ينابيع الرجاء - النبع الثالث عشر: {يدبِّر الأمر}
الحادثات صادرة عن تقديره، وحاصلة بتدبيره، فلا شريك له يعضِّده، ولا يشرِك في تدبير خلقه أحدا، وما قضى به فلا أحد يقدر على ردِّه، ولكنه مع هذا ليس أي قضاء، بل فيه غاية الحكمة التي تليق بربنا الحكيم، وهو ترتيبٌ للوجود يجعل كل شيء موضوعا في مكانه بحكمة بالغة.
والتدبر هو النظر في عاقبة الأمر، وأما التدبير فهو النظر في أدبار الأمور لتجيء محمودة العواقب.
- قال القرطبي: {يُدبِّرُ الأَمْرَ}
- قال مجاهد: يقضيه ويقدره وحده.
- قال ابن عباس: لا يُشرِكه في تدبير خلقه أحد.
- وقيل: يبعث بالأمر.
- وقيل: ينزل به.
- وقيل: يأمر به ويمضيه.
والمعنى متقارب، فجبريل للوحي، وميكائيل للقطر، وإسرافيل للصور، وعزرائيل للقبض، وحقيقته تنزيل الأمور في مراتبها على أحكام عواقبها، واشتقاقه من الدبر، والأمر اسم لجنس الأمور[1].
وحتى المشركون علموا هذا فقال ربنا عنهم حين ساءلهم: {ومن يُدَبِّرُ الأمر فسيقولون الله}
فالحادثات صادرة عن تقديره، وحاصلة بتدبيره، فلا شريك له يعضِّده، ولا يشرِك في تدبير خلقه أحدا، وما قضى به فلا أحد يقدر على ردِّه، ولكنه مع هذا ليس أي قضاء، بل فيه غاية الحكمة التي تليق بربنا الحكيم، وهو ترتيبٌ للوجود يجعل كل شيء موضوعا في مكانه بحكمة بالغة.
قال الزمخشري: يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة، ويفعل ما يفعل المتحرّي للصواب، الناظر في أدبار الأمور وعواقبها، لئلا يلقاه ما يكره آخرا، والأمر أمر الخلق كله، وأمر ملكوت السموات والأرض والعرش[2].
قال سهل التستري: يقضي القضاء وحده، فيختار للعبد ما هو خير له، فخيرة الله خير له من خيرته لنفسه[3].
سبحانه لا يعزُب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا يشغله شأن عن شأن، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرَّم من إلحاح الملحين ولا كثرة السائلين، ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير، ولا الجليل عن الحقير، وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها، ولو كانت نملة سوداء على صخرة صماء في ليلة ظلماء.
وقد جمع سبحانه بين الخلق والأمر، فالخلق أصعب من الأمر، ولما كان هو الخالق وحده، فما أيسر تدبيره لأمر من خلقهم، فيُغني ويُفقِر، ويرفع أقواما ويضع آخرين، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويخفض ويرفع، ويُقيل العثرات، ويُفرِّج الكربات، ويُنفِذ الأقدار في أوقاتها التي سبق بها علمه، وجرى بها قلمه.
من قبل ومن بعد!
والله عز جل بيده الأمر منذ الأزل إلى الأبد، لذا قال سبحانه: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}.
والآية في سورة الروم أي أن الله قدَّر الغَلَبة أولا للفرس على الروم، ثم الثاني وهو غلبة الروم على الفرس قبل أن يحدث على أرض الواقع، أي من قبل غلبة الروم، فالأمر كله متعلِّقٌ بالروم، أي من قبل غلبهم ومن بعد غلبهم. قال البيضاوي: من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين، ومن بعد كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين، أي له الأمر حين غلبوا وحين يُغلبون ليس شيء منهما إلا بقضائه[4].
ويذهب القشيري إلى التعميم وليس فقط خاصا بالصراع بين الفرس والروم، فمعنى الآية من قبل كلِّ أمرٍ ومن بعده: {قَبْلُ} إذا أُطلِق انتظم الأزل، و{بَعْدُ} إذا أطلق دلّ على الأبد فالمعنى الأمر الأزليّ لله، والأمر الأبديّ لله لأنّ الرّبّ الأزليّ والسّيّد الأبديّ الله[5].
والهدف من إعلان توحيد الله بتدبير الأمر أن تُنزِل الأخذ بالأسباب قدره الصحيح الذي لا يتقدَّم عنه ولا يتأخر.
قال السعدي: فليس الغلبة والنصر لمجرد وجود الأسباب، وإنما هي لا بد أن يقترن بها القضاء والقدر[6].
وفيه تأديبٌ عظيم للأمة لكي ينسبوا الفضل لأهله، ولا يعلِّلوا الحوادث بغير أسبابها، ولا ينتحلوا لها عللا توافق أهواءهم كما كان يفعل الدجالون من الكُهَّان والسحرة، فقد تطاول المشركون على المسلمين بعد أن أبهجهم غلبة الفرس على الروم لأنهم عبدة أصنام مثلهم، وادَّعوا أن هذه الغلبة جاءت من نصر الأصنام لعُبّادها، فأبطل الله هذا الظن لدى المشركين، ونزلت الآية عامة ليستفيد منها المؤمنون في كل زمان ومكان.
وتقديم المجرور في قوله {لله الأمر} ليغرس الله في قلب كل مؤمن أن التصرف لله وحده في الحالين، وأن الأمر لا يتعدى أبدا إلى غيره، فقد أثبت الله لهم ذلك بمثال واقعي لمسوه بأيديهم، حين أعلن الله نتيجة المعركة بين الروم والفرس قبل أن تحدث بسنوات طويلة، وحدَّد المنتصر في هذه المعركة.
- دعاء القوة!
ولتدرِك مكامن القوة اليوم، ولمن تكون، وذلك بتدُّبرك لكل كلمة من كلمات هذا الدعاء النبوي الشافي لما في الصدور .. الغارس لبذور اليقين وأسباب السرور: « »[7].
ما أعظم كلمات النبي صلى الله عليه وسلم! وهي تبث الروح في نفوس العباد فتحييها، وتبدِّد اليأس في قلوب اليائسين وترويها، وتأخذ بيد العبد ليتجاوز بإيمانه حدود الزمان والمكان، وهو يستشعر أن الدنيا كلها في قبضة الله وحده، وأنَّ حقير الأمور وعظيمها لا يعزُب عن علمه سبحانه، ولا يفلت من سلطانه، فيقوى إيمانه، وترجح كفته، ويتخلَّص من أحزان ألقاها إلى قلبه الشيطان وتطاول الطغيان، وينتصر بإذن الله.
[1] الجامع لأحكام القرآن 8/308
[2] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للزمخشري 2/328
[3] تفسير التستري 1/76
[4] البيضاوي 4/201
[5] لطائف الإشارات 3/108
[6] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1/636- عبد الرحمن السعدي - مؤسسة الرسالة.
[7] تفسير التستري 1/76
- التصنيف: