ينابيع الرجاء - النبع الرابع والعشرون: {إنا لله وإنا إليه راجعون}
منذ 2014-03-30
قال السعدي: "أي: مملوكون لله، مدبرون تحت أمره وتصريفه، فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء منها، فقد تصرف أرحم الراحمين، بمماليكه وأموالهم، فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد، علمه، بأن وقوع البلية من المالك الحكيم، الذي أرحم بعبده من نفسه، فيوجب له ذلك الرضا عن الله، والشكر له على تدبيره، لما هو خير لعبده، وإن لم يشعر بذلك".
قال سبحانه وتعالى: {وبشر الصابرين الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}
- قال شمس الدين المنبجي: "وقد جعل الله كلمات الإسترجاع ـ وهي قول المصاب: {إنا لله وإنا إليه راجعون} ملجأً وملاذاً لذوي المصائب، وعظمةً للممتحنين من الشيطان، لئلا يتسلط على المصاب فيوسوس له بالأفكار الرديئة، فيهيِّج ما سكن، ويُظهِر ما كمن"[1].
ولذا كانت الاسترجاع عطية ومنحة اختص الله بها هذه الأمة كما قال سعيد بن جُبَيْر: "لم يُعْطَ لأَحَدٍ من الأُمَمِ الاستِرجاعُ غير هذه الأُمَّة .. أما سمعت قول يعقوب: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84][2].
وأما الثواب السريع للاسترجاع ففيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ »[3].
وحدث هذا الإخلاف بخير بالفعل مع راوي هذا الحديث وهي أم سلمة، فقالت: "فلما مات أبو سلمة قلتها فجعلت كلما بَلَغْتُ: (أبدلني خيرا منها) قلتُ في نفسي: ومن خير من أبي سلمة؟!
فلما انقضت عدتها بعث إليها أبو بكر يخطبها فلم تُزوِّجه، ثم بعث إليها عمر يخطُبُها فلم تُزوِّجه، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب يخطبها عليه قالت: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني امرأة غَيْرى (من الغيرة)، وأني امرأة مُصبِيَة (لي صبية)، وليس أحد من أوليائي شاهدا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال: « »، فقالت لابنها: يا عمر! قم فَزوِّج رسول الله صلى الله عليه وسلم فزَوَّجَه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيها ليدخل بها، فإذا رأته أخذت ابنتها زينب، فجعلتها في حجرها، فينقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم بذلك عمار بن ياسر ـ وكان أخاها من الرضاعة ـ فجاء إليها فقال: أين هذه المقبوحة التي قد آذيتِ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها، فذهب بها فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليها، فجعل يضرب ببصره في جوانب البيت وقال: « »
قالت: جاء عمار فأخذها، فذهب بها فبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: « » وقال: « »[4].
- افهم معناها!
فلنفهم بقلوبنا مغزى هذا الشعار، وقيمة هذه الكلمات التي تمثِّل خير دواء لأي مصيبة: (إنا لله): إننا بهذا القول ننسب ملكيتنا إلى الله، ونقبل منه كل ما يُجري علينا من أقدار، وعلى كل مؤمن أن يعرف حقيقة نفسه وملكيتها، فيقول: أنا مملوك لله وليس لي عنده حق، فما يُجريه علي إنما يُجريه في مُلْكِه هو، وخالق الخلق هو مالكهم وأولى بهم من أنفسهم، وهنا لابد أن نسائل أنفسنا: هل رأيتم أحدا أفسد ملكه؟
هل سمعتم عن غني بدَّد ثروته بالتضييع والأذى؟!
كلا.
إنَّ صاحبَ المُلْكِ يبذل كل ما في وُسعه لإصلاح مُلكِه، وإن رأى الناس في ظاهر الأمر غير ذلك، فما بالنا بالله سبحانه وتعالى ونحن مِلْكٌ له! وهو سبحانه لا يُعرِّض مُلكَه أبدا للضرر، وإنما يُقيمه بما يصلحه وفقا لحكمته وحُسْن تدبيره.
- قال السعدي: "أي: مملوكون لله، مدبرون تحت أمره وتصريفه، فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء منها، فقد تصرف أرحم الراحمين، بمماليكه وأموالهم، فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد، علمه، بأن وقوع البلية من المالك الحكيم، الذي أرحم بعبده من نفسه، فيوجب له ذلك الرضا عن الله، والشكر له على تدبيره، لما هو خير لعبده، وإن لم يشعر بذلك"[5].
وأما قوله: {وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أي راجعون إليه، وهو إقرار بحتمية الرحيل إلى الله، والبعث للوقوف بين يديه، فإن ظُلِمنا في الدنيا، فسوف نأخذ ثواب ما ظُلمنا فيه ونقتص من ظالمنا عند الرجوع إلى الله، فنحن لله ابتداء بالملكية، ونحن لله انتهاء بالرجوع إليه؛ فهو سبحانه ملك الابتداء والانتهاء، ليثيب المحسن ويعاقب المسيء، ولا ظلم عند الله سبحانه، فلا يظلم مثقال ذرة.
فما هي مكافأة الاسترجاع كما ورد في القرآن؟!
{أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}
فلننظر إلى غاية الغايات التي يدرِّبنا الله عليها لنحمل الدعوة، ونحمي منهج الحق ونهدم دولة المبطلين، وهي –على عظمتها- غاية مرحلية؛ لكنها ليست الغاية النهائية، فالغاية النهائية أننا نفعل ذلك لننال رحمات الله وبركاته في الآخرة، فالغاية النهائية في كل إيمان وفي كل عمل هي ابتغاء مرضاة الله ورحمته.
- قال سيد قطب: "إنه لا يعدهم هنا نصرا، ولا يعدهم هنا تمكينا، ولا يعِدهم هنا مغانم، ولا يعدهم هنا شيئا إلا صلوات الله ورحمته وشهادته، لقد كان الله يعِدُّ هذه الجماعة لأكبر من ذواتها وأكبر من حياتها، فكان من ثَمَّ يجرِّدها من كل غاية، ومن كل هدف، ومن كل رغبة من الرغبات البشرية، حتى الرغبة في انتصار العقيدة، كان يجرِّدها من كل شائبة تشوب التجرد المطلق له ولطاعته ولدعوته، كان عليهم أن يمضوا في طريقهم لا يتطلعون إلى شيء إلا رضا الله وصلواته ورحمته وشهادته لهم بأنهم مهتدون.. هذا هو الهدف وهذه هي الغاية.
وهذه هي الثمرة الحلوة التي تهفو إليها قلوبهم وحدها..فأما ما يكتبه الله بعد ذلك من النصر والتمكين فليس لهم، إنما هو لدعوة الله التي يحملونها.
إن لهم في صلوات الله ورحمته وشهادته جزاء، جزاء على التضحية بالأموال والأنفس والثمرات، وجزاء على الخوف والجوع والشدة وجزاء على القتل والشهادة، إن الكفة ترجح بهذا العطاء، فهو أثقل في الميزان من كل عطاء..أرجح من النصر وأرجح من التمكين وأرجح من شفاء غيظ الصدور.
هذه هي التربية التي أخذ الله بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب، وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين[6].
وكأن انتصار العقيدة وسيلة للفوز بالصلوات والرحمة من ربك، فكل شيء ما عدا ذلك وسيلة تسلِّم إلى غاية، وغاية المؤمن أن يكون من الذين يشملهم قول الله: {أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمُ المهتدون} [البقرة: 157].
وحقيقة الصلاة في كلام العرب أنها أقوال تنبئ عن محبة الخير، ولذلك كان أشهر معانيها الدعاء، فكانت الصلاة إذا أسندت إلى الله أو أضيفت إليه دالة على الرحمة وإيصال ما به النفع من رحمة أو مغفرة أو تزكية، فلله صلاة، وللملائكة صلاة، وللناس صلاة، فهي من الله رحمة, ومن الملائكة استغفار، ومن الناس دعاء, وذكَرها في الآية بلفظ الجمع {صلوات} لأن بعضها يتلو بعضا، ثم قال: {وَرَحْمَةٌ}، مع أن صلاة الله رحمة، لكنه أعادها هنا مع اختلاف اللفظ لتكون أوكد وأبلغ، وفي قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} وجهان محتملان: أحدهما: المهتدون إلى تسهيل المصائب وتخفيف الحزن. والثاني: المهتدون إلى استحقاق الثواب وإجزال الأجر.
- ليست كلاما فحسب!
وليس الصبر باسترجاع اللسان فحسب، بل وبالقلب بأن يتصور ما خُلِقَ لأجله، وأنه راجع إلى ربه، ويتذكَّر نعم الله عليه ليرى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه فيهون على نفسه، ويستسلم له. قال الطاهر بن عاشور: "فالمراد من القول هنا القول المطابق لاعتقاد القلب، وإنما يكون ذلك القول معتبرا إذا كان تعبيرا عما في الضمير، فليس لمن قال هاته الكلمات بدون اعتقاد لها فضل، وإنما هو كالذي ينعق بما لا يسمع، وقد علَّمهم الله هذه الكلمة الجامعة لتكون شعارهم عند المصيبة، لأن الاعتقاد يُقوي بالتصريح لأن استحضار النفس للمدركات المعنوية ضعيف يحتاج إلى التقوية بشيء من الحِسِّ، ولأنَّ في تصريحهم بذلك إعلانا لهذا الاعتقاد وتعليما له للناس"[7].
ولذا اعتبرها ذو النون من علامات هداية القلب، فكل من أُلهِم الاسترجاع فقد اهتدى: "ثلاثَةٌ من أعلام الهدى: الاسترجاعُ عند المصيبة، والاستكانة عند النِّعمَة، ونفي الامتنان عند العطيَّة"[8].
ولهذا قال الله في وصفهم: {وأولئك هم المهتدون} وهو بيان لفضيلة صفتهم، فلم تُزعِجهم المصائب، ولم تكن لهم حاجبا عن بلوغ مقام الصبر، لعلمهم أن الحياة لا تخلو من الأكدار، وأما الذين لم يهتدوا فالمصائب سبب اعتراضهم على الله أو كفرهم به، أو التفوه بما لا يليق، أو شكِّهم في ربِّهم، ويقولون لو كان هذا هو الدين المرضي لله لما لحقنا العذاب والمصائب.
[1] تسلية أهل المصائب 1/11-شمس الدين المنبجي - دار الكتب العلمية.
[2] شعب الإيمان 12/178
[3] صحيح: رواه مسلم وابن ماجة عن أم سلمة وأحمد عن أم سلمة عن أبي سلمة كما صحيح الجامع رقم: 5764
[4] صحيح: رواه كما في السلسلة الصحيحة رقم: 293. وفي رواية: « ».
[5] تفسير السعدي 1/75
[6] في ظلال القرآن 1/146
[7] تفسير التحرير والتنوير 2/57
[8] شعب الايمان 12/34
- التصنيف: