سلامة القلب (1)

منذ 2014-04-02

القلوب ثلاثة :قلب سليم من الشرك والبدعة والمعصية يتقلب بين الخوف والرجاء،وقلب قيم تعتريه الذنوب،وقلب ميت والعياذ بالله

مستودع الأفراح والأتراح، ومناط القبول والرد، وموطن الشعور والإحساس، ومضخَّة الحياة والدماء للأعضاء، عيِيَ الإنسان أن يشكر ربه على ما أنعم عليه من نعمة القلب، فبه يفكر ويقدر، يذكر ويتذكر، وبه يرتقي وينتقي، وعن طريقه يميز ويختار من ثَمَّ ويتخذ القرار، يتأمل فيما خلق الله من شيء فيوثِّق صلتَه بالله، وينطلق في الحياة نابضًا محبًّا جذابًا متجددًا، وإلا أصبح ميتًا فاقدًا للشعور والإحساس!


عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألاَ وإن في الجسد مضغةً إذا صلَحت صلَح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب...» (صحيح البخاري؛برقم: [52]).


القلوب ثلاثة: سليم، وسقيم، وميت:

والقلب السليم ينجو يوم القيامة، لا بالمال ولا بالأولاد؛ وإنما بالسلامة: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89]؛ أي: الذي قد سلِم من كل شهوة تُخالف أمرَ الله ونهيَه، ومن كل شبهةٍ تعارض خبرَه، فسلِم من عبودية ما سواه، وسلم من الخضوع لغير الله، خلصت عبوديته لله تعالى إرادةً، وإنابةً، وإخباتًا، وخشيةً، وتوكلًا، ورجاءً، ومحبةً، ووفاءً، وخلص عمله لله، فإنْ أحب أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، يُوافِق ما جاء به القرآن والسنة، فيحبُّ رسول الله لا يتقدم بين يدَيْه قِيدَ أنملةٍ من قول ولا عمل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1]؛ أي: لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر.

وجاء في الداء والدواء لابن القيم:

"ولا يتم له سلامته مطلقًا؛ حتى يسلم من خمسة أشياء:  من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص".

القلب السليم إذا تُلِيَت عليه آيات الله، زادتْه إيمانًا، ووجل وخاف، خشع وخضع، كيف؟

هذا سلمان الفارسي فرَّ من المدينة من أجل آية سمِعها من فم الحبيب، لم يستطع أن يلحقه ثلاثة أيام، قال له: «أين كنت يا سلمان؟»، قال له: آية سمِعتُها منك يا حبيب الله، وهي قوله تعالى: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65].

كانوا يشمون رائحة الجنة، فهذا أنس بن النَّضر يمرُّ عليه سعد بن معاذ فيقول له: "يا سعد، والله إني لأشم رائحة الجنة دون أُحُدٍ!"


ومن فضل الله علينا أنه ما جعل للذنوب رائحة، قال الحسن البصري: "احمَدوا ربَّكم الذي لم يجعل من ذنوبكم رائحة، وإلا لما جلس مؤمن بجوار مؤمن".


وذُكِر أن امرأةً صلَّت خلف الحبيب، فلما انتهت الصلاة أُغشي عليها، فأفاقوها ودعوا الرسول، فجاء وقال: « ما لكِ يا أمة الله؟»، فقالت: سمعتك تقول في جهنم: لها سبعة أبواب، فاستشعرت أنه سيدخل كل عضو من أعضائي من باب، فقال: لا يا أمة الله، إنها سبعة منازل تلي بعضها، كل منزلة تشتد في حرِّها عن المنزلة التي فوقها سبعين ضعفًا، ومَن سيوضع فيها؟ قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5]، نُؤخِّر الظهر إلى العصر، والعصر إلى المغرب بدون عذر شرعي، فقالت: يا رسول الله، عندي سبعةٌ من العبيد أعتقتهم لوجه الله، لعل الله يعتقنا منها، فنزل جبريل للتو قائلًا: أقرِئ أمة الله منا السلام، وقل لها: بعتقك لعبيدك السبعة سدَّ الله عنك أبواب النار السبعة، وفتح لك أبواب الجنة الثمانية.

القلب السليم إذا سمع آيات الله تتلى عليه، تجده يرتجف ويخاف، فكان الصحابي إذا مرَّ بآية من آيات الجنة، شمَّ رائحتها، وإذا مر بآية من آيات النار، أحس بلسعها في جسده وقلبه.


صاحب القلب السليم إذا ذكَر الله خاليًا، فاضتْ عيناه، ويستشعر أن الإسلام ابنٌ من أبنائه، فيحيا فارسًا بالنهار راهبًا بالليل، قال ابن مسعود: "لا يكن أحدكم قطرب نهارٍ، جيفةَ ليل"؛ القطرب الذي هو ذكر النحلة، والمعنى: ناشط في النهار لكن في الليل جيفة ينام، والشيطان يعقد على رأسه ثلاث عقد، ويضربه على رأسه: نم عليك ليل طويل، فارقد!

القلب السليم يتقلَّب بين الخوف والرجاء، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا} [السجدة:16]، عنده خوفٌ من الله وطمعٌ في رحمة الله، {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9].

مثل عمر رضي الله عنه، حيث قال: "لو نادى منادٍ يوم القيامة: كلُّ الناس في الجنة إلا واحدًا، لخشيتُ أن أكون أنا هذا الواحد، ولو نادى منادٍ يوم القيامة: كل الناس في النار إلا واحدًا، لرجوتُ من الله أن أكون أنا هذا الواحد".

وذاك الأعرابي لَمَّا قال للرسول عليه الصلاة والسلام: مَن سيحاسبنا يوم القيامة يا رسول الله؟ قال: «الله » قال: إذًا لا أبالي -كيف لا تبالي؟!- قال: إن الذي سوف يحاسبنا هو الكريم، وإن من صفات الكريم أنه إذا حاسب سامح، وإذا قدر عفا.

القلب السقيم قلبٌ تعتريه الذنوب، فيصير سقيمًا، لكن عند الإنابة والعودة، عند التوبة والأوبة، يتحوَّل إلى قلب سليم منيب، يخشى الله بالغيب {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } [ق:33].

قال قتادة: {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} ، يقول: "وجاء اللهَ بقلب تائب من ذنوبه، راجع مما يكرهُه الله إلى ما يرضيه"، وقال أيضًا: "أي منيب إلى ربه مقبل".

لكن الكارثة أن الإنسان الغافل صاحب القلب السقيم يستصغر الذنب، يحسبه طائرًا يهشه، ولا يعتبره جبلًا يهده، لا يستعظم هذا الذنب في حق من عصاه.

قال أهل العلم: "لا تستصغرِ الذنب، ولكن انظُر إلى عِظَم مَن تعصيه!"

وقال أهل العلم: "لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار".

عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:  « تُعرَض الفتنُ على القلوبِ كالحصير عودًا عودًا، فأي قلبٍ أُشرِبَها نُكِت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصيرَ القلوب على قلبين: على أبيضَ مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادًّا كالكوزِ مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، إلا ما أُشرِب من هواه» .(صحيح مسلم؛برقم: [231])

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:  «إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر، سقل منها قلبه، وإن زاد زادت حتى يعلق بها قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]» .(مسند أحمد؛برقم: [7939])


هذا عمر رضي الله عنه عاش بقلبٍ سليمٍ منيب رجَّاع للحق، رُوِي عنه أنه قال يومًا للصحابة: "ما بالكم إذا رأى أمير المؤمنين رجلًا يرتكب الفاحشة مع امرأة فأقام عليه الحد؟!" قالوا: "وجبت طاعة أمير المؤمنين"، وعليٌّ قاعد، فقال: "أمع أمير المؤمنين شهود ثلاثة؟ قال له: لا، قال: إذًا نُقِيم حدَّ القذف على أمير المؤمنين".
نعم، هؤلاء هم الناس!

يقول عمر: "لا تغالوا في المهور، ولا يزيد أحدكم عن أربعمائة درهم"، فقالت له امرأة:"يا بن الخطاب، ما هذا الكلام الذي تقوله؟! ربنا يقول لك: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:20]، فالله يأمرك بقنطار، وأنت تقول: أربعمائة؟!" فطأطأ عمر رأسه، وقال: أصابت امرأةٌ وأخطأ عمر، حاججت أميركم فحاجَّتْه، كم أخطأ عمر في دين الله!

وهذا رجل قال رسول الله: إنه من أهل الجنة؛ لأنه لا يجد في نفسه لأحد من المسلمين غشًّا، ولا يحسد أحدًا على خيرٍ أعطاه الله إياه.

وكان رسول الله يقول: «ما من قلبٍ إلا بين إصبعَيْن من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه»؛ لذلك كان يدعو ربه: «اللهم يا مقلب القلوب، ثبِّت قلوبَنا على دينك، والميزان بيد الرحمن يرفع أقوامًا ويضع آخرين إلى يوم القيامة» (مسند أحمد؛برقم17630).

 

 خميس النقيب

  • 10
  • 1
  • 35,588

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً