ينابيع الرجاء - النبع الخامس والعشرون: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}

منذ 2014-03-31

أخي .. هَبْ أن أسبابك انقطعت، ولم يبق لديك منها شيء، وبذلت قصارى جهدك في تحصيل مطلوبك، ثم لم تبلغ مرادك.. فهل تعلم أن لك ربا قديرا يخرق الأسباب، ويجبر كسر المؤمنين، ويسد خلل المتوكلين، فكيف يتسرَّب بعدها اليأس إلى قلبك؟!


في تفسير هذه الآية قال ابن عطية: "اليأْس من رحمة الله وتفريجه من صفة الكافرين.. إذ فيه إمَّا التكذيب بالربوبية، وإمَّا الجهل بصفات الله تعالى"[1].
وهذا بخلاف صفة المؤمن الذي يشكر الله عند النعمة، ويرجوه عند الشدة.
وللرازي تعليق لطيف على هذه الآية التي نطق بها يعقوب عليه السلام، وهو الذي فقد ابنه يوسف أربعين سنة، ومع هذا لم يخالج قلبه يأس ولا قنوط، فأرسلها في أبنائه رسالة خالدة أن لا يأس مع الإيمان، وإنما اليأس سمة الكافرين.

قال الرازي وهو يبيِّن علاقة الكفر باليأس في لمحة رائعة لم يسبقه إليها غيره: "واعلم أن اليأس من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا إذا .. اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال، أو غير عالم بجميع المعلومات، أو ليس بكريم، بل هو بخيل، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر، فإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة، وكل واحد منها كفر، ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافرا"[2].
فالمؤمن له صلابةٌ إيمانية تصد عنه أحداث الحياة؛ فالحياة كلها أكدار، وثباتها على حال محال، والدهر أيام، يوم لك، ويوم عليك، واليأس والقنوط سبب من أسباب فساد قلب العبد.

قال ابن القيم وهو يعدد الكبائر: "فالكبائر: كالرياء، والعجب، والكبر، والفخر، والخيلاء، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والفرح والسرور بأذى المسلمين، والشماتة بمصيبتهم، ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم، وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، وتمني زوال ذلك عنهم، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريما من الزنا، وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها، والتوبة منها، وإلا فهو قلب فاسد، وإذا فسد القلب فسد البدن"[3].

أخي .. هَبْ أن أسبابك انقطعت، ولم يبق لديك منها شيء، وبذلت قصارى جهدك في تحصيل مطلوبك، ثم لم تبلغ مرادك.. فهل تعلم أن لك ربا قديرا يخرق الأسباب، ويجبر كسر المؤمنين، ويسد خلل المتوكلين، فكيف يتسرَّب بعدها اليأس إلى قلبك؟!
 

وكيف تذهب نفسك على جهدك حسرات؟!
ومنبع اليأس من رحمة الله أن العبد يجعل قوة الله العليا مساوية لقوة الخلق، فإذا ضاقت به الدنيا وتكاثرت عليه الخطوب أصابه اليأس، لأنه قلبه لم يؤمن حق الإيمان بالقدرة الإلهية، وغفل عن قوة الله وبطشه وسلطانه، فوقع فريسة لهذه الأوهام، ولذا جاء في الأثر: "لا كَرْبَ وأنت رَبُّ".

وما عزَّ عليك بقانون الأرض، فاطلبه بقانون السماء، وما دام المؤمن قد أخذ بالأسباب وتوكَّل على الله؛ فليثق أن الله يمِدُّه بما هو فوق الأسباب.
{إنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} [يوسف: 87].
إنه خبر الوحي على لسان النبي المعصوم؛ فإياكم أن تحتار عقولكم فيه؛ وترتاب قلوبكم حوله، فالعقول لها سقف معلوم لا تتجاوزه، وقد لا تعقل ما وراءه، وأما صنائع الله ففوق مُدْركات العقول، فإياكم أن تستغربوها بعقولكم فتجزعوا، وأن  تُكذِّبوها بقلوبكم فتيأسوا.
 

  • من آثار اليأس!
  1. ​ترك العمل وانقطاع السير وتوقف السعي والاستسلام للفشل، ورفع الراية البيضاء، وفتح بوابة الفشل والخذلان إذ لا فائدة من المواصلة بزعمه.
    قال ابن حجر الهيتمي: "القانط آيِسٌ من نفع الأعمال، ومن لازم ذلك تركها"[4].
     
  2. تُخرج القلب عن سكينته وأنسه إلى انزعاج وقلق وهمٍّ يفتِّت الأكباد ويورث السُّهاد، ويقلب الشاب كهلا كبيرا.
     
  3. ومن آثار اليأس أنه يعدي! فانتشاره في من حولك انتشار النار في الهشيم, وخاصة لو كنت قائدا أو رمزا يركن الناس إليه عند الملمات، ولذا فطن فقهاؤنا إلى ضرورة انتقاء القادة الأفذاذ لجنود الجيش، ممن لا يعرف اليأس إلى قلوبهم سبيلا، وأوردوا ذلك في كتب الفقه ودوَّنوه، وأوصوا به حرصا على سلامة الجيش وطلبا لانتصاره. قال ابن قدامة في وصاياه لأمير الحرب: "ولا يَسْتَصْحِبُ الأمير معه مُخذِّلًا، وهو الَّذي يُثَبِّطُ النَّاس عن الغزو، ويُزهِّدُهُم في الخروج إليه والقتال والجهاد، مثل أن يقول: الحرُّ أو البرد شديدٌ، والمشقَّةُ شديدةٌ، وولا تُؤمَن هزيمة هذا الجيش، وأشباه هذا، ولا مُرْجِفا، وهو الَّذي يقول: هَلَكَتْ راية المسلمين، ومالَهم مددٌ، ولا طاقة لهم بالكُفَّار، والكُفَّار لهم قُوَّةٌ، ومددٌ، وصبْرٌ، ولا يثبتُ لهم أحدٌ، ونحو هذا"[5].
     
  4. ومن آثار اليأس أنه يوقع العبد في براثن ظن السوء بربه، (فمن ظنَّ بأنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيِّده ويؤيِّد حزبه، ويُعليهم ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا، فقد ظن بالله ظن السوء.
    وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم عن ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته، فمن قنط من رحمته وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء)[6].

    [1] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 3/274
    [2] تفسير الرازي: 18/ 199
    [3] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين 1/133
    [4] الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/122
    [5] المغني 9-201 - أبو محمد ابن قدامة المقدسي- مكتبة القاهرة.
    [6] زاد المعاد 3-205، 206
     

خالد أبو شادي

طبيبٌ صيدليّ ، و صاحبُ صوتٍ شجيٍّ نديّ. و هو صاحب كُتيّباتٍ دعويّةٍ مُتميّزة

  • 15
  • 1
  • 100,316
المقال السابق
النبع الرابع والعشرون: {إنا لله وإنا إليه راجعون}
المقال التالي
النبع السادس والعشرون: {فإن مع العسر يسرا}

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً