ابن تيمية ومعالم طبية

منذ 2014-04-04

عَرَض لابن تيمية بعضُ الألم، فقال له الطبيب: "أضرّ ما عليك الكلام في العلم والفكر فيه، والتوجّه والذكر. فقال ابن تيمية: ألستم تزعمون أن النفس إذا قويتْ وفرحتْ أوجب فرحها لها قوةٌ تُعين بها الطبيعة على دفع المعارض، فإنه عدوها، فإذا قويتْ عليه قهرتُه. فقال له الطبيب: بلى. فقال: إذا اشتغلتْ نفسي بالتوجّه والذكر والكلام في العلم، وظفرتْ بما يشكل عليها منه، فرحتُ به وقويتُ، فأوجب ذلك دفع المعارض"

عَرَض لابن تيمية بعضُ الألم، فقال له الطبيب: "أضرّ ما عليك الكلام في العلم والفكر فيه، والتوجّه والذكر. فقال ابن تيمية: ألستم تزعمون أن النفس إذا قويتْ وفرحتْ أوجب فرحها لها قوةٌ تُعين بها الطبيعة على دفع المعارض، فإنه عدوها، فإذا قويتْ عليه قهرتُه. فقال له الطبيب: بلى. فقال: إذا اشتغلتْ نفسي بالتوجّه والذكر والكلام في العلم، وظفرتْ بما يشكل عليها منه، فرحتُ به وقويتُ، فأوجب ذلك دفع المعارض" (المستدرك على مجموع الفتاوى [3/139])

وشيخ الإسلام ابن تيمية وإن لم يبسِّط الكلام في الطبّ ومسائله حسب اطّلاعي كما فعل تلميذاه: ابن القيم في (الهدي)، وابن مفلح في (الآداب الشرعية)؛ لكنه حرّر مَعالِم مهمة وقواعد منهجية جليلة في ذلك العلم، كما في السطور التالية:

- لا يخفى أن ابن تيمية صاحب اطّلاعٍ واسع على جميع المعارف، واستقراء وتتبّع عجيب لأنواع الفنون، حتى قالوا عنه: "كأنّ العلوم بين عينيه"، وقد قرّر في غير موطن أن مصادر المعارف والعلوم تُنال بثلاثة أمور: "الحسّ والعقل والوحي، فالعلم قد يكون تارةً عن طريق الحسّ وهو الفطرة والبصر والمشاهدة، وهذا يشترك فيه جميع الناس، وقد يكون تارةً عن طريق العقل وهو النظر والقياس، وهذا يختص بأهل العلم والاستدلال، وأشرف وأخصّ من هذا وذاك: الوحي المنزل من عند الله على نبيه صلى الله عليه وسلم وهو السمع والخبر، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى من الآية:52]" (ينظر: التدمرية ص [500]، الجواب الصحيح [2/4]، جامع المسائل [5/193]، الفتاوى [13/75]).

وقد بيّن ابن تيمية أن الطب تجربات وقياسات، فقال: "الطب تجربات وقياسات، وأهله منهم من تغلُب عليه التجربة، ومنهم من يغلُب عليه القياس، والقياس أصله التجربة، والتجربة لا بد فيها من قياس، فلا بد من الحسّيات التي هي الأصل ليعتبر بها، والحسّ إن لم يكن مع صاحبه عقل وإلا فقد يغلط" (الفرقان بين الحق والبطلان، ت: العصلاني، ص [349] باختصار).

يُلحظ ابتداءً أن ابن تيمية لا تأسِره كلمة، ولا يقيده مصطلح، فمثلًا: الحسّ يُسمِّيه في مواطنَ أخرى تجارب وفطرة وبصرًا، كما أن العقل يُسمّيه النظر والتجربة والاعتبار، وهذا يكشف سعة عقل هذا الإمام الفذ ورحابة أفقه.

وقد قال رحمه الله: "إذا اتسعت العقول وتصوراتها اتسعت عباراتها، وإذا ضاقت العقول والتصورات بقي صاحبها كأنه أسير العقل واللسان" (الردّ على المنطقيين ص [166]).

وأما بيان مقالته المتينة عن الطب، فإن الطب عنده مدارس، فمدرسة تغلّب الحسّ والمشاهدة والتجربة، ومدرسة تغلّب النظر والقياس، وكذا العكس، فأحدهما يُكمِل الآخر، فقوله: "القياس أصله التجربة" يعني: أن التجارب والبدهيات والحسّ هي أصل القياس والنظريات والعقل، فالتجربة أصل في علمنا بصحة القياس (ينظر: الدرء [1/87]).

وأشار في موطنٍ آخر إلى أن التجارب: "قد تحصل بالنظر والاعتبار والتدبّر، وقد تحصل بالحسّ والمشاهدة، فهي معقولات محسوسات" (ينظر: الرد على المنطقيين ص [29]، [93]، [98]).

- مع أن الطبّ من العلوم العقلية الحسّية، إلا أن شيخ الإسلام يقرر أن أهل الملل أكمل من غيرهم في هذا العلم وشبهه كالصناعة والتجارة، ثم إن أهل الإسلام هم أكمل وأعلم من أهل الكتاب في الطب ونحوه، ويعلل ذلك قائلًا: "فإن علوم المتفاسفة من علوم المنطق والطبيعة والهيئة (علم الهيئة: علم الفلك)، وعلوم فارس والروم، لما صارت إلى المسلمين هذّبوها ونقّحوها لكمال عقولهم، وحسن ألسنتهم، وكان كلامهم فيها أتمّ وأجمع وأبين، وهذا يعرفه كل عاقل وفاضل" (الفتاوى [210-211 /4]).

ولما تحدّث عن فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان مما قاله: "فأما العلوم فهم أحذق في جميع العلوم من جميع الأمم، حتى العلوم التي ليست بنبوية ولا أخروية، كعلم الطبّ مثلًا، والحساب، ونحو ذلك، هم أحذق فيها من الأمتين -اليهود والنصارى-، ومصنفاتهم فيها أكمل من مصنفات الأمتين، بل هم أحسن علمًا وبيانًا لها من الأوائل"(لعل مراده بالأوائل: أطباء اليونان كبقراط وجالينوس) الذين كانت هي غاية علمهم.

"وقد يكون الحاذق فيها من هو عند المسلمين منبوذ بنفاق وإلحاد" (وكأنه يُشير إلى أمثال ابن سينا صاحب (القانون) وأبي بكر الرازي صاحب (الحاوي) في الطب، ينظر: الفتاوى [4/114])، "ولا قدر له عندهم، لكن يحصل له بما يعلمه من المسلمين من العقل والبيان ما أعانه على الحذق في تلك العلوم، فصار حثالة المسلمين أحسن معرفة وبياناً لهذه العلوم من أولئك المتقدمين" (الجواب الصحيح [105/4-106]).

بل نقل ابن تيمية اعتراف الأطباء الأوائل بأن الطبّ بالأدوية الإلهية كالدعاء والصدقة والرقية، أشرف وأعظم وأنفع من طبّهم، فبقراط يقول: "نسبة طبِّنا إلى طبّ أرباب الهياكل كنسبة طب العجائز إلى طبِّنا" (ينظر: مجموع الفتاوى [24/268]، [19/32]).

- إن روح الاستعلاء بالإيمان عند ابن تيمية راسخة رسوخ الجبال، والثقة التامة بهذا الدين وأهله كالنَفَس لديه، فالأمة المحمدية لها خيرية مطلقة حتى في العلوم الدنيوية كالطب مثلًا، وأن حثالة المسلمين أحسن معرفة بالطب من الأمم السابقة.

- جوّز ابنُ تيمية الرجوعَ إلى الكفار في العلوم الدنيوية، وإباحة الانتفاع بما عندهم من الطب والحساب ونحوهما، فقال: "مسائل الطب والحساب المحضّ غايته انتفاع بآثار الكفار والمنافقين في أمور الدنيا، فهذا جائز، كما يجوز السكنى في ديارهم، ولبس ثيابهم وسلاحهم، وكما تجوز معاملتهم على الأرض"، ثم ساق أدلته على ذلك، ثم قال: "فإن المشركين وأهل الكتاب فيهم المؤتمَن، ولهذا جاز ائتمان أحدهم على المال، وجاز أن يَستطِبّ المسلمُ الكافرَ إذا كان ثقة" (الفتاوى [4/114] باختصار).

وقرّره في موطنٍ آخر فقال: "إذا كان اليهودي والنصراني خبيرًا بالطب ثقة عند الإنسان، جاز له أن يستطبه، كما يجوز له أن يودعه المال" (مختصر الفتاوى المصرية ص [516]، وانظر: بدائع الفوائد لابن القيم [3/208]).

فقيّد رحمه الله جواز الانتفاع بأهل الطب منهم: "بأن يكون عارفًا لا جاهلًا، وأن يكون ثقة لا خائنًا، فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها، فلا مانع من الانتفاع بحكماء الطب ما داموا ثقات، كما أنه قرّر جواز استعمال القوس الفارسية، فليس تشبهًا بالكفار، وأنها أنفع من القوس العربية وأجدى وأنكى في قهر العدو وقتاله، وأبلغ في تحقيق القوة المذكورة في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال من الآية:60]" (ينظر: الفتاوى [17/488]، [19/60]).

- وأما عن نظرة ابن تيمية للتداوي، فمع أنه قرّر وسطية أهل السنة في الأسباب بين الغلاة الفلاسفة، وبين الجفاة الجبرية؛ إلا أنه غلب عليه الردّ والانتقاد لمن بالغ في التداوي وأفرط فيه، فقد حكى أن التداوي بالجملة ليس واجبًا عند جمهور العلماء، بل قال رحمه الله: "لستُ أعلم سالفًا أوجب التداوي، وإنما كان كثير من أهل الفضل والمعرفة يفضّل تركه اختيارًا لما اختاره الله، وهذا المنصوص عن أحمد، وإن كان من أصحابه من يُوجِبه، ومنهم من يستحبّه" (الفتاوى [21/564]).

وقرّر أن التداوي ليس بضرورة كأكل الميتة عند الاضطرار، وغلّظ مقالة أطباء جوّزوا التداوي بالمحرمات؛ "فإن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة المرحومة فيما حُرّم عليها" (ينظر: الفتاوى [266-274/ 24]).

وبيّن أن التداوي ليس سببًا مطّردًا ولا مستيقنًا في حصول الشفاء، كما يتوهمه الكثير من الناس، فقال: "إن الدواء لا يستيقن، بل وفي كثير من الأمراض لا يظن دفعه للمرض، إذ لو اطّرد ذلك لم يمت أحد" (الفتاوى [21/565]).

وقال أيضًا: "إن كثيراً من المرضى، أو أكثر المرضى، يُشفَون بلا تداوٍ، لا سيما في أهل الوبر والقرى والساكنين في نواحي الأرض يشفيهم الله بما خلق فيهم من القوى المطبوعة في أبدانهم الرافعة للمرض، وفيما ييسّره لهم من نوع حركة وعمل، أو دعوة مستجابة، أو رُقيَة نافعة، أو قوة للقلب، وحسن التوكل، إلى غير ذلك من الأسباب الكثيرة غير الدواء"(الفتاوى [21/563]).

وشنّع على من قال: إنه لا يبرأ من هذا المرض إلا بهذا الدواء المعيّن، فقال: "وأما قول الأطباء: إنه لا يبرأ من هذا المرض إلا بهذا الدواء المعيّن، فهذا قول جاهلٍ لا يقوله من يعلم الطب أصلًا، فضلًا عمّن يعرف الله ورسوله، فإن الشفاء ليس في سبب مُعيّن يُوجبه في العادة، كما للشبع سبب معيّن يُوجبه، إذ من الناس من يشفيه الله بلا دواء، ومنهم من يشفيه الله بالأدوية... إلخ" (الفتاوى [24/274]).

وأخيرًا؛ "فإن القلب متى اتصل بربّ العالمين، خالق الداء والدواء، ومدبّر الطبيعة ومصرّفها على ما يشاء؛ كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعانيها القلب البعيد من المعرض عنه" (زاد المعاد [4/12]).

والله الموفق لا ربَّ سواه، وهو الشافي لا شفاءَ غيره.

المصدر: مجلة البيان العدد 310 جمادى الآخرة 1434هـ، إبريل - مايو 2013م.
  • 7
  • 0
  • 15,985

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً