الغَيرة على دين الله [2-2]

منذ 2014-04-05

لا شك أن الغيرة على الدين أظهر ما تكون عند ظهور المنكرات وفشوها وعند ضعف التمسك بالدين والتفريط في تعاليمه، فعندها يكاد قلب المؤمن يذوب كما يذوب الملح في الماء.

لا شك أن الغيرة على الدين أظهر ما تكون عند ظهور المنكرات وفشوها وعند ضعف التمسك بالدين والتفريط في تعاليمه، فعندها يكاد قلب المؤمن يذوب كما يذوب الملح في الماء؛ ولا يخفى أن الحال اليوم ليست كما كانت قبل عشرين أو ثلاثين سنة وأكثر، ولا يخفى أن المنكرات قد زادت وانتشرت، ونحن مأمورون بتغيير المنكر، ولا شك أننا نريد التغيير ونسعى له، ونرجو ألا نكون أقل غيرة على دين الله من بعض المندفعين، لكننا ندعو الجميع إلى كلمة سواء؛ ندعوهم إلى أن نضبط خطواتنا جميعاً بضابط الشرع الذي يعصم المرء من الزلل، لا أن نجعلها تبعاً لأهوائنا وانفعالاتنا، فنحن نريد أن نوظف هذه الغيرة ونفرغها تفريغاً إيجابياً لا سلبياً؛ تفريغاً يبني ولا يهدم، تفريغاً يكون انتصاراً حقيقياً لدين الله عز وجل، لا مجرد أفعال طائشة متسرعة تضر ولا تنفع.

وكي تكون الغيرة على دين الله محمودة فلا بد لها من الانضباط بضوابط الشرع الحنيف، ومن هذه الضوابط على سبيل المثال لا الحصر:

1- الإخلاص، وذلك بأن تكون الغيرة على الدين انتصاراً لله عز وجل لا انتصاراً لحظوظ النفس وهوى القلب، فهناك فاصل دقيق بين أن يغار الإنسان ويغضب عندما تنتهك حرمات الله لما في ذلك من تعد لحدوده جل وعلا، وبين أن يكون هذا الغضب بسبب مخالفة الناس لما يأمرهم هو به وينهاهم عنه فيكون الغضب للنفس لا لله والعياذ بالله.

2- أن يكون هوى النفس تبعاً للشرع لا العكس، ومن أعظم الأمثلة على ذلك ما كان يوم الحديبية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث دخلهم مما وقع يومها من عدم إتيانهم البيت ومن شروط الصلح التي رأوها مجحفة أمر عظيم كادوا يهلكون بسببه، حتى إن عمر رضي الله عنه حار من قبول رسول الله صلى الله عليه وسلم لخطة المشركين في الصلح قال: "فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألستَ نبي الله حقاً؟ قال: «بلى». قلتُ: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: «بلى». قلتُ: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: «إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري». قلتُ: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: «بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟» قال: قلتُ لا. قال: «فإنك آتيه ومطوف به». قال: فأتيتُ أبا بكر فقلتُ: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى. قلتُ: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلتُ: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: أيها الرجل إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق. قلتُ: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلتُ: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً"[1]، أي ليكفر عما بدر منه يومها، ولا نشك أن مما دفعه رضي الله تعالى عنه إلى ذلك الغيرة الصادقة على الدين.

3- العلم بأن الابتلاء سنة ربانية ماضية، وأن الله عز وجل يبتلي العباد ليعلم الصادق من الكاذب، قال تعالى: {الم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1- 3]، قال ابن القيم رحمه الله: "سأل رجلٌ الشافعيَّ فقال: يا أبا عبد الله، أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يُبتَلى؟ فقال الشافعي: لا يُمَكَّن حتى يُبتلى. فإن الله ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكَّنهم فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة وهذا أصل عظيم فينبغي للعاقل أن يعرفه"[2].

4- معرفة سنة الله في التدافع، فإن الله سبحانه وتعالى قادر على منع أعدائه من إتيان أدنى منكر، وقادر على أن ينتصر منهم ويهلكهم أو يعذبهم لكنه سبحانه وتعالى قضى أن يبتلي المؤمنين بمدافعة أعدائه، قال تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد من الآية:4]، وقال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة من الآية:251]، وقال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج من الآية:40].

5- العلم بأن التغيير منوط بالقدرة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»[3]، وهذا أصل عظيم في التغيير.

6- عدم منازعة الأمر أهله، فلا بد أن يعرف المرء ما له وما عليه، وأن يعرف حدود الإنكار التي حدها الله له، فإن من المنكرات ما يكون للمرء أن يغيرها بيده ومنها ما يكون ليس له ذلك وإن كان قادراً بل لولي الأمر والسلطان فيبقى عليه أن ينكر بلسانه إن استطاع أو بقلبه وهو أضعف الإيمان كما سبق.

7- مراعاة المصالح والمفاسد، فإن تغيير المنكر لا ينبغي أن يأتي بمنكر أكبر منه، فلا بد من الحرص على تكثير الخير وتقليل الشر، ومن أدلة ذلك من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغته مقالة سوء قالها رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول، فقام عمر فقال: "يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»[4]، فعامة الناس لا يعرفون من أمر ابن سلول إلا ظاهره وهو أنه مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعلمون نفاقه، فلو قتله النبي صلى الله عليه وسلم لصار قتله فتنة لكثير من الناس وصداً لهم عن الإسلام حيث يظنون أنه عليه السلام يقتل أصحابه.

8- معرفة الوظيفة والمهمة المنوطة بالإنسان، فإن كثيراً من الشباب تلح عليهم الأسئلة في أوقات الشدة والأزمات: ماذا نفعل؟ ما هي مهمتنا؟ والجواب سهل ميسر، فمهمة المؤمنين هي مهمة المرسلين، قال تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل من الآية:35]، وقال تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22]، وقال له: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص من الآية:56]، أما من كان يسعه العمل أو كان في مكان يمكن أن يقدم به شيئاً لدينه فليفعل ما استطاع.

9- الاعتدال العاطفي في الغيرة، فإن الحزن والغضب مما يراه المؤمن من المنكرات أمر عادي جبل عليه الإنسان السوي، لكنه لا ينبغي أن يتجاوز حده، قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]، قال ابن كثير رحمه الله: "باخع: أي مهلك نفسك بحزنك عليهم. يقول: لا تهلك نفسك أسفًا، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات"[5].

10- تفريغ الغيرة تفريغاً إيجابيا لا سلبياً، فكم نعرف من أناس كانوا قبل عشرين سنة معروفين بشدة الغيرة على دين الله وإنكار المنكرات؛ ثم بعضهم اليوم قد جنح للتفجير والتدمير، فما جنوا من ذلك إلا المر والحنظل فجروا على أنفسهم وأهليهم وبلادهم الويلات ولم يجنوا من وراء أفعالهم شيئاً، فلا بد من توظيف الغيرة في البناء والإعمار والجهاد الإيجابي لكل عدو بما يليق به لا الهدم والتدمير في بلاد المسلمين.

11- التفاؤل وعدم اليأس، فإن قوم موسى لما جاءهم عليه السلام بالحق من ربهم وبقي عذاب فرعون متتابعاً عليهم قالوا له: {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف من الآية129]، فما كان منه عليه السلام إلا أن بشرهم كما في تتمة الآية {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]، بشارة امتثل بها لأمر الله له حيث قال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87]، وأما اليأس من روح الله ورحمته فمن الكبائر، كما قال يعقوب عليه السلام: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف من الآية:87]، واليأس يورد المهالك كما نرى اليوم ونسمع من المتساهلين المفرطين الذين كانوا يوماً متحمسين مندفعين فلما لم يروا أثراً لحماستهم واندفاعهم انقلبوا على أعقابهم والعياذ بالله. أما من كانوا هادئين متزنين منضبطين بضوابط الشرع فلم يدخلهم اليأس بل ما زالوا متفائلين وما زالوا على العهد كما كانوا، وما زالوا يلمسون آثار ثباتهم وهدوئهم في أنفسهم ومن حولهم ممن تأثروا بدعوتهم، والحمد لله.

12- الصبر وعدم الاستعجال، وهذا ضابط عظيم ذهل عنه كثير من الناس، وهو ثمرة من ثمرات اليقين والإيمان، قال تعالى في ثلاث آيات: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم من الآية:60]، [غافر:55]، [غافر:77]، فربط الصبر باليقين بتحقق وعد الله عز وجل، وقد وعد سبحانه وتعالى بنصر عباده المؤمنين والتمكين لهم في الأرض، قال جل وعلا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]، والصبر ليس عملاً سلبياً كما يظن كثير من الناس بل هو عمل إيجابي لأنه لا ينفصل عن مواصلة عمل الصالحات، فهذا هو الصبر الجميل وإلا كان ذلاً واستكانة.

13- البعد عن المبالغة في جلد الذات، فبعض الإخوة يبالغون في ذلك، لا يرفقون بأنفسهم ولا بإخوانهم، ويلقون اللوم والتهم بالتقصير على الجميع بزعم أنهم لا يقومون بما ينبغي القيام به، والواجب التماس الأعذار وإنصاف النفس والإخوان، وتقدير الجهود والطاقات المبذولة، والنأي عن تكليف الناس ما لا يطيقون وتحميلهم نتائج ليست إليهم، فهذا أدعى لجمع الكلمة وتوحيد الصف وعدم إيغار القلوب والتناصح والتعاضد فإن التفرق والخصومة يضعفان صف المؤمنين ويقويان شوكة المنافقين والعلمانيين.

فهذه بعض الضوابط التي يرجى إن روعيت هي وغيرها أن تبقي الغيرة على دين الله محمودة -على أصلها- وأن تصل بصاحبها إلى رضوان الله عز وجل، وتحفظ مسيرة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى من كثير من المشكلات والعقبات، والله أعلم.

________________

[1] (صحيح البخاري [2/974] [2581]، (صحيح مسلم [3/1411] [1785]).

[2] (الفوائد [1/208]).

[3] (صحيح مسلم [1/69] [49]).

[4] (صحيح البخاري [4/1861] [4622]، (صحيح مسلم [4/1998] [2584]).

[5] (تفسير ابن كثير [5/137]).

المصدر: المسلم

ناصر بن سليمان العمر

أستاذ التفسير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سابقا

  • 3
  • 0
  • 19,152

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً