالى واعملوا به، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه، وهذا موافق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدال على الخير كفاعله»" (الجامع لأحكام القرآن [3/ 6/ 33]).
وقال القاسمي في تفسيره: "لما كان الاعتداء غالبا بطريق التظاهر والتعاون، أُمروا -إثر ما نهوا عنه- بأن يتعاونوا على كل ما هو من باب البر والتقوى، ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى، ثم نُهوا عن التعاون في كل ما هو من مقولة الظلم والمعاصي" (محاسن التأويل [3/ 22]).
وقال ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ}: "اشتملت هذه الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فيما بينهم بعضهم بعضا وفيما بينهم وبين ربهم، فإن كل عبد لا ينفك عن هاتين الحالتين وهذين الواجبين: واجب بينه وبين الله، وواجب بينه وبين الخلق، فأما ما بينه وبين الخلق من المعاشرة والمعاونة والصحبة فالواجب عليه فيها أن يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونا على مرضاة الله وطاعته التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه ولا سعادة له إلا بها وهي البر والتقوى اللذان هما جماع الدين كله" (زاد المهاجر [1/ 6-7]).
ثم بيّن أهمية التعاون على البر والتقوى وأنه من مقاصد اجتماع الناس فقال: "والمقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم هو التعاون على البر والتقوى، فيعين كل واحد صاحبه على ذلك علمًا وعملًا، فإن العبد وحده لا يستقلُّ بعلم ذلك ولا بالقدرة عليه؛ فاقتضت حكمة الرب سبحانه أن جعل النوع الإنساني قائما بعضه ببعضه معينا بعضه لبعضه" (زاد المهاجر [1/ 13]).
فالإنسان ضعيف بوصفه فردًا، قوي باجتماعه مع الآخرين، وشعور الإنسان بهذا الضعف يدفعه حتما إلى التعاون مع غيره في أي مجال، فأمر الله العباد أن يجعلوا تعاونهم على البرّ والتقوى.
الفرق بين البر والتقوى، والإثم والعدوان:
"قيل: البر والتقوى لفظان بمعنى واحد، وكل برّ تقوى، وكل تقوى بر، وقيل: البر يتناول الواجب والمندوب إليه، والتقوى رعاية الواجب، وقد ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له؛ لأن في التقوى رضا الله تعالى، وفي البرّ رضا الناس، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمّت سعادته وعمّت نعمته" (أنظر الجامع لأحكام القرآن [6/ 47]).
و"البرّ هو اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأعمال الظاهرة والباطنة، من حقوق الله، وحقوق الآدميين، والتقوى في هذه الآية: اسم جامع لترك كل ما يكرهه الله ورسوله، من الأعمال الظاهرة والباطنة" (تيسير الكريم الرحمن [2/ 238]).
وقال ابن القيم مُفرقًا بينهما: "وأما عند اقتران أحدهما بالآخر كقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ} فالفرق بينهما فرق بين السبب المقصود لغيره والغاية المقصودة لنفسها فإن البرّ مطلوب لذاته إذ هو كمال العبد وصلاحه الذي لا صلاح له بدونه كما تقدم وأما التقوى فهي الطريق الموصل إلى البر والوسيلة إليه" (زاد المهاجر [1/ 11]).
أما الفرق بين الإثم والعدوان:
فيقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: "{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة من الآية:2] وهو التجرؤ على المعاصي التي يأثم صاحبها، {وَالْعُدْوَانِ} وهو التعدي على الخلق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم. فكل معصية وظلم يجب على العبد كف نفسه عنه، ثم إعانة غيره على تركه" (تيسير الكريم الرحمن [2/239]).
ومن القواعد المؤكّدة في التعاون:
أن المعاونة على البِر بِر، قال البيهقي رحمه الله: "الثالث والخمسون من شعب الإيمان؛ وهو باب في التعاون على البر والتقوى، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة من الآية:2]، ومعنى هذا الباب أن المعاونة على البِر بِر، لأنه إذا عدمت مع وجود الحاجة إليه لم يوجد البر، وإذا وجدت وجد البر، فبان بأنها في نفسها بر ثم رجح هذا البر على البر الذي ينفرد به الواحد بما فيه من حصول بر كثير مع موافقة أهل الدين، والتشبه بما بني عليه أكثر الطاعات من الاشتراك فيها وأدائها بالجماعة" (شعب الإيمان [6/ 101]).
ثم ساق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» فقالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: «تمنعه من الظلم، فذلك نصره» (أخرجه البخاري برقم [2444]).
ومعنى هذا أن الظالم مظلوم من جهته كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء من الآية:110]، فكما ينبغي أن ينصر المظلوم إذا كان غير نفس الظالم ليدفع الظلم عنه كذلك ينبغي أن يُنصر إذا كان نفس الظالم.
التعاون بين البشر من فطرة الله التي فطر الناس عليها:
يقول ابن خلدون في مقدمته: "الإنسان قد شاركته جميع الحيوانات في حيوانيته من الحس والحركة والغذاء والكَنّ وغير ذلك، وإنما تميز عنها بالفكر الذي يهتدي به لتحصيل معاشه والتعاون عليه بأبناء جنسه والاجتماع المهيّء لذلك التعاون، وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى والعمل به واتباع صلاح أخراه" (مقدمة ابن خلدون [1/ 429]).
وبيّن رحمه الله أهمية الاجتماع والتعاون لبني البشر وذكر أن التعاون يحصل به من الثمرة أكثر من حاجات المتعاونين فقال: "قد عرف وثبت أن الواحد من البشر غير مستقل لتحصيل حاجاته في معاشه وأنهم متعاونون جميعًا في عمرانهم على ذلك، والحاجة التي تحصل بتعاون طائفة منهم تشتد ضرورة الأكثر من عددهم أضعافًا، فالقوت من الحنطة مثلًا لا يستقلّ الواحد بتحصيل حصته منه، وإذا انتدب لتحصيله الستة أو العشرة من حدّاد ونجار للآلات وقائم على البقر وإثارة الأرض وحصاد السنبل وسائر مؤن الفلاحة وتوزعوا على تلك الأعمال أو اجتمعوا وحصل بعملهم ذلك مقدار من القوت فإنه حينئذ قوت لأضعافهم مرات، فالأعمال بعد الاجتماع زائدة على حاجات العاملين وضروراتهم" انتهى (مقدمة ابن خلدون ج [1] ص [360]).
ويقول في موضع آخر فيه مزيد بيان: "إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وركّبه على صورة لا يصلح حياتها ولا بقاؤها إلا بالغذاء، وهداه إلى التماسه بفطرته، وبما ركّب فيه من القدرة على تحصيله، إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء، غير موفية له بمادة حياته منه.
ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلًا، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ، وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري.
هب أنه يأكل حبًا من غير علاج؛ فهو أيضا يحتاج في تحصيله حبًا إلى أعمال أخرى أكثر من هذه؛ الزراعة والحصاد والدراس الذي يخرج الحب من غلاف السنبل، ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير، ويستحيل أن توفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد، فلابد من اجتماع القُدُر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم" (مقدمة ابن خلدون [2/ 272-274]).
وهذا الكلام يدل قطعًا على أن توزيع المهمات لإنجاز الأعمال من التعاون المطلوب، وأن هذا التعاون بين الأفراد ينتقل بعمل كلّ منهم ليصبح وظيفة عامة اجتماعية تكفل العيش لعدد كبير من المجتمع، فالتعاون بين الأفراد وتقسيم العمل ظاهرتان ملازمتان للإنسان ولا غنى له عنهما، وأنّ تعاون المجموعة لا يُنتج ما يكفيهم فقط وإنما يزيد ويفيض.
وهذا كلام عام في الأمور الدينية والدنيوية، فأما بالنسبة للتعاون الشرعي فإن الأسباب الدافعة لدى المسلم للتعاون على البر والتقوى والمشاركة في الخير عِدّة ومنها:
- تحصيل ثواب امتثال الأمر الوارد في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ} [المائدة من الآية:2].
- زيادة الأجر والمضاعفة: قال ابن القيم رحمه الله: "فإن العبد بإيمانه وطاعته لله ورسوله قد سعى في انتفاعه بعمل إخوانه المؤمنين مع عمله كما ينتفع بعملهم في الحياة مع عمله، فإن المؤمنين ينتفع بعضهم بعمل بعض في الأعمال التي يشتركون فيها كالصلاة في جماعة؛ فإن كل واحد منهم تضاعف صلاته إلى سبعة وعشرين ضعفًا لمشاركة غيره له في الصلاة، فعمل غيره كان سببًا لزيادة أجره كما أن عمله سبب لزيادة أجر الآخر، بل قد قيل إن الصلاة يضاعف ثوابها بعدد المصلين، وكذلك اشتراكهم في الجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «» ومعلوم أن هذا بأمور الدين أولى منه بأمور الدنيا، فدخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم، وقد أخبر الله سبحانه عن حملة العرش ومن حوله أنهم يستغفرون للمؤمنين ويدعون لهم وأخبر عن دعاء رسله واستغفارهم للمؤمنين كنوح وإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم" (الروح [1/128]).
- الحاجة: فإنّ كثيرًا من الأهداف والمشاريع الإسلامية لا يُمكن تحقيقها فرديًا، ولهذا قيل: لا يعجز القوم إذا تعاونوا.
-إتقان العمل وسهولة القيام به يكون أبلغ مع التعاون والعمل الجماعي وذلك أن الاشتراك في العمل مع آخرين يجعله أخفّ مشقّة وأسهل لتوزّع الحمل على الجميع.
والتعاون المأمور به في الآية:
الأول:
تعاون على البر والتقوى؛ من الجهاد وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستيفاء الحقوق وإيصالها إلى مستحقيها، يقول القرطبي في تفسيره: "والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه، فواجب على العالِم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم، ويعينهم الغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة «»، ويجب الإعراض عن المتعدي، وترك النصرة له ورده عما هو عليه" (الجامع لأحكام القرآن [6/ 47]).
والتعاون المنهي عنه في الآية: التعاون على الإثم والعدوان؛ كالإعانة على سفك دم معصوم، أو أخذ مال معصوم، أو انتهاك عرض مصون، أو ضرب من لا يستحق الضرب ونحو ذلك.
والمعاونة تكون بالجاه والبدن والنفس والمال والقول والرأي.
مجالات التعاون على البر والتقوى:
إن التعاون على البر والتقوى يكون بوجوه كثيرة تفوق الحصر، فكل عمل في مرضاة الله يكون التعاون والتظاهر عليه من التعاون على البر والتقوى. ومن أمثلة ذلك:
أولًا: التعاون في مجال الدعوة ونصرة الدين:
ويكون ذلك بنصرة الإسلام وأهله، فقد حضّ الله تعالى عباده المؤمنين على نصرة دينه وأوليائه، ونصرة نبيه ومؤازرته ومعاونته على إقامة الدين ونشر الدعوة بشتى الوسائل المشروعة، فقال عزَّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّـهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّـهِ} [الصف من الآية:14]، أي: يساعدني في الدعوة إلى الله (البداية والنهاية [2/ 85]).
ولهذا ينبغي أن يتعاون المسلم مع أخيه المسلم في الدعوة إلى الله، ليشدّ أزره ويتقوى به كما قال الله تعالى لموسى عليه السلام: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص من الآية: 35].
وقال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: "وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا" أي: أعاونك وأؤيدك في نشر دعوتك، وقال جابر رضي الله عنه: مَكَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّةَ عشر سنين يتْبَعُ الناس في منازلهم بعكاظ ومجَنَّة وفي المواسم بمِنًى يقول: «». (رواه الإمام أحمد في مسنده [13934]).
ومن صور التعاون في مجال الدعوة ونصرة الدين:
جهاد الكفار والمنافقين في سبيل الله عز وجل، ومشاركة أهل الدعوة الإسلامية في الحروب ضد أهل الكفر والضلال، وتهيئة جميع الوسائل والعدة والعتاد من أجل الجهاد في سبيل الله، وقد تعاون الصحابة في الجهاد في مشاهد كثيرة ومواقف متنوعة ومن ذلك حفر الخندق وأصابهم في ذلك ما أصابهم فصبروا، فعن جابر رضي الله عنه أنه قال: "لما حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الخندق أصابهم جهد شديد حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم على بطنه حجرًا من الجوع" (أخرجه البخاري برقم [4101]).
ومن صور التعاون في نصرة الدين التي حدثت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم التعاون على قتل مدعي النبوة، وقتل رؤوس أهل الشرك والمرتدين ومنهم الذين يسبون النبي صلى الله عليه وسلم.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «»، فقام محمد بن سلمة، فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال: «»، قال: فأذن لي أن أقول شيئًا، قال: «»، فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة وإنه قد عنّانا وإني قد أتيتك أستسلفك، قال: والله لتملّنّه (ليزيد ضجركم منه) قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، فقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين، فقال: نعم، ارهنوني، قالوا: أيّ شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم، قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب، قال: فارهنوني أبناءكم؟ قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيسب أحدهم، فيقال: رُهن بوسق أو وسقين، هذا عار علينا، ولكنا نرهنك اللآمة (يعني السلاح) فواعده أن يأتيه، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاهم إلى الحصن فنزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ فقال: إنما هو محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي لطعنة بليل لأجاب، فنزل إليهم متوشحًا وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحًا -أي: أطيب.. أتأذن لي أن أشم رأسك، قال: نعم، فشمه، ثم أشم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي، قال: نعم، فلما استمكن منه، قال: دونكم، فقتلوه، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه. (أخرجه البخاري برقم [4037]).
وقال ابن عبد البر في ترجمة زياد بن حنظلة التميمي: "له صحبة، وهو الذي بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر ليتعاونوا على مسيلمة وطليحة والأسود". (بغية الطلب في تاريخ حلب [9/3916]).
ثانيا: التعاون على إقامة العبادات:
جاء عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في خطبة خطبها في قوم: "فانظروا رحمكم الله واعقلوا وأحكموا الصلاة واتقوا الله فيها وتعاونوا عليها وتناصحوا فيها بالتعليم من بعضكم لبعض والتذكير من بعضكم لبعض من الغفلة والنسيان، فإن الله عزَّ وجلَّ قد أمركم أن تعاونوا على البر والتقوى، والصلاة أفضل البر" (طبقات الحنابلة [1/354]).
ومن أمثلة ذلك:
التعاون على قيام الليل
كان أهل البيت الواحد من أوائل هذه الأمة يتوزعون الليل أثلاثًا، يصلي هذا ثلثًا ثم يوقظ الثاني فيصلي ثلثًا، ثم يوقظ الثالث فيصلي الثلث الأخير.
عن أبي عثمان النهدي قال: "تضيفت أبا هريرة سبعًا فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثًا، يصلي هذا ثم يوقظ هذا، ويصلي هذا ثم يوقظ هذا" (سير أعلام النبلاء [2/609]).
وكان الحسن بن صالح وأخوه علي وأمهما يتعاونون على العبادة بالليل وبالنهار قيامًا وصيامًا، فلما ماتت أمهما تعاونا على القيام والصيام عنهما وعن أمهما، فلما مات علي قام الحسن عن نفسه وعنهما، وكان يقال للحسن حية الوادي يعني لا ينام بالليل. (أنظر حلية الأولياء [7/ 328]).
ثالثًا: التعاون في بناء المساجد:
قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّـهِ شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ۚ أُولَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ . إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّـهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّـهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَـٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:17-18].
وقد أورد البخاري في صحيحه بابًا في التعاون في بناء المساجد، وسطر فيه أحاديثًا تبين بوضوح مدى التعاون بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بناء المسجد النبوي.
فعن أبي سعيد في ذكر بناء المسجد قال: كُنَّا نحمل لَبِنَةً لَبِنَةً وعمار لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فرآهُ النبي صلى الله عليه وسلم فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ: «»، قال: يقول عمار: "أَعُوذ باللَّه من الفِتَنِ" (رواه البخاري [428]).
وقام المسلمون يعمرون المساجد في البلاد التي فتحوها، قال بعض الشعراء في وصف مسجد الكوفة لما بُني على أربعة أساطين ضخمة لم يحدث فيها خلل ولا عيب:
بنى زياد لذكر الله مصنعة *** من الحجارة لم تعمل من الطين
لولا تعاون أيدي الإنس ترفعها *** إذا لقلنا من أعمال الشياطين (فتوح البلدان [1/342]).
رابعًا: التعاون في مجال طلب العلم:
وهذا باب من التعاون يكفي في معرفته مطالعة كتب السير الغاصّة بالقصص التي بلغت من التعاون أوجه، فهذا عمر رضي الله عنه يقول: "كُنْتُ وَجَارٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الأَمْرِ وَغَيْرِهِ وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ" (رواه البخاري [4792]).
وكان عُمَر مؤاخِيًا أَوْس بْن خَوْلِيّ لا يسمع شيئًا إلا حدَّثَه ولا يسمع عُمَر شيئًا إلا حدَّثَه، وقَوله: "جِئْته بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَر ذَلِكَ الْيَوْم مِنْ الْوَحْي أَوْ غَيْره) أَيْ مِنْ الْحَوَادِث الْكَائِنَة عِنْد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم"، وفِي رواية "إِذَا غَابَ وَشَهِدْت أَتَيْته بِمَا يَكُون مِنْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وَفِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيِّ "يَحْضُر رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم إِذَا غِبْت وَأَحْضُرهُ إِذَا غَابَ وَيُخْبِرنِي وَأُخْبِرهُ"، وَفِي رِوَايَة "لا يَسْمَع شَيْئًا إِلا حَدَّثَهُ بِهِ وَلَا يَسْمَع عُمَر شَيْئًا إِلا حَدَّثَهُ بِهِ" (باختصار من فتح البارين شرح الحديث السابق، كتاب النكاح).
وقد تعرض لطالب العلم ضائقة خلال طلبه فيهبّ إخوانه لمعاونته: قال عمر بن حفص الأشقر: "كنا مع محمد بن إسماعيل (وهو البخاري) بالبصرة نكتب الحديث ففقدناه أيامًا فطلبناه، فوجدناه في بيت وهو عريان وقد نفذ ما عنده ولم يبق معه شيء، فاجتمعنا وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوبًا وكسوناه ثم اندفع معنا في كتابة الحديث" (تاريخ بغداد [2/13]).
وقد يعين العالِم من ليس من أهل العلم ويحتسب بالإنفاق عليه أجر تفريغ العالِم وطالب العلم للتدريس والطلب، قال هياج بن عبيد: "كان لرافع قدم في الزهد، وإنما تفقه الشيخ أبو إسحاق وأبو يعلى بن الفراء بمعاونة رافع لهما، لأنه كان يحمل وينفق عليهما" (سير أعلام النبلاء [18/52]).
ويدخل في التعاون العلمي: التعاون في تأليف الكتب، فقد جاء في ترجمة الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي رحمه الله أنه "ولع بتخريج أحاديث الإحياء ورافق الزيلعي الحنفي في تخريجه أحاديث الكشاف وأحاديث الهداية فكانا يتعاونان" (طبقات الشافعية ج [4]، ص [30]) فاستفدنا من ذلك تخريج ثلاثة كتب صارت من أهم المراجع لطلاب الحديث.
ومن هذا الباب أيضًا شرح المواد الدراسية من الخبير بها للقاصر عن فهمها، وكان بعض نبلاء المسلمين يشتري المصاحف والألواح ويوزعها على أطفال الكتاتيب معونة لهم على حفظ القرآن الكريم.
خامسًا: التعاون في الدعوة والتعليم وإنكار المنكر:
فهذا يقترح فكرة لموضوع، وهذا يجمع قصصًا واقعية عنه، وهذا يعمل بحثًا ميدانيًا أو استبيانًا حول الموضوع، وآخر يجمع الأدلة الشرعية وكلام العلماء بشأنه، وهذا يحشد الشواهد والأبيات الشعرية المتعلقة به، وآخر أوتي موهبة في التحدّث يلقيه في محاضرة تسير بها الركبان، أو كاتب مجيد يخطّ بأسلوبه ذلك المحتوى من العمل المشترك في رسالة أو كتاب يؤثّر في نفوس القراء.
وعالِم أو طالب علم لديه -مما فتح الله به عليه- ما يقدّمه في دورة علمية، وآخر يملك خبرة إدارية يسيّر بها أعمالها، وثالث عنده مال يبذله لإسكان الطلاب الفقراء وإعاشتهم فترة الدورة، وهكذا وعصرنا الذي نعيش فيه يحتاج كثيرًا إلى الأعمال المشتركة والبركة مع الجماعة.
وفي مجال إنكار المنكر تعاون عظيم أيضًا: فهذا يجمع معلومات عن المنكر ويستقصي خبره في المجتمع، وهذا يبحث حكمه شرعًا، وثالث يعين على إيصاله إلى من ينكره ويغيّره، وآخر يخطب عنه ويحذّر منه.
وهذا الاشتراك في العمل الصالح له أجر عظيم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «» (رواه الترمذي [1561] وقال: "هذا حديث حسن صحيح").
فلا بد أن تكون هناك أدوار تكاملية إذ أنّ كثيرًا من المشروعات وأمور الدين لا يمكن القيام بها فرديا، وإتاحة المجال للتخصصات المختلفة أن تعمل بتعاون سيثمر نتائج باهرة.
سادسًا: المعاونة في إقامة الأنشطة الخيرية والأعمال الإسلامية:
والمشاركة فيها بالنفس والمال، والجود عليها بالوقت، والحثّ على الحضور، وتكثير السّواد فيها، وحسن استقبال روّادها، وإتقان وضع برامجها وترتيب جداولها، وشحذ الهمم لتنفيذ مهامّها، والعمل على تحقيق مقاصدها، ونشر فكرتها، وتصحيح مسيرتها، والذبّ عنها، وحراسة أهلها، ومقاومة محاولات هدمها وإعاقتها.
سابعًا: التعاون في القيام بحقوق المسلمين:
روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن سهل بن حُنَيف عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «» (مسند الإمام أحمد [15147]).
وعن أبي سعيد الخُدرِيِّ قال: "بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحِلَةٍ له، فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «»، فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحدٍ مِنَّا في فَضلٍ" (رواه مسلم [3258]).
ففي هذا الحديث: الحثّ على الصَّدقة والجود والمواساة والإحسان إلى الرُّفقة والأصحاب، و الاعتناء بمصالح الأصحاب، وأمر كبير القوم أصحابه بمواسات المحتاج وأنه يُكتفى في حاجة المحتاج بتعرضه للعطاء وتعريضه من غير سؤال، وهذا معنى قوله: "فَجَعَلَ يَصْرِف بَصَره" أي: مُتعرِّضًا لشيء يدفع به حاجته. وفيه: مواساة ابن السبيل، والصدقَة عليه إذا كان مُحتاجًا، وإن كان له راحِلة، وعليه ثياب، أو كان مُوسِرًا في وطنه، ولهذا يُعطَى من الزكاة في هذه الحال. والله أعلم.
وباب التعاون في القيام بحقوق المسلمين واسع، ويدخل ضمنه مجالات متعددة، منها:
إعانة الملهوف:
عن يزيد بن الأسود قال: "لقد أدركت أقوامًا من سلف هذه الأمة قد كان الرجل إذا وقع في هوي أو دجلة نادى: يا لعباد الله فيتواثبون إليه فيستخرجونه ودابته مما هو فيه ولقد وقع رجل ذات يوم في دجلة فنادى يا لعباد الله فتواثب الناس إليه فما أدركت إلا مقاصّه في الطين فلأن أكون أدركت من متاعه شيئًا فأخرجه من تلك الوحلة أحب إلي من دنياكم التي ترغبون فيها". (شعب الإيمان [6/ 107]).
فانظر: أخي المسلم كيف كان السلف الصالح يتفانون في إغاثة الملهوف وإعانته على نازلته وضرورته.
إعانة الضعفاء والمظلومين وحمايتهم من الاعتداءات:
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟، وفي رواية "أي العمل أفضل؟"، قال: «»، قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: «» (رواه مسلم [84]، وهو في صحيح البخاري بلفظ: «»).
وعند قوله أن «» نتذكّر القصة العظيمة التي قصّها علينا ربنا تبارك وتعالى في سورة الكهف: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ۖ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا . إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا . فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:83-85].
{آتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} أي: من أسباب التمكين من الجنود وآلات الحرب وأعطيناه الأسباب والوسائل، وهذا يعني أن صاحب الإمكانات تكون التبعة التي عليه أكثر من غيره بسبب ما أعطاه الله.
ثم قال عزَّ وجلّ: { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا . قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا . قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا . آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا . فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا . قَالَ هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:93-98]، ففي هذه الآيات صورة من صور التعاون على الخير ودفع الشر وصدّ حملات المفسدين.
وفي تاريخنا أمثلة عظيمة في هذا المقام، ففي ترجمة محسن بن محمد بن على فايع الصنعاني أنه: "كان حسن الأخلاق، واسع المروءة، رفيع السيادة والفتوة، كريم الطباع مفضالًا، بَذَل نفسه في معاونة الفقراء والمساكين والوافدين إلى الخلفاء، وأتعب خاطره في الطلب لهم وتفقد أحوالهم والسعي في قضاء حوائجهم وعلاج مرضاهم والقيام بمئونتهم، وجعلت بنظره صدقات وصلات فبالغ في التحري عليها وإنفاقها في وجوه الخير، وعمّر المساجد العجيبة وزاد في بعضها زيادة محتاج إليها، واعتنى بدراسة القرآن وأهل المنازل وجعل لهم راتبًا معلومًا خصوصًا في شهر رمضان... وله الزيادة الواسعة النافعة في مسجد الفليحي بصنعاء، وكان يضيق بالمصلين فأنفق عليه جُلّ ماله، وبنى لله مسجدًا في ساحة سمرة معمر بصنعاء عمَّره في آخر أيامه ووقف له، وكان كثير العوارض والأمراض متلقيًا لها بالقبول" (البدر الطالع [2/ 192]).
وكان بعض النبلاء المسلمين يعطي فقراء الفلاحين البذور، والتقاوي إعانة لهم على زرع محاصيل يستفيدون منها. ومن صور التعاون العامة؛ ما جاء في آداب الطريق وقد جمعها الحافظ ابن حجر رحمه الله في قوله:
جَمَعْت آدَاب مَنْ رَامَ الْجُلُوس عَلَى *** الطَّرِيق مِنْ قَوْل خَيْر الْخَلْق إِنْسَانَا
اُفْشِ السَّلام وَأَحْسِنْ فِي الْكَلام *** وَشَمِّتْ عَاطِسًا وَسَلامًا رُدَّ إِحْسَانَا
فِي الْحَمْل عَاوِنْ وَمَظْلُومًا أَعِنْ *** وَأَغِثْ لَهْفَان اِهْدِ سَبِيلا وَاهْدِ حَيْرَانَا
بِالْعُرْفِ مُرْ وَانْهَ عَنْ نُكُر وَكُفَّ *** أَذَى وَغُضَّ طَرْفًا وَأَكْثِرْ ذِكْر مَوْلانَا
التعاون في مواجهة شدائد العَيْش:
من حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل بعض الناس أغنياء، والبعض الآخر فقراء؛ ليساعد بعضهم بعضًا، خاصة في أمور معاشهم، ومعاونتهم على شظف الدنيا، ومواساتهم فيها، ويشهد لذلك ما رواه البخاري عن أبي موسى أنه قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «» (صحيح البخاري [2306]).
قوله: «» أي: فَنِيَ زادهم، وأصله من الرمل كأنهم لَصِقوا بالرمل من القِلّة. وفي الحديث: فضيلة الإيثار والمواساة، واستحباب خلط الزَّاد في السفر وفي الإقامة أيضًا. والله أعلم.
تعاون أصحاب المسئوليات فيما بينهم:
لعل من أهم صور التعاون؛ تعاون كل من تجمعهم مهمة واحدة لإنجاز هذه المهمة على الوجه الذي يرضي الله تعالى، وهذا هو مفهوم توجيه النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذًا وأبَا موسى إلى اليمن حيث قَال: «» (رواه البخاري [2811]).
وتلك الوصية النبوية جاءت لتؤصِّل عند جميع المسلمين دور التعاون في إنجاح جميع الأعمال والمهام حتى العظيم منها، ولهذا كان من أوائل ما اهتم به الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة عقد أسباب التعاون، وكان ذلك بأن آخى بين المهاجرين والأنصار ليحصل بذلك مؤازرة ومعاونة لهؤلاء بهؤلاء (سير أعلام النبلاء [1/ 143])؛ وذلك لأن المعاونة تورث المحبة والترابط.
وقد قيل لسعيد بن عامر بن حذيم: إن أهل الشام يحبونك؟ قال: لأني أعاونهم وأواسيهم.
هذا وصور التعاون على البر والتقوى كثيرة جدًا لا يُمكن حصرها، ومجال الاستدلال بتلك الآية الجامعة الفاذّة واسع جدًا، وهذا الذهبي رحمه الله لم يستدل من القرآن على مشروعية التعزية إلا بها، فقال رحمه الله: "واعلم رحمك الله أن التعزية هي التصبير وذكْر ما يسلّي صاحب الميت ويخفف حزنه ويهوِّن مصيبته، وهي مستحبة لأنها مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي أيضًا داخلة في قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ}، وهذا من أحسن ما يستدل به في التعزية، واعلم أن التعزية -وهي الأمر بالصبر- مستحب قبل الدفن وبعده، قال أصحاب الشافعي من حين يموت الميت." (الكبائر [1/ 188]).
وللتعاون أصول وضوابط حتى ذكر بعض المصنفين علمًا يسمى بـ(السياسة المدنية) بعد ذكره علم تدبير المنزل، فقال في أبجد العلوم:
1- علم التدبير المنزلي والحكمة المنزلية: وهي العلم بمصالح جماعة متشاركة في المنزل كالوالد والولد والمالك والمملوك ونحو ذلك، وفائدة هذا العلم أن تعلم المشاركة التي ينبغي أن تكون بين أهل منزل واحد لتنتظم بها المصلحة المنزلية التي تهم بين زوج وزوجة ومالك ومملوك ووالد ومولود.
2- علم السياسة المدنية: وهو علم بمصالح جماعة متشاركة في المدينة وفائدته أن تعلم كيفية المشاركة التي بين أشخاص الناس ليتعاونوا على مصالح الأبدان ومصالح بقاء نوع الإنسان. (أبجد العلوم[2/ 246]).
وهذا من أهم مقاصد المدنية؛ ألا وهو التعاون على أمور المعيشة، ومصالح الأبدان والنفوس، فكيف إذن إذا كان التعاون من أجل مصلحة الدين؟
التعاون على الشيطان:
ورد في بعض الآثار في صفة المؤمن أخو المؤمن يتعاونان على الفتّان: أي الشيطان.
والتعاون على الشيطان: أن يتناهيا عن اتباعه والافتتان بخُدَعه (الفائق [3 /102]).
ولا يجوز لمسلم أن يعاون الشيطان على أخيه المسلم.. كما دلّ عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَد شَرِبَ قَالَ: «»، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ، قَالَ: «». (رواه البخاري [6777]).
قال ابن حجر رحمه الله: "وَوَجْهُ عَوْنِهِمْ الشَّيْطَانَ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَان يُرِيدُ بِتَزْيِينِهِ لَهُ الْمَعْصِيَةَ أَنْ يَحْصُل لَهُ الْخِزْيُ، فَإِذَا دَعَوْا عَلَيْهِ بِالْخِزْيِ فَكَأَنَّهُمْ قَدْ حَصَّلُوا مَقْصُودَ الشَّيْطَانِ.
وَوَقَعَ عِنْد أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيق اِبْن وَهْبٍ عَنْ حَيْوَةَ بْن شُرَيْح وَيَحْيَى بْن أَيُّوب وَابْن لَهِيعَةَ ثَلَاثَتهمْ عَنْ يَزِيد بْن الْهَاد نَحْوه وَزَادَ فِي آخِره «» زَادَ فِيهِ أَيْضًا بَعْد الضَّرْب، ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ «»، وَهُوَ أَمْرٌ بِالتَّبْكِيتِ وَهُوَ مُوَاجَهَتُهُ بِقَبِيحِ فِعْلِهِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْخَبَر بِقَوْلِهِ "فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ لَهُ: مَا اِتَّقَيْت اللَّهَ عز وجل، مَا خَشِيت اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، مَا اِسْتَحْيَيْت مِنْ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَرْسَلُوهُ". وَفِي حَدِيث عَبْد الرَّحْمَن بْن أَزْهَر عِنْد الشَّافِعِيّ بَعْد ذِكْر الضَّرْب: "ثُمَّ قَالَ عليه الصلاة والسلام: «»، فَبَكَّتُوهُ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ". وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُ الدُّعَاءِ عَلَى الْعَاصِي بِالإِبْعَادِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّه كَاللَّعْنِ". انتهى
الضرب الثاني من ضروب التعاون: التعاون على الإثم والعدوان:
وقد جاء النهي الصريح في كتاب الله عز وجل عن التعاون على الإثم والعدوان، قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، [المائدة من الآية:2]، وكما تتعدد صور التعاون على البر والتقوى فكذلك تتعدد ضروب التعاون على الإثم، وحيث أن المقصود الأساس في هذه الرسالة الحثّ على التعاون على الخير فأكتفي بهذه الصور للعكس ومن ذلك:
- التعاون على إقامة الشرك والكفر:
وهذا له ضروب كثيرة ومن أمثلته المعاونة في بناء المساجد والأضرحة والقباب على القبور وجعل السّدنة الذين يأخذون النذور والقرابين وجمع التبرعات لصيانتها وترميمها، ومن هذا الباب أيضًا المعاونة على بناء كنائس النصارى.
ومن القصص الجيدة في إنكار ذلك أبيات أُرسِلت لابن شهاب لما عاون عرب طور سيناء على بناء البيعة بعكبرا، يقول الشاعر المسلم يحثّ على رفض ذلك ومعاقبة من فعله:
أردتكم حصنا حصينا لتدفعوا *** نبال العدى عني فكنتم نصالَها
فيا ليت إذا لم تحفظوا لي مودتي *** وقفتم، فكنتم لا عليها ولا لها
فيا سيف دين الله لا تنبُ عن هدى *** ودولة آل هاشم وكمالها
أعيذك بالرحمن أن تنصر الهوى *** فتلك لعمري عثرة لن تُقالَها
أفي حكم حق الشكر إنشاء بيعة النـ *** صارى لتتلو كفرها وضلالها
يَشيد موذينا الدمشقيُّ بيعة *** بأرضك تبنيها له لينالها
وينفق فيها مال حران والرُّها *** وتفتيحها قسرا وتُسبى رجالُها
وترغم أنف المسلمين بأسرهم *** وتلزمهم شنآنَها ووبالَها
أبى ذاك ما تتلوه في كل سورة *** فتعرف منها حرامها وحلالها
ويركب في أسواقنا متبخترا *** بأعلاج روم قد أطالت سبالها
فخذ ماله واقتله واستصف حاله *** بذا أمر الله الكريم وقالها
ولا تسمعن قول الشهود فإنهم *** طغاة بغاة يكذبون مقالها
ويوفون دنياهم بإتلاف دينهم *** ليرضوك حتى يحفظوا منك مالها
بل من شروط أهل الذمة التي ذكرها العلماء: "أن لا يحدثوا كنيسة وأن يعاونوا المسلمين ويرشدوهم ويصلحوا الجسور، فإن تركوا شيئًا من ذلك فلا ذمة لهم" (معجم البلدان ج [1] ص [57]).
ولذلك كان من البلية والفساد العظيم فتح مجالات التعاون مع النصارى وغيرهم من أعداء الإسلام؛ لما يترتب على ذلك من هدم القيم الإسلامية والمثل العليا للأمة...
يقول السلطان عبد الحميد: "إن طراز التفكير عند الأوربيين وعند النصارى طراز غريب مليء بالتناقضات فلا يستطيع الإنسان أن يحدد رأيه فيهم، فيومًا تراهم عريقين صادقين، ويومًا سفلة ظالمين. إنهم أناس لا يؤمنون بمبدأ ولا يدينون بدين يستصغرون رب العالمين تعالى الله عما يقولون، لقد جاءنا أناس منهم بصفة أساتذة أفاضل فأصابتنا الدهشة عندما عرفناهم وعرفنا دناءتهم. إن مفاهيم الحياة عندهم تغاير مفاهيمنا والبون بيننا شاسع والهوة سحيقة كيف يمكننا أن نفكر في التعاون معهم في مثل هذه الظروف" (مذكراتي السياسية [1/196]).
- الاستعانة بالشياطين على السحر والاعتداء وإيذاء المسلمين وكذلك الاستعانة بهم على سائر الحرام:
قال ابن القيم رحمه الله في كلامه عن العشق: "فإن استعان العاشق على وصال معشوقه بشياطين الجن إما بسحر أو استخدام أو نحو ذلك ضم إلى الشرك والظلم كفر السحر، فإن لم يفعله هو ورضي به كان راضيا بالكفر غير كاره لحصول مقصوده، وهذا ليس ببعيد من الكفر والمقصود أن التعاون في هذا الباب تعاون على الإثم والعدوان" (الجواب الكافي [1/154]).
- التعاون على إحياء البدع وإقامتها:
ومن ذلك المشاركة في مجالس الذكر المبتدعة والإنفاق عليها والدعوة إليها والتشجيع على غشيانها وفتح مجالات البدع المختلفة، ولا يفعل هذا إلا أعداء السنة والجهلة بها وما أُحييت بدعة إلا وأميتت سنة.
- أن يعاون الظلمة بأخذ المكوس:
ويكون في زمرة العمال الظلمة المترصدين في الطرق وغيرها. (أنظر أبجد العلوم [2/58]).
- أن يدل رجلًا على مطلوب ليُقتل ظلمًا أو يحضر له سكينًا:
وهذا يحرم لقوله: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة من الآية:2] (شعب الإيمان [1/ 268]).
- المعاونة في الأغاني نظمًا وتلحينًا وتنظيمًا لحفلاتها وتسجيلها ونشرها:
قال في (شعب الإيمان [4/281]): "ويحرم كذلك تجهيز الشِّعْر للمغنين".
- المعاونة على المنكر عمومًا:
وشر المراتب في المنكر بعد ارتكابه المعاونة عليه ثم الرضا ثم المداهنة ثم السكوت عن الإنكار. وعلى المسلم أن يصبر على أذى من يخالفهم لأجل منكرهم.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وذلك أن كثيرًا من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه ويبغضون من لا يوافقهم، وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم ومعاداتهم لمخالفيهم، وكذلك في أمور الدنيا والشهوات كثيرًا ما يختار أهلها ويؤثرون من يشاركهم في أمورهم وشهواتهم إما للمعاونة على ذلك كما في المتغلبين من أهل الرياسات وقطّاع الطريق ونحو ذلك، وأما لتلذذهم بالموافقة كما في المجتمعين على شرب الخمر مثلًا فإنهم يحبون أن يشرب كل من حضر عندهم، وإما لكراهتهم امتيازه عنهم بالخير إما حسدًا له على ذلك وإما لئلا يعلو عليهم بذلك ويُحمد دونهم، وإما لئلا يكون له عليهم حجة وإما لخوفهم من معاقبته لهم بنفسه أو بمن يرفع ذلك إليهم ولئلا يكونوا تحت مِنّته وخطره ونحو ذلك من الأسباب..." انتهى (الاستقامة [2/256]).
وفي رفض التعاون على الإثم والعدوان يقول ابن القيم رحمه الله:
"الإنسان مدني بالطبع لابد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات واعتقادات.
فيطلبون منه أن يوافقهم عليها فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر؛ فلابد له من الناس ومخالطتهم ولا ينفك عن موافقتهم أو مخالفتهم وفي الموافقة ألم وعذاب إذا كانت على باطل وفي المخالفة ألم وعذاب إذا لم يوافق أهواءهم واعتقاداتهم وإراداتهم، ولا ريب أن ألم المخالفة لهم في باطلهم أسهل وأيسر من الألم المترتّب على موافقتهم، واعتبر هذا بمن يطلبون منه الموافقة على ظلم أو فاحشة أو شهادة زور أو المعاونة على محرم فإن لم يوافقهم آذوه وظلموه وعادوه ولكن له العاقبة والنصرة عليهم إن صبر واتقى، وإن وافقهم فرارًا من ألم المخالفة أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فرَّ منه والغالب أنهم يسلطون عليه فيناله من الألم منهم أضعاف ما ناله من اللذة أولا بموافقتهم فمعرفة هذا ومراعاته من أنفع ما للعبد، فألم يسير يُعقِب لذة عظيمة دائمة أولى بالاحتمال من لذة يسيرة تُعقِب ألمًا عظيمًا دائمًا والتوفيق بيد الله" انتهى (إغاثة اللهفان [2/193]).
نسأل الله أن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى المحاربين للإثم والعدوان وأن يرزقنا فعل الخيرات وترك المنكرات وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
محمد صالح المنجد
أحد طلبة العلم والدعاة المتميزين بالسعودية. وهو من تلاميذ العالم الإمام عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه.
- التصنيف:
- المصدر: