من يصفد شياطين الإنس في رمضان؟

منذ 2014-07-29

فقد شرع الله تعالى الصيام ليكون تخلية للأرواح وتحلية، وتنقية للأبدان وتقوية، وجعل فيه للقلوب رياضاً بهيجة ونعيماً؛ فهي ترتع فيها مرحة مسرورة مشرقة، وتعرج في سماء نسائمها لطيفة مسرورة متألقة.

فقد شرع الله تعالى الصيام ليكون تخلية للأرواح وتحلية، وتنقية للأبدان وتقوية، وجعل فيه للقلوب رياضاً بهيجة ونعيماً؛ فهي ترتع فيها مرحة مسرورة مشرقة، وتعرج في سماء نسائمها لطيفة مسرورة متألقة.

 

ورفع عن عباده فيه العنت؛ ففتح لهم أبواب رحمته وجنته ليتوبوا إليه ويؤوبوا، ويسارعوا إلى نيل مرضاته ومغفرته؛ كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا . يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:26-28]، فهذا مراد الله تعالى ومقصده مما شرع؛ يجب على العبد أن يصل مراده به، ويجعله له تابعاً، ولا يليق به مخالفته أو معارضته، لاشتماله على غاية العلم والحكمة من وجهين:

 

الأول: ما فيه من مصلحة العباد الراجحة، التي لو تركت لعلمهم وتدبيرهم ما أدركوها.

الثاني: ما في صبغة التشريع الإلهي ومنهج تنزل الشعائر، من مراعاة ضعف العباد والرفق بهم ورحمتهم.
 

والآية الكريمة أعم من أن يراد بمضمونها شعيرة إسلامية دون أخرى؛ بل كل الشعائر طهرة العبد من الخطايا وسبيل توبته إلى الله تعالى، كما أن اتباع الشهوات مانع من أدائها جميعاً، وحائل دون الإقبال على الله بما شرع، وتقديم مراده، وإيثار محبته.

 

فالله تعالى إنما يمهد لنا طريق مرضاته، ويعيننا على السير فيه، وهذا جلي لمن تأمل صنوف فضل الله وإحسانه التي اشتملت عليها شعيرة الصيام، وما ألقى خلال أيام رمضان ولياليه من منحه الوافرة وهباته الزاخرة؛ فحثنا على إحرازها بالتزلف إليه وخشيته سبحانه وتقواه؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَاباً يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ؛ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ؛ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ» (الألباني (صحيح الترغيب [979])).

 

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله منوها بشعيرة الصيام : "وأما الصوم، فناهيك به من عبادة تكف النفس عن شهواتها، وتخرجها عن شبه البهائم إلى شبه الملائكة المقربين، فإن النفس إذا خليت ودواعي شهواتها التحقت بعالم البهائم، فإذا كفت شهواتها لله ضيقت مجاري الشيطان، وصارت قريبة من الله بترك عادتها وشهواتها محبة له، وإيثاراً لمرضاته، وتقربا إليه".

 

ثم قال: "فهو شاهد يعني الصوم لمن شرعه وأمر به بأنه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وأنه إنما شرعه إحساناً إلى عباده ورحمة بهم ولطفاً بهم؛ لا بخلا عليهم برزقه، ولا مجرد تكليف وتعذيب خال من الحكمة والمصلحة؛ بل هو غاية الحكمة والرحمة والمصلحة ".
 

ولما كان مراد إبليس وأعوانه من الجن مخالفاً لمراد الله تعالى بعباده أتم فضله على الصائمين خاصة بتصفيد الشياطين، ومنعهم من صد عباده عما أعد لهم من خير الصيام طيلة الشهر المبارك؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِن شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ؛ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ؛ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَللَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» (تخريج مشكاة المصابيح [2/312]).
 

فأعان الله تعالى كل صائم على دفع ما يكدر صفو تقواه، ويفسد عليه لذة نجواه، ويحول بينه وبين كمال التزلف إلى ربه والتودد إليه، بفعل محابه وترك مساخطه وإيثار مرضاته؛ كي لا يمضي رمضان إلا وقد طهر قلبه مما يحجبه عن نور هدايته، ويقطع سيره إليه.
 

بيد أن هذا لا يعني إسقاط التكليف عن العبد، ولا الترخيص له في والتهاون والتواكل، وإلا فإن لوقوع الشر والمعصية أسباباً أخرى؛ كما قال الإمام القرطبي رحمه الله: "إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم يعني الشياطين أن لا يقع شر ولا معصية؛ لأن لذلك أسباباً غير الشياطين؛ كالنفوس الخبيثة، والعادات القبيحة، والشياطين الإنسية".
 

بل يعني ما قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: "في تصفيد الشياطين في رمضان إشارة إلى رفع عذر المكلف؛ كأنه يقال له: قد كفت الشياطين عنك فلا تعتل بهم في ترك الطاعة، ولا فعل المعصية".
 

إن إعانة الله الصائم على طاعته بتصفيد الشياطين، يعني في تصور كل عاقل أنه فرصة العمر السانحة، وذريعة اللبيب أن يحرز حنكة الاستقامة طيلة العام كله بدربة شهر واحد؛ فيستأنف سيره إلى ربه بعد انقضاء رمضان وقد أبصر نور الطريق، وخبر مسالكها المنجية، وسبلها المردية، وعالج قاطع طريقه الشيطان، وعرف حيله وأنواع مكائده، وشراسته وعلامات مصائده، وأنه لن يألو جهداً إذا خرج رمضان وحل صفاده في استئناف عداوته وحربه، والحرص على استرداد قلاعه ومواقعه، وتعويض خسائره، والطمع في استرجاع سبيه القديم، وضم ما استطاع من سبي جديد.
 

فهي حال أشبه بنصر مؤزر يحرزه العبد طيلة شهر رمضان؛ فعليه الحفاظ على غنيمته الثمينة، والحذر من الاسترخاء والغفلة عن سلاح المجاهدة والمصابرة؛ فإن إبليس لا تعييه الهزائم، وهو لا محالة راجع إلى تلك الساح؛ فساع فيما أقسم بعزة الله على تنفيذه بعد أن أخرج من الجنة مذؤوماً مدحوراً: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16].
 

وممن يجب حذرهم ممن خالفوا مراد الله تعالى بعباده أيضاً: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} [النساء:27] كما في الآية الكريمة، فهؤلاء يريدون أن يميل العباد عن طاعة ربهم، وعما وراء اتباع شرعه الحنيف من الخير لهم، والآية أعم من أن تراد بها طاعة دون طاعة كما سبق؛ بل إن تعلقها بالصيام أظهر؛ لأنه من وجه أنجع الطاعات في كف الشهوات؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَن لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» (البخاري [5066]).
 

ومن وجه آخر لكون السر في إضافة الله تعالى الصيام إلى نفسه دون سائر العبادات أن الصائم إنما يدع شهوته من أجله تعالى؛ كما في الحديث القدسي الصحيح: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مرتين، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِندَ اللَّهِ مِن رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا» ( صحيح البخاري [1894]).
 

فهؤلاء يتبعون الشهوات من دون الله، ويريدون أن يصرفوا الطائعين عن الهدى ليصيروا مثلهم فيلقوا مصيرهم، وفي جعل الفاعل موصولاً مبهماً فوائد:

منها: تعليق الحكم بالصلة دون الاسم الجامد فلم يقل مثلاً: (ويريد الفاسقون) إشعاراً بصفتهم، وما اختصوا به لمن يحذر موافقة مرادهم ولم يعرفهم؛ فاتباع الشهوات صفتهم.
 

ومنها: تبصير القلب بأن اتباع الشهوات علامة الميل العظيم عن سبيل الله؛ فإذا عرف ذلك حذر وخاف، وهذا من الأدلة على أن الإخبار عن مراد الذين يتبعون الشهوات ليس مرادا لذاته؛ ولكن المراد الأمر باجتناب طريقهم صيانة لشرط الإخلاص.
 

ومنها: أن الوصف مستغرق لكل الذين يتبعون الشهوات على اختلاف أصنافهم ومراتبهم، كي يكون مراد الله خالصاً للعبد نفياً وإثباتاً؛ فلا تشوبه شائبة الموافقة لمن خالف مراده على أي وجه، وفي قوله تعالى: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء من الآية:28]، إشارة إلى أن الشهوة تضعفه، لأن مداخلها من نفسه عديدة دقيقة خفية؛ كالنظر والكلام والطعام وغيرها، ولكل مدخل فريق يدعو إليه.
 

إن الذين يتبعون الشهوات، يريدون أن لا يكون على النزوات سلطان من دين أو عرف أو قانون، وأن لا يكف هيجان الغرائز وازع؛ فتصير همم البشر في بطونهم وفروجهم، وسعيهم في إشاعة الفواحش، وتدنيس الأعراض، وإظهار أنواع الفساد.

 

ومن عرف حرص كثير من الفضائيات على الاستمرار في بث ما يحض على اتباع الشهوات من اللهو والفجور خلال شهر رمضان، علم أن للشياطين المسلسلين نواباً وجنداً، قاعدين للعباد صراط الله المستقيم؛ لا يفترون عن إغوائهم وصدهم عما أراد الله لهم من الخير بصيامهم.

 

فليعلم الصائم أن خطر شياطين الإنس وحربهم أشد، وليستعذ بالله من شرهم كما يستعيذ به من شر شياطين الجن، وليهجر رفثهم وفحشهم حفظاً لصيامه أن يحبط؛ فيصير جوعاً محضاً، وعطشاً بحتاً، وشقاءً خالصاً، ولا يغرنه لبوس "الفن"، الذي لفوا فيه لهوهم وخَناهم؛ إذ لو كان فناً نظيفاً وعملاً صالحاً لأعان الصائم على تطهير جوارحه من فضول النظر، وإطلاق الشهوات، وركوب الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
 

لو كان فناً نظيفاً وعملاً صالحاً لأعان الصائم على البر والتقوى والخشية والحياء، فنهاره إمساك لا يصلح ولا يتم إلا بإمساك الجوارح، وليله قيام ودعاء، وتضرع وابتهال لا ينفع ولا يصل إلى الله إلا إذا صفا جوه من اللغو، فهل ترى في تلك المسلسلات والأفلام والمسرحيات ما يدعو إلى عفاف وحشمة وتعظيم لحرمات الله جل وعلا؟
 

هل ترى فيها ما يقرب من الله، ويعظم في نفس الصائم شأنه عز وجل، ويعينه على ذكره وشكره وحسن عبادته؟

هل ترى فيها ما يعين على الزهد في الدنيا ورجاء الآخرة؟

هل ترى فيها ما يشرح صدر العبد لدين الله، ويبصره بميثاق عبوديته ومنشور ولايته؟

هل ترى فيها ما يدخله في رحمته ومرضاته، ويخوفه من الوقوع في موجبات سخطه وعقوبته؟

هل ترى فيها ما يعرفه بنبيه صلى الله عليه وسلم، ويبصره بجلال قدره، ويذكره بحقوقه الجمة عليه، ويعدد فضائله ومناقبه، ويحصي شمائله وخصائصه؟

هل ترى فيها ما يعلمه آداب تقديره صلى الله عليه وسلم ونصرته وتعزيره، وشروط محبته والتعلق به وتوقيره؟

هل ترى فيها ما يعلم الناس شعب الإيمان، ويربيهم بالتقوى والإحسان، ويحبب إليهم الإيمان ويكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان؟

هل ترى فيها ما يهذب النفوس ويرقيها، ويصلحها ويعليها، ويزرع فيها العزة والإباء، ويقيها سوء التردي في درك الهوان؟

هل ترى فيها ما يسمو بالأرواح في معارج الفضيلة ويرقى بها في مدراج الكمال، ويصفيها من أكدار الإثم والسوء، ويعصمها من أخلاط الرذيلة؟

هل ترى فيها ما يثبت المؤمنين، وينصر الطائعين، ويعزر العابدين، ويهدي العاصين، ويشد على أيدي التائبين، ويرشد الحائرين، ويعيد اليقين إلى قلوب المترددين؟

هل ترى فيها ما يهدي للتي هي أقوم من التصورات والتصرفات، ويبصر بأعراض الفكر المنحرف وأسبابه، ومزالقه ومخاطره؟

هل ترى فيها ما يرفع شأن أهل العلم الأحياء والأموات، ويبرزهم ويفشي علمهم أينما كانوا، وما يحث على الفرح بوجودهم والأسف على فقدهم؟

هل ترى فيها ما يغرس في النفوس الطيبات ويغري بطلبها وإيثارها، ويباعد بينها وبين الخبائث ويكره إليها إتيانها؟

كلا! وإن شهر رمضان أعظم فاضح لحقيقة هذه الفضائيات وحقيقة أهلها، وخير كاشف لما يريد أعداء هذه الأمة بها ويبيتون لها من الشر، ويصرفون فيه ما لا يحصى من الأموال كي يبدل دينها، وتبطل أعمالها، وتهدر قيمها وتدمر؛ فلا يبقى لها من الديانة إلا مشاعر باردة جامدة لا مظاهر لها من الأفعال، ولا أثر لها في السلوك، ولا يسندها في الواقع قوة أو دعم.
 

وتأمل حال الصائم الساعي وراء تلك الأفلام والمسلسلات والأغاني؛ يقضي أوقات ليله ونهاره أو بعضها في تتبعها؛ بالله هل يبقى له من صيامه شيء؟ وهل يكسب ثواباً أو إثماً؟ وهل يجد ثمة التقوى أم البلوى؟

 

إن من خصائص الصيام إشعار العبد بلزوم تعظيم الله سبحانه وتعالى وتوقيره، وتعظيم شعائره وحرماته؛ والحياء منه، والخوف من مواقعة ما حرم، والحرص على فعل ما رغب فيه؛ فيصير المعرض عن إجلاله وطاعته في سائر الشهور مجلا له مقبلاً على طاعته إذا صام، سهلاً ليناً سلس القياد لمن يدله على الله؛ سريع الخشوع لذكره، سريع التأثر بما يحثه على الإقبال عليه، ويحمله على خشيته وتقواه، فكيف يحفظ هذه المشاعر القدسية وينميها، ويرفع قواعدها ويبنيها مع إقامته بما يرى من مشاهد الخنا على هدمها ودكها؟!
 

وإنك لتعجب، حين تقرأ أو تسمع أن الفضائيات العربية تعد البرامج والأفلام والمسلسلات الخاصة بشهر رمضان قبل حلوله بشهور؛ فتظن أن في إضافتها إلى شهر الصيام اعتباراً لقدسية هذه الشعيرة العظيمة، وإجلالاً لحرمتها، وتقديراً لمقاصد تشريع الصيام الإيمانية والتربوية والدعوية، وتعظيماً لمراد الله جل وعلا من فرضه على عباده {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة من الآية183]؛ فإذا خبرتها وجدتها لاعبة لاهية؛ هازئة بتلك الحرمة المقدسة؛ عابثة بتلك المقاصد العالية؛ مائلة عن مراد الله العلي العظيم؛ حاضة على اتباع الشهوات؛ قد اتخذت شهر الصيام ذريعة إلى ترويج سلعة "الفن" الخبيثة، وتربصت بمن يغبنون في فراغهم من ضعاف النفوس؛ فيبتلون خلال هذا الشهر بهدر الأوقات وسحقها بما ينسي ويلهي استثقالاً للإمساك نهاراً، وفرحاً بالأكل والشرب ليلاً، فما كان لدى تلك الفضائيات من الملهيات الصادات عن سبيل الله ألقته في سوق الغفلة عن ذكر الله آمنة مطمئنة أن سلعتها على عفونتها وقذارتها مبيعة نافدة، وأن "رسالتها الفنية" في تلك الأذهان الخاوية أيضاً نافذة، وأن دعاتها على تلبسهم بوظيفة إبليس مصدوقون مصدقون!

 

فإذا جئت إلى الأفلام والمسلسلات المسماة "دينية"، وجدت العجب العجاب مما يؤسف وينفر، ويكدر صفو الأذواق، ويقدح في القيم والأخلاق؛ وجدت من "يلعب دور" صحابي جليل مجاهد، قوياً على الكافرين في ساح القتال؛ ضعيفاً مهزوماً إذا بارزته امرأة بفتنتها، مأسوراً لحسنها الباهر وجمالها؛ لا يتورع من الخلوة والمداعبة والملامسة والتغزل والمعانقة.

 

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِن كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» (صحيح البخاري [6120]).

 

فمن يصفد شياطين الإنس القاعدين للصائمين صراط الله المستقيم، ومن يسلسلهم ليمنعوا من إغوائهم وصدهم باتباع الشهوات عن سبيل الله؟
 

إنهم كشياطين الجن في الحمل على الطائعين طمعاً في إضلالهم وضمهم إلى حزبهم وشيعتهم، أو سبيهم لكفهم عن إرادة الله والدار الآخرة.
 

إنهم أعداء الأنبياء والرسل والدعاة إلى الله؛ كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112].
 

وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «هَلْ تَعَوَّذْتَ بِاللَّهِ مِن شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنسِ؟». قال: "قلت: لا يا رسول الله!، وهل للإنس من شياطين؟". قال: «نَعَمْ، هُمْ شَرٌّ مِن شَيَاطِينِ الْجِنِّ!» (ابن كثير (تفسير القرآن [ 3/312]).

 

وقد ظهرت بحمد الله فضائيات صالحات نافعات مباركات على قلتها؛ تبصر المسلمين بدينهم، وتعينهم على البر والتقوى، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فلله در أهلها الصالحين القائمين على رعايتها.
 

فهي المرشحة بإذن الله لأداء الرسالة الإعلامية السامية النقية، وإقامة بديل الخير الكفيل بحفظ دين الصائم والمفطر، وإعانتهما على البر والتقوى، فإذا عمت وكثرت، وفشت كلمتها وانتشرت، وعالج الناس فضلها ونفعها، وخيرها وصلاحها، وصدقها وإخلاصها أيقنوا أن شأنها وشأن الفضائيات الأخرى، كقوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} [الأعراف من الآية:58]؛ فإذا بزخرفها ذاهب، وباطلها زائل زاهق؛ كما قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد من الآية:17]، وإذا بها مسلسلة قد أمن المسلمون فتنتها، بل ما يدريك لعل تلك الفضائيات نفسها تعي فتفيق وتفيء، وتهتدي كما يهتدي المخطئ والمسيء؛ فيبدل الله سيئاتها حسنات، وباطلها حقاً يشرفها ويزكيها ويرفع لها الدرجات.

 

ولعمري إن هذا المدى لهو خير حال ومآل، وأحسن مرغوب يطلبه اللبيب الماجد، وأفضل أمنية يتطلع إليها العاقل الراشد.

 

 

عبد الرزاق مرزوك

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

  • 0
  • 0
  • 4,926

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً