مسلمو القرم.. شوكة في حلق ابتلاع الروس لأوكرانيا

منذ 2014-03-11

التتار قاموا لعقود بحرب من النضال السلمي للمطالبة بحقهم في العودة، وبدأوا بالفعل في العودة بأعداد كبيرة منذ 1989م، مع انهيار الاتحاد السوفيتي بعد أن هجرهم ستالين، ووِفقًا لآخر تعدادات السكان الأوكرانية فإن تتار القرم يُشكِّلون 20% من السكان هناك البالغ عددهم أكثر من مليونين بقليل، وهؤلاء التتار المسلمين يُمثُِّلون كتلة انتخابية مشحونة ضد روسيا، وكانت طوال الوقت مؤيدة لأوكرانيا ومعارضة للانفصاليين الموالين لروسيا في شبه الجزيرة...

كانت مشاهد مظاهرات المسلمين (التتار) في شبه جزيرة القرم الأوكرانية أمام برلمان العاصمة احتجاجًا على الوجود الروسي بجزيرتهم، بعدما أنزلت روسيا قوات خاصة لاحتلال الجزيرة تمهيدًا لضمها وأوعزت لبرلمانها الذي تسيطر عليه أغلبية روسية بالتصويت لصالح الانفصال والانضمام لروسيا، ثم مشاهد اشتباك المسلمين مع الجيش الروسي المتواجد على أراضيهم، وتقديم مسلمي الجزيرة الطعام للجنود الأوكرانيين المحاصرين داخل قواعدهم بـ"القرم" متعاطفين معهم ورافضين تواجد القوات الروسية بالإقليم.. كل هذا كان عبارة عن سرد تاريخي حديث للتاريخ القديم للقرم وخشية المسلمين من إبادة روسية جديدة لهم كما حدث في الحقبة الملكية القيصرية ثم الشيوعية. 

فالخلفية التاريخية هي التي دفعت مسلمي القرم -الذين يُشكِّلون ثالث أكبر أقلية (20%) من سكان القرم بعد الروس والأوكرانيين- لذلك؛ بعد سلسلة من عمليات تهجيرهم في الحقبتين الإمبراطورية والشيوعية، ومخاوف من تكرار ذلك بعد استيلاء الروس على القرم مرة أخرى بعد استقلالها عقب انهيار الاتحاد السوفيتي. 

ولذلك؛ شجب أعضاء مجلس تتار القرم الحكومة الجديدة باعتبارها غير شرعية، لأنّ التّصويت عليها تمّ "تحت فوهة البنادق" وقال أعضاء المجلس: "إنّ التتار يقومون بتشكيل فرق للدفاع عن النّفس ضدّ الهجمات"، ومراسل جريدة (التايمز) البريطانية تحدَّث عن "تحضيرات لمواجهة قريبة ليست واضحة في بلدة بخشيساراي، بين المسلمون والروس من سكان الجزيرة".

ويقول مراقبون أن خروج أوكرانيا عن طاعة روسيا عقب الربيع الأوكراني الذي انتهى بهروب الرئيس الأوكراني المؤيد لروسيا إلى إقليم القرم أحد معاقل الروس هناك، هو أشبه بالانهيار الثاني للاتحاد السوفيتي، ولهذا جاءت التحرُّكات الروسية سريعًا لضم الإقليم إلى روسيا عبر إرسال قوات مظلية روسية مسلحة ترتدي ملابس مدنية للسيطرة على مبنى البرلمان والحكومة في مدينة سيمفروبول -عاصمة القرم-، وطرد الحراس الأوكرانيين ورفع الإعلام الروسية تمهيدًا لانفصال الإقليم عن أوكرانيا، ثم الإيحاز إلى سلطات القرم ذات الأغلبية الروسية لإصدار قرار بالانفصال والانضمام لروسيا، ثم إجراء استفتاء محلي في 16 مارس الجاري للتصويت على بقاء القرم في أوكرانيا أو انضمام القرم إلى روسيا!

لهذا؛ قام أكثر من 15 ألف تتري مسلم في الإقليم بالاحتجاج أمام البرلمان ذي الأغلبية الروسية في الجزيرة لمنعه من عقد جلسته الاستثنائية، ودخلوا في مواجهة مع المؤيّدين للروس، وتحوّلَت المواجهة لعنف قتل فيها شخص واحد، ودعموا القوات الاوكرانية المحاصرة، وأعلنوا الجهاد ضد القوات الروسية واعتبروها محتلة. 

مخاوف إبادة تاريخية:

سِرُّ هذه الانتفاضة لمسلمي القرم ترجع إلى تاريخ إبادة الروس لمسلمي القرم وتهجيرهم والخشية من تكرار السيناريو مرة أخري، فمسلمي القرم بأوكرانيا لم ينسوا حملات التطهير العرقي على يد الاحتلال الروسي في عهد الاتحاد السوفيتي السابق، ما أدَّى لتقلص عددهم حتى أصبحوا خُمْس سكان القرم بعد أن كانوا يحكمون تلك الجزيرة في عهد الدولة العثمانية.

ولم ينسوا المجازر التي قامت بها روسيا في حق المسلمين، حيث عانوا منذ سبعة عقود من اضطهاد ونفي وقتل وتجويع روسي، وبعد أن كان التتار المسلمون في جزيرة القرم يحكمون موسكو باتوا في اضطهاد ديني وعِرقي ونفي وقُتِل وتشرّد 90% منهم. 

مسلمو "القرم" بالجنوب، ومسلمو "الدنباس" بالشرق الذين يبلغ عددهم نحو مليوني نسمة، يخشون الآن من أن تفضي الأحداث الجارية إلى وقوعهم تحت احتلال روسي يُعيد خبرة الاضطهاد الروسي لهم، ويقفون بالتالي شوكة في حلق ابتلاع روسيا للقرم. 

فمجازر روسيا القيصرية التي مارست شتى ألوان القهر والتعذيب ضد الشعب التتاري المسلم، وصادرت أراضيهم ومنحتها لمواطنيها، وصادرت مساجدهم ومدارسهم، واضطر نحو مليون وعشرين ألفًا منهم للفرار إلى تركيا، وتهجير الباقي بقرار الأمير الروسي منشكوف، وابتلاع الملكة الروسية -كاترين- دولة الخانات في عام 1783م، ما نتج عنه هجرة جماعية لتركيا، انخفاض عدد السكان المسلمين للعُشر مع بداية القرن العشرين، لا تزال عالقة في أذهان وتاريخ مسلمي القرم. 

ومجازر "جوزيف ستالين" وترحيله لهم قصريًا في عام 1944م لسيبيريا وآسيا الوسطى، حتى مات نصفهم من الجوع والبرد والمرض، وعندما قام بطرد مسلمي القرم إلى آسيا الوسطى بحجة التّعاون مع النازية، وأعدم 3500 مسلم تتري لأنهم احتجوا على إنشاء كيان يهودي في القرم عام 1928م، ورفضوا تجنيد ستالين 60 ألف تتري منهم لمحاربة ألمانيا النازيين لا يزال في ذاكرتهم. 

وتحوَّل الأغلبية التترية في الجزيرة قبل مئات السنين إلى أقلية بعدما أقاموا مملكة لهم على طريق الحرير، وظلّت مزدهرة رغم الهجمات المتكرّرة عليهم من القزق الأوكرانيين، لا يزال في ذاكرتهم.

سيناريو "أبخازيا" في "القرم"!

وتقول "أوكسانا شيفيل" أستاذة العلوم السياسية بجامعة توفتس الأمريكية، وعضو المجلس الأوكراني البحثي بجامعة هارفرد، في مقال بجريدة "واشنطن بوست": "أن القائم بأعمال الرئيس الأوكراني أوليكسندر تورشينوف، أعلن أن روسيا تحاول ضم الأراضي الأوكرانية وتكرار سيناريو أبخازيا في شبه جزيرة القرم!

حيث قال إن بوتين يريد أن يشعل حربا أهلية في أوكرانيا ويستغلها للحديث عن أخطار تهدد امن روسيا القومي وبالتالي ضرورة تدخلها لدعم الأغلبية الروسية التي تحكم هذه المناطق (أبخازيا) أو (بلا الاباظة) التي تضم أعداد كبيرة من المسلمين، في جورجيا، والآن يجري تكرار نفس السيناريو مع أاوكرانيا ضد مسلمي القرم!".

وأضافت: "أن البرلمان الروسي طُرِح قانونًا يسهل عملية ضم الأراضي الأجنبية إلى روسيا للنقاش، فيما بدأت وزارة الخارجية الروسية في إصدار جوازات سفر لأعضاء شرطة مكافحة الشغب الأوكرانية الهاربين، ونوَّهت إلى أن موسكو قد تكون أعدَّت خططًا للاستيلاء على شبه جزيرة القرم، غير أن هناك العديد من العوامل التي تشكك في قدرات روسيا على بسط سيطرتها وضم القرم على نحو فاعل، كما حدث مع أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا وترانسنيستريا".

وتفيد: "بأن أهم هذه العوامل هو أن الجانب الأوكراني لم يصدر أي رد فعل أو تحرُّكات يمكن لروسيا اعتبارها استفزازًا أو تهديدًا يستوجب الرد العسكري من قبل الجانب الروسي لحماية قواته العسكرية ومدنييه في أوكرانيا، على عكس الحال في جورجيا عام 2008م، ولكن قدرات روسيا على التدخل ظهرت بوضوح عقب إعلان الاستفتاء على ضم الإقليم إلى روسيا". 

ولكن الجديد الذي تقوله "أوكسانا شيفيل" هو أنه حتى ولو استولى الجيش الروسي على أراضي القرم بقصد السيطرة عليها بشكلٍ دائم؛ فإنه سيكون صعبًا على موسكو أن تبسط سيطرتها على القرم كما فعلت في أوسيتيا الجنوبية أو أبخازيا. والسبب الرئيس في ذلك هم تتار القرم". 

فالتتار قاموا لعقود بحرب من النضال السلمي للمطالبة بحقهم في العودة، وبدأوا بالفعل في العودة بأعداد كبيرة منذ 1989م، مع انهيار الاتحاد السوفيتي بعد أن هجرهم ستالين، ووِفقًا لآخر تعدادات السكان الأوكرانية فإن تتار القرم يُشكِّلون 20% من السكان هناك البالغ عددهم أكثر من مليونين بقليل، وهؤلاء التتار المسلمين يُمثُِّلون كتلة انتخابية مشحونة ضد روسيا، وكانت طوال الوقت مؤيدة لأوكرانيا ومعارضة للانفصاليين الموالين لروسيا في شبه الجزيرة.

وخلال الاستفتاء على الاستقلال عام 1991م، كان الفضل في الأصوات التي حصل عليها خيار استقلال شبه الجزيرة عن أوكرانيا، يعود إلى تتار القرم المسلمين، ومنذ ذلك الحين وتتار القرم والممثلون لهم فيما يعرَف بـ"المجلس" يتعاونون مع السياسيين المؤيدين لأوكرانيا، وقادة المجلس، مثل مصطفى دزيمليف ورفعت تشاباروف، الذين كانوا أعضاء في البرلمان الأوكراني. 

ولذلك؛ عندما سيطر عدد كبير من المسلحين الموالين لروسيا على البرلمان، في 26 فبراير الماضي، حشد التتار المسلمين تظاهرة ضخمة بالقرب من البرلمان، أمام مظاهرة أخرى موالية لروسيا أيضًا، ورغم أن التتار كانوا حليفًا قويًا للحكومة الأوكرانية ضد الانفصاليين الموالين لروسيا، إلا أن الحكومة المركزية في كييف كانت دومًا متشكِّكة في تتار القرم الذين يَعتبرون شبه الجزيرة موطنهم التاريخي، وطالبوا بتدابير معينة مثل تغيير وضع الحكم الذاتي في القرم لجعله حكمًا ذاتيًا لتتار القرم معارضين بذلك الحكم الذاتي للإقليم الذي يُشكِّل الروس قرابة 40% من سكانه. 

ولذلك؛ فمهما كانت المظالم التي يعاني منها التتار المسلمون في ظل الدولة الأوكرانية؛ إلا أنهم عندما يواجهون بخيارين أحدهما أن يكونوا تحت السيطرة الروسية فهذا -وبشكلٍ لا لبس فيه- سيكون خيارًا مستحيل القبول بالنسبة لهم وسيحاربون الروس. 

والحقيقة أنه منذ الحقبة السوفييتية، وهناك محاولات روسية جادة لم تتوقف لتقسيم المجتمع التتري وإقناع بعض تتار القرم بدعم الاتحاد السوفيتي أو روسيا لاحقًا، ونقل عن "مصطفى دزيميليف": "إنه في عام 1991م قدَّمت حكومة بوريس يلتسن عرضًا لتتار القرم لدعم السيطرة الروسية في شبه الجزيرة مقابل السماح بقدر من الاستقلالية لتتار القرم في حكمهم الذاتي"، وتكرَّر العرض مؤخرًا لإغرائهم بعدم معارضة السيطرة الروسية على القرم.

ولكن -بحسب ما تعتقد "شيفيل"- فإن مسلمي القرم يقولون إنهم لا يثقون بروسيا ويريدون البقاء داخل أوكرانيا، بل ويعتقد أن تتار القرم سيُنظِّمون صفوفهم للدفاع عن أنفسهم في حال فشلت الجهود الدبلوماسية، وسينتظمون تحت القيادة الأوكرانية ويقاتلون المعتدين الروس إذا اقتضى الأمر، رغم أنهم معروفون بتاريخهم الطويل من المقاومة اللا عنيفة. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

جمال عرفة | 6/5/1435 هـ

 

 

  • 2
  • 0
  • 6,470

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً