ونقتل الهامشية

منذ 2014-04-01

دعوة لأن نرخي أيدينا فلا نتعلق بشدة بشيء من هذه الدنيا الفانية، فإنَّ حبلها يوشك أن ينقطع، ودعوة لأن ننظر إلى ما بأيدينا منها على أنَّه كثير لو تأملنا في سؤالنا عنه يوم القيامة، وإلى ما نتطلع إليه ممَّا حُرمناه منها على أنَّه قليل لو تذكرنا أنَّنا سنغادر ونتركه.

تدور عجلة الزمان بين صباح ومساء، ننتقل بينهما من الإشراق والمعاش إلى الظلمة والسكون، نطوي بين هذه اللحظات سجلات من الأعمال وصحائف من الدهر، نرفع إلى السماء لننتظر يوم الحشر والنشور؛ لتبعثر القبور وينكشف المستور، ويندم حينها المرء، ولات ساعة مندم!

وهكذا تمرُّ الأيام والسنون، دون أن ندرك أننا نعيش مرة واحدة فقط، وأنَّ هذه المرة ستكفينا لو أحسنا التصرف، يمرُّ العام بعد العام ونظلُّ نشعر أننا نراوح المكان نفسه، لم نتقدَّم خطوة واحدة إلى الأمام، ولم نتخفف من الركض واللهاث وراء الدنيا الفانية، ولو بسط لنا الزمان راحتيه، ودعانا إلى جلسة هادئة للبوح الصادق؛ لما وجد منَّا غير ركود المشاعر، وتبلد الإحساس، والأثرة وحبّ الذات، إلا ما رحم ربي.

يحدث أن نحاسب أنفسنا في بعض الأحيان، أو نتحدَّث عن ذلك كثيراً عند اختتام الأعوام، لكن أن يكون ذلك في كل يوم، بل في كل كلمة وهمسة، فلذلك -وربي- مقام عزيز، إنَّها دعوة للبوح الصادق مع النفس، لننبذ الغفلة التي أحكمت خناقها على النفوس، ونقتل (الهامشية) التي أبعدت الكثير من القادرين عن مواقع العمل والتأثير.

دعوة لأن نرخي أيدينا فلا نتعلق بشدة بشيء من هذه الدنيا الفانية، فإنَّ حبلها يوشك أن ينقطع، ودعوة لأن ننظر إلى ما بأيدينا منها على أنَّه كثير لو تأملنا في سؤالنا عنه يوم القيامة، وإلى ما نتطلع إليه ممَّا حُرمناه منها على أنَّه قليل لو تذكرنا أنَّنا سنغادر ونتركه.

وكم هو جميل ما سطره الرافعي في (وحي قلمه) حين قال: "إنَّ الأشياء الكثيرة لا تكثر في النفس المطمئنة، وبذلك تعيش هادئة مستقرة، كأن ليس في الدنيا إلا أشياؤها الميسرة، أمَّا النفوس المضطربة بأطماعها وشهواتها فهي تبتلى بهموم الكثرة الخيالية، ومثلها في الهمّ مثل طفيلي مغفل؛ يحزن لأنَّه لا يستطيع الأكل في بطنين"!

إنَّها دعوة أخيرة لأن نتحدَّث ونتحدَّث، لكن مع أنفسنا وإليها، نسأل ونجيب، ونشجع ونعاتب، ونصرخ ونستغيث بوضوح لا خداع معه، وصدق لا تزييف فيه، وليس أقبح من أن يكذب الإنسان على نفسه، فلنجعل ذلك كله بين حنايا النفس وخلجات الصدر، علَّنا أن نكتشف أنفسنا بأنفسنا فنصلح ما فسد ونقيم ما اعوج، ونحن نردد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي علَّمه لأحد الصحابة: «اللَّهمَّ قِنِي شرَّ نفسي واعزِمْ لي على أرشَدِ أمري» (صحيح ابن حبان:7009).

فنحن في زمان لا يحتمل صمت الناطقين بالحق، ولا قعود القائمين بالملة، بعد أن سعى بالفتن أقوام كُثر، وأعدَّوا لها ما استطاعوا من قوة، فلنبدأ المواجهة مع أنفسنا لنتأهل لما سواها، فإنَّ ذلك أدعى للتوفيق والتمكين، إنَّ الله لا يغيِّر ما بقوم حتَّى يغيروا ما بأنفسهم.

 

مها الجريس

  • 0
  • 0
  • 956

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً