ظاهرة المبالغات في مرويات العبادة والورع

منذ 2014-04-05

ونحن نحسب أن من يروي مثل هذه القصص يريد خيرًا، يريد أن يضرب للمسلمين نموذجًا يحتذى ليحس المسلم بالفارق الكبير بينه وبين أسلافه فيشمرُ عن الساعد ويستجمع القوى ويلحقُ بالركب... لكن... هل بالفعل هذه القصص لها أثر إيجابي؟ وهل ذكرها يخلو من المضار؟

نسمع في كلام بعض الوعاظ عبارات مثل:

1- سمع الإمام أبو حنيفة عن شاة سرقت فلم يأكل لحم شاة مدة تعيش الشياه عادة، مخافة أن يأكل من المسروقة.

2- كان السلف يعزون أنفسهم سبعة أيام إذا فاتت أحدهم صلاة الجماعة، وقيل: ركعة، ويعزون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتتهم التكبيرة الأولى مع الإمام.

3- كان الشافعي رحمه الله يقرأ في كل شهر ثلاثين ختمة، وفي كل شهر رمضان ستين ختمة.

4- وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يسبح في اليوم الواحد 100 ألف مرة.

5- سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يتهجد في الليل ويقرأ سورة الطور فلما بلغ إلى قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ . مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:7، 8]. قال عمر: قسمٌ وربُ الكعبةِ حق، ثم رجع إلى منزله فمرض شهرًا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه.

6- وبكى سعيد بن المسيب حتى عميت عينه وبقي على عين واحدة. وقال: لا خير في عين لا تعمى من كثرة البكاء.

7- بينما أسد بن مهلب على شط الفرات فسمع قارئًا يتلو: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف:74]، فتمايل، فلما قال التالي: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75] سقط في الماء فمات

8- مكث الإمام مالك 50 سنة وهو يصلي الفجر بوضوء العشاء وأبو حنيفة 40 سنة.

9- وسمع عبد الله بن الفضيل قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بآياتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] فبكى حتى غشي عليه، ثم حمل ميتا.

 

كانت هذه نماذج من القصص التي نسمعها في سياق الوعظ والحث على الورع والعبادة والتأثر بالقرآن. ونحن نحسب أن من يروي مثل هذه القصص يريد خيرًا، يريد أن يضرب للمسلمين نموذجًا يحتذى ليحس المسلم بالفارق الكبير بينه وبين أسلافه فيشمرُ عن الساعد ويستجمع القوى ويلحقُ بالركب... لكن... هل بالفعل هذه القصص لها أثر إيجابي؟ وهل ذكرها يخلو من المضار؟

من هنا أحببت أن أتكلم عن: ظاهرة المبالغات في مرويات التاريخ الإسلامي.

 

أولا: من حيث الثبوت، هل ثبتت هذه القصص؟

لو ثبتت لبحثنا لها عن تأويلات... لكن الحق أن أكثرها لا يثبت. فإنك إما أن تراها مبدوءة بـ(قيل) هكذا بلا إسناد! أو يُذكر رجل واحد في سند القصة، مثل قولهم: وقال عبد الله بن عيسى: كان في وجه عمر بن الخطاب خطان أسودان من البكاء. ويكون هذا الأثر مذكورًا في كتاب بينه وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمم وأقوام وقرون طويلة، ولا بد ليكون له سند متصل من خمسة عشر أو عشرين راويًا، فماذا يُغني قولنا: عن عبد الله بن عيسى؟

والأدهى والأمر عندما يكون الرجل المذكور مطعونًا فيه مُتهمًا بالوضع، كأن تسمع من يقول: عن الواقدي: "كان الإمام ابن أبي ذئب يصلي الليل أجمع"، يعني الليل كله. والواقدي تسبب في تلطيخ كثير من كتب أهل السنة بالأباطيل لا على الأئمة فحسب، بل وعلى كبار الصحابة. فكيف نرفض روايات الواقدي عما شجر بين بعض الصحابة ونقبل مروياته هنا؟!

أو يكون للأثر إسناد معلوم لكنه ضعيف. فمثلا أثر أن عمر رضي الله عنه مرض شهرًا بعد سماع آية أخرجه ابن أبي الدنيا وابن كثير بإسناد ضعيف.

أو يكون الأثر في كتب معروفة بأنها مليئة بالأحاديث الموضوعة والتي لا أصل لها كإحياء علوم الدين، مثل أثر تعزية السلف من فاتته تكبيرة الإحرام أيامًا. وهذا الكتاب مع إنه كان ذا نفع عظيم في زمانه، وكان له دور مرحلي أداه، ونُقر لصاحبه الإمام الغزالي بالفضل، إلا أنه لا مبرر في أيامنا هذه وقد تبين صحيح الآثار من سقيمها، لا مبرر للرواية عن إحياء علوم الدين دون تحقق.

قد يقول قائل: لا يلزم في رواية الآثار عن السلف أن نلتزم بشروط التحقيق التي نلتزم بها عند رواية الأحاديث النبوية. صحيح. لكن عندما تكون هذه الآثار مستغربة مخالفة للهدي النبوي فإن رفضها ينبغي أن يكون هو الأصل، والتساهل الشديد في قبولها وروايتها يكون مضرا كما سنرى.

هذا من حيث الإسناد، أما من الناحية العقلية، بالحساب بالورقة والقلم، فإن كثيرا من هذه الروايات مستحيل الوقوع. فمثلا: رواية أن عليا رضي الله عنه كان يصلي ألف ركعة في اليوم والليلة، رد عليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (منهاج السنة: [4/32]) فكان مما قال: "فالذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي في اليوم والليلة نحو أربعين ركعة وعلي رضى الله عنه أعلم بسنته وأتبع لهديه من أن يخالفه هذه المخالفة لو كان ذلك ممكنًا، فكيف وصلاة ألف ركعة في اليوم والليلة مع القيام بسائر الواجبات غير ممكن؟! فإنه لا بد له من أكل ونوم وقضاء حقِّ أهلٍ وقضاء حقوق الرعية وغير ذلك من الأمور التي تستوعب من الزمان إما النصف أو أقل أو أكثر. والساعة الواحدة لا تتسع لثمانين ركعة وما يقارب ذلك إلا أن يكون نقرًا كنقر الغراب، وعليٌّ أجلُّ من أن يصلي صلاة المنافقين كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلا»".

إذن فكثير من هذه الروايات مرفوض سندًا وعقلًا. ولو كان لها سند معلوم لقلنا هذه كرامة من الله عز وجل، أن يبارك في وقت الصحابي حتى يتسع لكذا وكذا من الأعمال، لكن لا سند لها يُقبل، مع ما فيها من مخالفة للهدي النبوي يبعد أن يقع فيها سلفنا الصالح.

وقد تجد بعض الآثار الثابتة الأقل مبالغة، كأن تجد أن أحد الصحابة قرأ القرآن كله في ركعة، وهذا مع أنه لم يكن الصحابي يتخذه عادة، بل رُبما فعله في مواسم الخيرات كالعشر الأواخر من رمضان، إلا أنه لا ينبغي أن يطرح على أنه أنموذج يحتذى، بل النموذج الأبهى والأكمل والأعلى هو نموذج السنة النبوية المتكاملةِ المتزنة.

وفي مقال قادم سنتكلم بإذن الله عن مضار هذه الروايات.

المصدر: صفحة الكاتب على الفيس بوك
  • 37
  • 4
  • 24,647

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً