ينابيع الرجاء - النبع السادس والعشرون: {فإن مع العسر يسرا}
مع الضيق فرج، ومع الشدة سعة، والبلايا إذا توالت تولَّت، وفي رحم كلِّ ضائقة أجنة انفراجها ومفاتيح حلها، فصنع الله عجيب، وفرجه قريب، ولأن تكون في شدةٍ تتوقع بعدها رخاءً؛ أحب من أن تكون في رخاءٍ تقع بعده شدَّة، وأقدار الله غالبة.
وهي سنة عرضت لها كثيرٌ من آيات القرآن، فقد أخبرنا الله في كتابه: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28].
وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ}، فالغيث بعد القنوط، والنصر بعد الاسيئئاس. قال عليّ رضي الله عنه: "عسر المرء مقدّمة اليسر"[1].
- {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً .. إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}
قال الزمخشري: "أراد أن الله يصيبهم بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب، فقرَّب اليسر المترقِّب حتى جعله كالمقارن للعُسْر، زيادةً في التسلية وتقوية القلوب"[2].
فبشَّر الله عباده بأن كل عسر لابد وأن يتبعه يُسر، وأكَّد ذلك بإن المؤكدة للخبر، وزاد التأكيد قوة بالتكرير، ثم وسَّع دائرة الفضل ونشر الطمأنينة بما يوحي به تنكير اليُسر وتعريف العُسر، وإن العرب إذا أعادت الاسم بأداة التعريف -وهي الألف واللام- كان المذكور ثانيا هو المذكور أولا، ولهذا قيل: (لن يغلب عسر يسرين).
- قال إسحاق بن بهلول القاضي:
فلا تيأس إذا أعسرت يوما *** فقد أيسَرتَ في دهرٍ طويل
ولا تظننَّ بِرَبِّك ظنَّ سوء *** فإنَّ الله أولى بالجميل
فإن العُسْر يتبعه يَسار *** وقول الله أصدقُ كل قيل
مع الضيق فرج، ومع الشدة سعة، والبلايا إذا توالت تولَّت، وفي رحم كلِّ ضائقة أجنة انفراجها ومفاتيح حلها، فصنع الله عجيب، وفرجه قريب، ولأن تكون في شدةٍ تتوقع بعدها رخاءً؛ أحب من أن تكون في رخاءٍ تقع بعده شدَّة، وأقدار الله غالبة. قال عبد العزيز بن سليمان الأبرش:
تجري المقادير إن عُسرا وإن يُسرا *** حاذرت واقعها أو لم تكن حَذِرا
والعُسر عن قَدَرٍ يجري إلى يُسْر *** والصَّبر أفضل شيء وافق الظفرا
وكلمة (مع) هنا مستعملة في غير حقيقة معناها لأن العسر واليسر نقيضان فاجتماعهما مستحيل، فالمعية هنا مستعارة للتأكيد على قرب حصول اليسر عقب حلول العسر أو ظهور بوادره.
ضاقت ولو لم تضق لما انفرجت *** فالعُسر مفتاح كل ميسور!
- ضحك ربنا!
إن العباد إذا نزلت بهم شدة فإن كثيرا منهم يقنطون، وقد جعل الله سبحانه وتعالى لكل أجل كتابا، ولكل هَمٍّ نهاية، ولكل كرب فرجا، ولكن القوم يستعجلون، والله سبحانه وتعالى يعجب من قنوطهم، ويضحك من قرب فرجه، ففي الحديث: « »، فقال أبو رزين: أو يضحك الرب عز وجل؟ قال: « ». فقال: لن نَعْدَمَ من ربٍّ يَضحك خيرا[3].
والغِيَر بمعنى تغير الحال، فمن الضعف إلى القوة، ومن المرض إلى العافية، ومن الذل إلى العز، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الفقر إلى الثراء، والضمير في (غِيَرِه) لله، والمعنى أن الله تعالى يضحك من أن العبد يصير آيسا من الخير إذا نزل به أدنى شر يصيبه، مع قرب تغير الحال من شر إلى خير، ومن بلاء ومحنة إلى سرور وفرحة، فجعل الضحك من الرب سبحانه دليلا على حصول الخير.
وقوله: (لن نَعْدمَ) أي لن نفقد الخير من رب يضحك. قال السندي: "يريد أن الرب الذي من صفاته الضَّحِك لا نفقد خيره، بل كلما احتجنا إلى خير وجدناه، فإنا إذا أظهرنا الفاقة لديه يضحك فيُعطي"[4].
إذا تضايق أمر فانتظر فرجا *** فأضيق الأمر أدناه إلى الفرج
وبهذا نطق اللسان النبوي مكرِّرا نفس المعنى وبنفس الكلمات للتأكيد وطمأنة القلوب المضطربة وتثبيت المتزلزلين: « »[5].
وسرت كلمات الوحي في دماء الصحابة، وامتزجت أنواره بدمائهم، ففاضت بها ألسنتهم، فلما حُصِر أبو عبيدة فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه نص القانون الذي تعلموه في مدرسة الوحي كتابا وسُنة: «مهما ينْزل بإمرئٍ شدَّةٌ يجعل الله بعدها فرجا، وإنَّه لن يَغلِبَ عسرٌ يُسرين »[6].
والتجارب تشهد لمفعول هذه الآية، وشرط ذلك أن يردِّدها العبد بيقين، ويصدح بها قلبه قبل لسانه، فتنطلق منه سماوية مشحونة بأقوى مشاعر الظن الحسن ومعاني الرجاء في رحمة الله، فتستخلص اليسر من بين أنياب العُسر، وتستعجل الفرج، وهكذا فعل عبد القادر الجيلاني فقال رحمه الله: "ترِدُ عليَّ الأثقال الكثيرة، ولو وُضِعت عَلَى الجبال تفسَّخَتْ، فأضع جنْبي على الأرض، وأقرأ {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}، ثمّ أرفع رأسي وقد انفرجت عنّي"[7].
- أنشد عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ:
تَسَلَّ عَنْ الْهُمُومِ فَلَيْسَ شَيْءٌ *** يَقُومُ وَلَا هُمُومُكَ بِالْمُقِيمَهْ
لَعَلَّ اللَّهَ يَنْظُرُ بَعْدَ هَذَا *** إلَيْك بِنَظْرَةٍ مِنْهُ رَحِيمَهْ
عسى الله الذي أخرج الورق من الشجر اليابس أن ينقلنا عن الأحوال المبغوضة إلى أحوال رضية ويبدلنا بهم الدنيا الدنية همما علية فطالما أغاث المجدبين عندما قحطوا وأنزل الغيث من بعد ما قنطوا[8].
[1] روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار 1/330
[2] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل4/771
[3] أخرجه الطيالسي في مسنده عن أبي رزين كما في السلسلة الصحيحة رقم: 2810
[4] حاشية السندي على سنن ابن ماجه 1/87. قال ابن تيمية في الفتاوى بتصرف: فالضحك في موضعه المناسب له صفة مدح وكمال، وإذا قُدِّرَ حيَّان أحدهما يضحك مما يُضحَك منه؛ والآخر لا يضحك قط كان الأول أكمل من الثاني، فجعل الأعرابي العاقل - بصحة فطرته - ضحكه دليلا على إحسانه وإنعامه؛ فدل على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود وأنه من صفات الكمال والشخص العبوس الذي لا يضحك قط هو مذموم بذلك. مجموع الفتاوى 6/121
[5] أخرجه الخطيب في التاريخ والديلمي كما في السلسلة الصحيحة رقم: 2382
[6] الوسيط في تفسير القرآن المجيد للواحدي 4/518 - دار الكتب العلمية.
[7] تاريخ الإسلام / 96
[8] التذكرة في الوعظ 1/43 - أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي- دار المعرفة - بيروت.
- التصنيف: