الطريق إلى التركيز.. إدارة العقل
لقد كانت القرون الأولى من هذه الأمة شديدة التفوق في تركيز الذهن فيما هو نافع ومفيد، ومن أشد المجالات التي اتضحت فيها قدراتهم الهائلة على التركيز خشوعهم في الصلاة، فقد قيل لبعض السلف: هل تحدث نفسك بشيء من الدنيا في الصلاة؟ فقال: لا في صلاة ولا في غيرها.
فى عصرٍ انتشرت فيه المعلومات، وتوسعت العلوم وتطبيقاتها بصورة مذهلة، وفي زمنٍ أصبحت سرعةُ تغيره وتطوره أهم معالمه، ومن ناحية أخرى انتشرت فيه وسائل اللهو والترفيه، وكثرت مصادر الضوضاء والتشويش؛ في مثل هذا الزمن صار كل واحد فينا بحاجة إلى تدريب عقله على التركيز ليتمكن من مواكبة قطار الحياة السريع، وليسلم من الشرود والتشويش.
لا شك أن القدرة على التركيز صارت من أهم مقومات النجاح يقول (أ.ج. جريس) أهم رجال الصناعة البارزين: "إن صب الاهتمام في العمل أو المشكلة التي قيد البحث ثم نسيان الأمر بتاتاً بمجرد حسمه، والوصول إلى قرار فيه، بحيث تستعيد قوة تركيز ذهنك كاملة غير منقوصة؛ من أهم الأسباب المؤدية إلى النجاح في الحياة"، وقال هلفتيوس: "العبقرية ليست أكثر من تركيز الذهن"، وقال فليبيس بروكسل: "إن حصر الاهتمام هو أول مقومات العبقرية".
والتركيز ما هو إلا توجيه الذهن إلى موضوع بعينه توجيهًا كاملا كأن تحصر تفكيرك في مشكلة في عملك، فتنظر في جميع زواياها وجوانبها، وتحلل وتقارن حتى تصل إلى الحل. والتركيز أيضًا هو تعريض الذهن زمنًا كافيًا لمؤثر معين دون النظر إلى المؤثرات الأخرى، ونقصد بالمؤثر: هي المعلومات التي يتم استيعابها من خلال إحدى الحواس: البصر، السمع، الذوق، الحس، الشم. فمثلاً: تركز في صورة معينة في أشكالها وألوانها وظلالها دون الشعور بأي مؤثر آخر؛ فلا تشعر بالضوضاء حولك، ولا تشعر برائحة المكان، بل تحصر ذهنك في الاستجابة لهذا المؤثر ألا وهو هذه الصورة التي أمامك.
ولقد كانت القرون الأولى من هذه الأمة شديدة التفوق في تركيز الذهن فيما هو نافع ومفيد، ومن أشد المجالات التي اتضحت فيها قدراتهم الهائلة على التركيز خشوعهم في الصلاة، فقد قيل لبعض السلف: هل تحدث نفسك بشيء من الدنيا في الصلاة؟ فقال: لا في صلاة ولا في غيرها. وقال ميمون بن مهران: ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتاً في صلاة قط، ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدتها وإنه لفي المسجد يصلي فما التفت. وقد روي أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما كان يصلي في جوف الكعبة وهو محاصر بجيش عبد الملك بن مروان الذي يسدد ضرباته بالمنجنيق، فمرت فلقة من حجر عظيم بين لحيته وحلقه فما زال رضي الله عنه عن مقامه، ولا ظهر على صورته هم ولا اهتمام. وقد روي عن أبى بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال عن نفسه أنه ما نام فحلم، ولا سهى فغفل، فإذا كان هذا هو شأن سلفنا الصالح وكان ذلك هو شأن التركيز؛ فلننهض محاولين أن نلحق بالركب عسى أن نكون من الفائزين.
· ما هي أسباب شرود الذهن وعدم التركيز؟
حتى نستطيع معالجة أي مشكلة علينا بداية معرفة أسبابها، فما هو السبب وراء عدم تركيزنا في أعمالنا، وراء عدم خشوعنا في صلاتنا، وراء عدم تدبرنا لقرآننا؟
1- وجود مشكلة ملحة تطلبنا، قد تكون مشكلة شخصية- عائلية- عاطفية- مالية- اجتماعية، ولذا فقبل دخولك في العمل انسَ مشاكلك، وقبل دخولك في الصلاة انسَ الدنيا، وألقها وراء ظهرك.
2- توقع حدوث أمر مخيف والانشغال به.
3- المعاناة من مشكلة صحية.
4- وقوع أمر يؤدي إلى الفرح الشديد.
5- التعود على العيش أسير إلخيالات والأوهام غير الواقعية، والتعلق بها.
6- أن يكون في محيط العمل وبيئته ما يشغل الفكر، ويؤدي لعدم الارتياح، ومن أمثلة ذلك: الترتيب غير المناسب والمزعج لمكان العمل، أو شدة الحر أو البرد في مكان العمل، أو شدة الضوضاء، أو وجود رائحة كريهة في مكان العمل، ومن أمثلة ذلك في السنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام، فشغلته عن الصلاة، فلما انصرف قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، فإنها ألهتني آنفاً في صلاتي وأتوني بأنبجانيته» (البخاري: 5817)، و(أنبجانية: كساء غليظ).
علاج مشكلة الشرود الذهني وقلة التركيز:
إن بناء القدرة على التركيز الذهني والعقلي يحتاج إلى تمرين هادئ وطويل، ولكنه صارم ودقيق كما يفعل الإنسان عند بناء وتقوية عضلاته بحيث يستطيع بعد ذلك تركيز قواه الذهنية، وحصر تفكيره العقلي في أي وقت أراد، وفي أي موضوع أيضاً. وبعض الوسائل المساعدة لذلك:
1- رتب مكان عملك ترتيباً جيداً واستبعد كل ما يشتت فكرك، ويشغل ذهنك.
2- عود نفسك على أن تعيش لحظتك، وأن تحصر نفسك فيما أنت فيه فقط، وانسَ أو تناسَ كل ما عداه؛ قال صلى الله عليه وسلم: «من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» (حسنه الألباني).
3- إذا كنت تشعر بالإجهاد فتوقف عن العمل بعض الوقت، وخذ لحظات من الاسترخاء في مكان جيد للتهوية.
4- إذا كنت تشعر بالخمول فجدد التهوية في موقعك، وتحرك قليلاً من مكانك، ومارس بعض التمارين الرياضية إلخفيفة لبضع دقائق.
5- أعطِ نفسك قدرًا كافيًا من الراحة قبل البدء في التفكير، وممارسة العمل.
6- بادر بعلاج ما تعاني منه من مشكلات صحية، وإذا كنت تعاني من شيء فلا تبالغ في أمره، ولا تعطه تفكيرًا أكبر من حجمه.
7- حينما تكون في حديث مع شخص آخر اهتم بما يقوله محدثك، وما يقصده من الكلام، ولا تنشغل بما يلبسه، أو ما تحمله من ذكريات عنه.
تمارين التركيز:
إليك أخي الحبيب بعض التمارين والتدريبات العملية التي من شأنها إن شاء الله أن ترفع من درجة تركيزك إذا واظبت على فعلها:
التدريب الأول:
1- ركز على صورة معينة لفترة طويلة نسبياً، ركز في ألوانها، شكلها، حجمها، كل شيء عنها.
2- أغمض عينيك، وحاول أن تتذكر كل شيء عن هذه الصورة.
3- افتح عينيك، وانظر كم استطعت أن تحصل من تفاصيل في ذهنك.
4- كرر التدريب في صور أخرى، وحاول أن تزيد من مقدرتك على التركيز في كل مرة.
التدريب الثاني:
حاول أن تخصص وقتاً معلوماً كل يوم تركز فيه ذهنك في خبر في صحيفة تقرؤها، ثم نح عنك الصحيفة، وركز ذهنك في النبأ مدة عشر أو خمس عشرة دقيقة، ولا تنس أن التركيز معناه أن تحيط بالموضوع من كل جوانبه، وتنظر إليه من جميع زواياه مدخلاً في حسابك الأشخاص الوارد ذكرهم، ونزعة الكاتب، ومعلوماتك السابقة عن إلخبر، وحاول أن تصل إلى رأي حاسم في النبأ.
التدريب الثالث:
1- قم بعملية حصر للقضايا التي تحتاج منك إلى تفكير ورتبها حسب أهميتها أو استعجالها.
2- عندما تصبح معتدل المزاج مرتاح البال اجلس في مكان هادئ، واستخرج ورقتك، وتناول أول قضية فيها بالتفكير.
3- استعرض القضية الأولى من جميع جوانبها، وركز قواك الذهنية فيها وكأنك غائب عن كل ما عداها في الوجود لبضع دقائق، وحاول الإجابة على الأسئلة التالية عن القضية: (لماذا، متى، أين، كيف، من، مع) لماذا هذا العمل أريد القيام به؟ متى الوقت المناسب له؟ أين سيكون؟ كيف سينفذ؟ من يقوم بالعمل؟ مع من؟
4- حدد ما توصلت إليه في نقاط مختصرة، وسجل ذلك على الورق أولاً بأول.
5- ألقِ نظرة على ما كتبت، ثم أغمض عينيك، وحاول استذكار ما كتبت.
6- أعد عملية التفكير في أوقات مختلفة، وفي كل مرة اكتب ما تصل إليه من أفكار جديدة، وأضفها عندك، ثم انظر فيها، ثم أغمض عينيك، وتذكر كل ما توصلت إليه.
7- انظر إلى قضية أخرى، وتعامل معها كما تعاملت مع غيرها.
التدريب الرابع:
1- عد الأرقام تنازليًا من 100 إلى واحد، واحدًا واحدًا هكذا 97،98،99،100... إلخ.
2- ثم عدها مرة أخرى اثنين اثنين هكذا 96،98،100... إلخ.
3- ثم عدها ثلاثة ثلاثة 91،94،97،100... إلخ.
4- ثم عدها أربعة أربعة 88،92،96،100... إلخ.
5- ثم عدها خمسة خمسة 90،95،100... إلخ.
6- ثم عدها ستة ستة 88،94،100... إلخ.
7- ثم عدها سبعة سبعة 86،92،100... إلخ.
8- ثم عدها ثمانية ثمانية 84،92،100... إلخ.
9- ثم عدها تسعة تسعة 82،91،100... إلخ.
وكرر هذا التمرين كل يوم مرة لمدة شهر على الأقل.
التدريب الخامس:
وهذا التمرين هو لعبة مسلية تستطيع أن تزاولها مع أصدقائك، وتستفيد منها في نفس الوقت: أعط لكل الحاضرين قلماً وورقة، واطلب من كل منهم أن يكتب على الورقة الأرقام من 1 إلى 10 في شكل قائمة، ثم اسأل كل منهم أن يذكر كلمة تخطر بباله إلى أن تكتمل عشر كلمات يدونها الجميع أمام الأرقام التي سبق أن دونوها، ولنفرض أن القائمة أسفرت عن الكلمات الآتية:
1- بلد.
2- حيوان.
3- جماد.
4- نبات.
5- صحابي.
6- عالم.
7- مثل.
8- علم.
9- لاعب.
10- صفة.
ثم بعد ذلك اختر حرفاً من الحروف الهجائية وليكن مثلاً حرف (م) وليحاول كل واحد فيكم أن يملأ هذه القائمة بعشر كلمات كل منها يبدأ بحرف الـ(م) والفائز هو من ينهي القائمة أولا مثال ذلك حرف الميم:
1- بلد: مصر.
2- حيوان: ماعز.
3- جماد: ملعقة.
4- نبات: مانجو.
5- صحابي: محمد بن مسلمة رضي الله عنه.
6- عالم: الإمام مالك.
7- مثل: من جد وجد ومن زرع حصد.
8- علم: علم المواريث.
9- لاعب: ميسي.
10- صفة: متردد.
ولكي تضفي بهجة على هذه اللعبة أعط لكل إجابة صحيحة عشر درجات، فتكون النهاية القصوى 100 درجة، فإذا اشترك اثنين في نفس الإجابة يأخذ كل منهما خمسة درجات فقط، إن هذه اللعبة تتطلب تركيزًا حقًا، وهي تمرين مثالى في تقوية التركيز جربها.
اقتراح: في الصغر كنا نلعب هذه اللعبة بقائمة محددة إن لم تستطع عمل قائمة مناسبة:
1- اسم رجل.
2- اسم امرأة.
3- حيوان.
4- جماد.
5- نبات.
6- بلد.
7- اسم رجل مشهور.
8- اسم امرأة مشهورة.
9- صفة إنسان.
10- اسم أكلة.
- التصنيف: