الحسابات الجارية – حقيقتها وتكييفها (1)

منذ 2014-04-10

هذا بحث مختصر في موضوع مهم من موضوعات القضايا المالية المعاصرة، وبالتحديد المعاملات المصرفية المعاصرة، وعنوانه: (الحسابات الجارية: حقيقتها وتكييفها)


الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:

هذا بحث مختصر في موضوع مهم من موضوعات القضايا المالية المعاصرة، وبالتحديد المعاملات المصرفية المعاصرة، وعنوانه:

(الحسابات الجارية: حقيقتها وتكييفها)، وقد وضعت لهذا البحث خطة تتكون من مقدمة وخمسة مباحث، وكانت المباحث كالتالي:

المبحث الأول: حقيقة الحسابات الجارية.
المبحث الثاني: أهمية الحسابات الجارية.
المبحث الثالث: تكييفها الفقهي.
المبحث الرابع: الإشكالات الواردة على التكييف المختار.
المبحث الخامس: الأحكام والآثار المترتبة على التكييف المختار.

المبحث الأول: حقيقة الحساب الجاري[1]:

الحساب الجاري هو أحد العمليات المصرفية المعاصرة، وتندرج في عرف المصارف تحت مسمى الوديعة النقدية الصرفية، وسيأتي بيان أهميته -إن شاء الله تعالى-، والمراد هنا تعريفه وبيان حقيقته.

والناظر في كتب الباحثين المعاصرين الذين كتبوا في هذه المسائل، سواء أكانت من الناحية الشرعية أم القانونية، أم الاقتصادية البحتة، يلحظ اختلاف المسميات التي أطلقوها على الحساب الجاري مع اتحاد المسمى، ومن تلك التسميات:

[1]- الحساب الجاري.
[2]- الحساب تحت الطلب.
[3]- الوديعة الجارية.
[4]- الوديعة المتحركة.
[5]- الودائع تحت الطلب.
[6]- ودائع الحساب الجاري.
[7]- الودائع الواجبة للدفع عند الطلب.
[8]- ودائع بدون تفويض بالاستثمار، وهذه تسمية بنك دبي الإسلامي (تأسس عام 1395هـ).

ومن المسميات السابقة يظهر أن بعضها استخدم عبارة الحساب، وبعضها الآخر استخدم عبارة الوديعة، مع تعدد الوصف على كلٍ، فبعضها يصفها بالجارية أو تحت الطلب أو المتحركة.

والاختلاف في هذه الإطلاقات هو من باب التنوع لا التضاد، إلا أن بعضها نظر إلى ذات المبلغ الذي تم التعاقد عليه بين المصرف والعميل فأطلق لفظ الوديعة، والقسم الآخر نظر إلى المعاملة والقائمة التي تقيد بها المعاملات المتبادلة بين الطرفين فاختار لفظ الحساب.

والحقيقة أن الوديعة المصرفية أو المبالغ أو النقود التي يعهد بها الشخص إلى المصرف هي التي تنشئ الحساب الجاري، وليست هي الحساب الجاري ذاته.

وقد يقال: إن من التجوّز تعريف الحساب الجاري بأنه النقود أو المبالغ، كمن أطلق لفظ السفتجة على النقود المقرضة، وهي في الأصل ورقة يكتب فيها الدين.

والذي يظهر أن البحث منصب على حكم المال أو النقود التي يعهد بها صاحبها إلى المصرف، ويتعاقد عليها، وليس البحث في الحساب أو القائمة التي تقيّد فيها المعاملات بين الطرفين.

ولأن عنوان البحث المطروح هو: الحسابات الجارية، وحتى أتجنب الحكم المبكر على المسألة؛ فإني سوف أستعمل هذا الإطلاق في هذا البحث فيما يأتي من المباحث، والله الموفق.

تعريف الحساب الجاري:

عرف الحساب الجاري: بأنه القائمة التي تقيَّد بها المعاملات المتبادلة بين العميل والبنك[2].

وعرفت ودائع الحساب الجاري: بأنها "المبالغ التي يودعها أصحابها في البنوك بشرط أن يردها عليهم البنك كلما أرادوا"[3].

أو "هي النقود التي يعهد بها الأفراد أو الهيئات إلى البنك على أن يتعهد الأخير بردها أو برد مبلغ مساوٍ لها لدى الطلب أو بالشروط المتفق عليها"[4].

أو "هي المبالغ التي يودعها أصحابها في البنوك بقصد أن تكون حاضرة التداول، والسحب عليها لحظة الحاجة بحيث ترد بمجرد الطلب، ودون توقف على أي إخطار سابق من أي نوع"[5].

والتعاريف السابقة في مجملها متقاربة، وبعضها اهتم بتعريف المعاملة أو المعاقدة التي تكون بين الطرفين [المصرف والعميل]، وبعضها الآخر عرف انطلاقاً من المال الذي يتم عليه العقد بين الطرفين.

ويمكن القول -كما سبق- بأن الوديعة المصرفية أو المال الموضوع لدى المصرف هو الذي ينشئ الحساب الجاري؛ فالحساب الجاري عبارة عن قائمة تقيد بها المعاملات المصرفية المتبادلة بين العميل والمصرف؛ ويقوم صاحب المال بفتح هذا الحساب في المصرف لوضع ماله فيه، بغرض حفظها وصونها ثم طلبها عند الحاجة إليها، أو لأغراض التعامل اليومي والتجاري، دون الاضطرار إلى حمل النقود[6].

وقد يسلم المصرف للعميل دفتر شيكات، يسمح له بموجبه -وبحسب إجراءات معروفة- بالسحب متى شاء من حسابه، بحيث لا تزيد المبالغ عن مقدار المال الذي تم تسليمه للمصرف عالياً، وقد يدفع صاحب المال للمصرف مصاريف يسيرة مقابل الاحتفاظ بالحساب الجاري على هذا النحو.

وبهذا يتبين أن الحسابات الجارية أو تحت الطلب هي حسابات ليس هدفها الاستثمار وإنما هي حسابات لغرض حفظ هذه الأموال وصيانتها من السرقة أو الهلاك، أو لغرض تسهيل التعامل التجاري والمعاملات المصرفية الأخرى التي تقدمها هذه المصارف لعملائها؛ لذا فإن هذه الحسابات ليس لها أي علاقة بالمضاربة أو المشاركة، ولا تستحق أي عائد أو ربح في المصارف الإسلامية، بل إنه قد يتقاضى المصرف عليها أجراً أو عمالة في مقابل ما يمنحه لأصحابها من امتيازات[7].

وإنما سمي الحساب الجاري بهذا الاسم؛ لأن طبيعته تجعله في حركة مستمرة من زيادة بالإيداع أو نقصان بسبب ما يطرأ عليه من قيود بالحسب والإيداع فتغير من حاله بحيث لا يبقى على صفة واحدة[8].

وتختلف طرق المصارف في التعامل مع الحسابات الجارية، ويمكن حصرها في أربعة طرق[9]:

الأول: ألا يتقاضى المصرف أية أجور مقابل خدمة فتح الحساب وما يتعبه من خدمات؛ كإصدار الشيكات، وبطاقة السحب الآلي، وغيرها.

الثاني: أن يتقاضى المصرف أجوراً مقابل خدمة فتح الحساب الجاري، وما يتبعه من خدمات.

الثالث: أن يتقاضى المصرف أجوراً مقابل ما سبق إذا نقص رصيد العميل في الحساب عن مبلغ محدد.

الرابع: أن يمنح المصرف فوائد للعميل مقابل وجود المبلغ في الحساب، وبعضها يشترط مبلغاً معيناً لأجل منح الفوائد، وهذا هو المعمول به في البنوك الربوية.

المبحث الثاني: أهمية الحسابات الجارية:

تتضح أهمية الحسابات الجارية في المنافع التي يحصل عليها طرفا العقد، وهما المصرف والعميل من فتح هذه الحسابات والتعامل بها، وفيما يلي ذكر لأهم المنافع والفوائد التي يحصل عليها كل منهما:

أولاً: المنافع التي تعود على المصرف[10].

1- استثمار الأموال الموجودة في الحسابات الجارية دون أن يشترك عملاؤه -أصحاب هذه الأموال- في الأرباح التي تدرها هذه الاستثمارات.

ويتبين هذا إذا علمنا أن أموال الحسابات الجارية تعد أهم موارد المصرف، وتمثل ما قد يزيد في غالب الأحوال على 90% من مجمل الموارد، ونادراً ما تقل عن 20%[11]، وبهذا يستفيد منها المصرف في توفير السيولة والوفاء باحتياجاته واحتياجات عملائه[12].

2- فتح حساب جارٍ لأحد العملاء يؤدي غالباً إلى أن هذا العميل يحتاج إلى خدمات مصرفية أخرى يستفيد منها المصرف، وطبعي أن يلجأ العميل إلى المصرف الذي به حسابه الجاري.

3- فتح الحسابات الجارية يزيد من قدرة المصرف على توسيع الائتمان أو ما يسمى بخلق الودائع واستثمارها، حيث يزيد الرصيد النقدي لهذا المصرف، وبالتالي يزيد ربحه من جراء استثمار هذه المبالغ.

4- الأجور التي تتقاضاها بعض المصارف مقابل الخدمات التي تقدمها للعملاء؛ كفتح الحساب، وإصدار الشيكات، وبطاقات السحب الآلي وغيرها.

5- يستفيد المصرف من الحسابات الجارية التي تفتحها لديه المصارف الأخرى التي تعامل معها -وهي تمثل قرابة 10% من مجموع الخصوم- في عمليات المقاصّة في الشيكات المحررة من قبل عملاء المصارف الأخرى، وفي عملية الحوالات التي يقومون بها من المصارف الأخرى، ولا سيما التحويلات من بلد إلى آخر، وغير ذلك من الأعمال المصرفية التي تستدعي وجود رصيد كاف لدى المصرف.

ثانياً: المنافع التي تعود على العميل صاحب الحساب الجاري[13]:

1- حفظ أمواله من المخاطر المختلفة؛ كالسرقة أو الضياع، وهذا يتبين أكثر كلما كانت الأموال كثيرة؛ بحيث يشق حفظها في المنزل أو في المحل التجاري، ولذا يلاحظ في الشركات التجارية الكبرى والمصانع الكبيرة التي تكثر فيها عمليات البيع والتحصيل أن موظف الخزينة لا يستبق لديه أية مبالغ نقدية في الخزينة، بل عليه أن يودعها في المصرف يومياً.
 
2- إضافة إلى ميزة حفظ المال فإنه يكون مضموناً على المصرف، ولصاحبه حرية التصرف فيه متى شاء.

3- الانتفاع من الخدمات التي يقدمها المصرف لصاحب الحساب الجاري غالباً بدون مقابل، ومن ذلك:
 
أ- الحصول على دفتر الشيكات مما يسهل على صاحب الحساب الوفاء بالتزاماته واحتياجاته المختلفة دون الحاجة إلى حمل النقود وعدها ومراجعتها مع الأمن من ضياعها وسرقتها وبخاصة في المبالغ الكبيرة.

ب- الحصول على بطاقة السحب الآلي، والتي يمكنه بواسطتها: سحب ما يحتاجه من أموال في أي زمان ومكان.
 

ج- تسديد قيمة مشترياته عن طريق أجهزة نقاط البيع بواسطة الشبكة الإلكترونية.
 

د- تسديد فواتير الخدمات العامة؛ كفواتير الكهرباء والهاتف والماء ونحوها.
 

هـ- الاستعلام عن رصيده في حسابه الجاري، وطلب كشف لحسابه.


و- التحويلات والإيداعات المصرفية.

4- يعد فتح الحساب الجاري المصرفي أسهل وأيسر طريقة لعمل حسابات نظامية دقيقة عن أي نوع من أنواع النشاط الذي يقوم به العميل؛ كأن يعرف ربحه بالفرق بين رصيد أول السنة ورصيد آخر السنة.

5- توثيق الحسابات وضبطها، بحيث يحصل العميل في نهاية كل شهر أو أقل أو أكثر - على كشف مفصل يتضمن جميع المدفوعات وتواريخها ومبالغها والمدفوعة إليهم، وكذلك الحال في الأموال التي يتلقاها من الآخرين مثل أثمان السلع التي يبيع أو موارده من الإيجارات والأرباح... إلخ، وهذا يغنيه عن موظف متخصص في المحاسبة.

6- تمكين العميل من إثباته وتوثيقه لمدفوعاته للآخرين، سواء عن طريق الشبكات تكفي عن الإيصالات؛ لأن المستفيد من الشيك يوقع على ظهر الشيك عند تحصيله من المصرف، أم عن طريق بطاقة السحب الآلي في تسديد فواتير الخدمات.

7- الحصول على الخدمة المصرفية عن طريق الهاتف -بواسطة البطاقة- بحيث يستطيع صاحب الحساب الجاري تحريك معاملاته المصرفية والتجارية عن طريق الهاتف مما يوفر عليه وقتاً طويلاً في التنقل وإجراء هذه المعاملات.

8- سهولة وسرعة تحصيل النقود المحولة إلى المصرف من جهات حكومية أو غير حكومية؛ كتحويل الرواتب الشهرية مثلاً.

9- الأسعار المميزة للخدمات الأخرى التي يقدمها المصرف، والتي تتعلق غالباً بالحوالات والصرف الأجنبي ورسوم فتح الاعتمادات وبطاقات الائتمان وخطابات الضمان.

10- شهادة المصرف بملاءة العميل -صاحب الحساب- وأكثر ما يحتاج لهذا التجار ورجال الأعمال الذين يحتاجون إلى شهادة تثبت ملاءتهم يقدمونها إلى الجهات الحكومية أو الخاصة بحيث يتمكنون بموجبها من الدخول في المناقصات والمزايدات أو عقود المقاولة أو التوريد وغيرها.

11- استخدام الأموال في الحساب الجاري كرهن، وذلك بأن يتفق العميل مع مصرفه على حجز مبلغ من المال في حسابه الجاري لا يسمح له أن يسحبه أو يحرر الشيكات مقابله؛ ليكون رهناً لضمان وفائه بالتزاماته الواجبة أو التي مآلها إلى الوجوب للمصرف أو لمؤسسة أخرى، مثل حالات فتح الاعتماد المستندي للاستيراد، أو إصدار البطاقة الائتمانية، أو كفالة جهة أخرى من قبل ذلك العميل.

12- يعد كشف الحساب للعميل مستنداً قوياً لما جاء فيه من أرقام، ويستفيد من هذا الموظفون الملزمون بتقديم تقارير سنوية عن التغييرات الطارئة في ثرواتهم طبقاً لأنظمة الكسب غير المشروع في بعض الدول.

إضافة إلى ما سبق فإن الحساب الجاري يستفيد منه الطرفان في تيسير واختصار كثير من العمليات التي تحصل بينهما؛ إذ إن تسوية كل عملية من العمليات المتتابعة يسبب كثيراً من التعقيد، بينما يمكن بواسطة الحساب الجاري تجميع العمليات كلها وإخضاعها لنظام واحد، وكذلك فإن من فوائد الحسابات الجارية عدم تعطيل رؤوس الأموال؛ لأنه إذا استحق على أحد طرفيه دين فإنه لا يدفعه نقداً ومباشرة، بل يستغله ويقيد في حساب الدائن ما يقابله.

ومن فوائدها كذلك أنها تقوم بوظيفة نقدية مهمة؛ إذ إنها تمثل وسائل دفع في المجال الاقتصادي والتجاري، وأداة وفاء لتسوية الديون عن طريق نقل ملكيتها من شخص لآخر باستعمال الشيكات والتحويل المصرفي والمقاصة.

وبهذا يتبين أن أموال الحسابات الجارية هي مما يمثل قطب الرحى بالنسبة لموارد البنوك ومحور نشاطاتها في المجال الاقتصادي والتجاري وفي ميادين أنشطتها الأخرى.

المبحث الثالث: التكييف [التخريج] الفقهي للحسابات الجارية:

اختلفت آراء الفقهاء والباحثين المعاصرين في التكييف الفقهي للحسابات، ومما يلي عرض للخلاف:

أولاً: الأقوال في المسألة:

القول الأول: إنها قرض؛ فالمودع هو المقرض، والمصرف هو المقترض.

وهذا قول أكثر الفقهاء والباحثين المعاصرين[14]، وهو رأي مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، ونص عليه بالقرار رقم: [86] [3/9] في دورته التاسعة المنعقدة في أبي ظبي 1-5 ذي القعدة 1415هـ، وفيما يلي نص القرار:

"إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبي ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1-6 ذي القعدة 1415هـ، الموافق 1-6 نيسان [أبريل] 1995م، بعد اطلاعه على البحوث ا لواردة إلى المجمع بخصوص موضوع الودائع المصرفية [حسابات المصارف]، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي:

أولاً: الودائع تحت الطلب -الحسابات الجارية-، سواء أكانت لدى البنوك الإسلامية أو البنوك الربوية هي قروض بالمنظور الفقهي، حيث إن المصرف المستلم لهذه الودائع يده يد ضمان لها وهو ملزم شرعاً بالرد عند الطلب، ولا يؤثر على حكم القرض كون البنك -المقترض- مليئاً[15].

القول الثاني: إنها وديعة بالمعنى الفقهي، وقال به بعض الباحثين المعاصرين[16]، وبه أخذ بنك دبي الإسلامي[17].

ومال إليه الدكتور حسين كامل فهمي، ورأى ضرورة إعادة النظر في التكييف الفقهي المعمول به حالياً بالنسبة للحسابات الجارية في البنوك الإسلامية ليصبح: وديعة -بمفهومها الشرعي- لدى كل من البنك الإسلامي، والبنك المركزي في نفس الوقت، مع الإذن للبنك المركزي فقط باستخدامها[18].

القول الثالث: إنها تدخل تحت عقد الإجارة.

أي أن الإجارة واقعة على النقود، وأن ما يدفعه المصرف لصاحب النقود هو أجر لاستعمال هذه النقود، وهذا القول نقله بعض الباحثين ولم ينسبه لأحد، وانتقد بأنه قول من أراد أن يستحل فوائد الربا من البنوك[19].

وهناك قولان آخران، يغلب عليهما أنهما من أقوال القانونيين؛ فأكتفي بإيرادهما فقط:

الأول: إنها وديعة شاذة أو ناقصة، أي: وديعة مع الإذن بالاستعمال.
الثاني: إنه عقد ذو طبيعة خاصة، أو إنه ليس من العقود المسماة.

أدلة الأقوال:

أدلة القول الأول:
1- إن المال في الحساب الجاري عبارة عن نقود يضعها صاحب الحساب وهو يعلم أن المصرف يتصرف فيها، ويخلطها بالأموال التي لديه بمجرد استلامها وإدخال بياناتها بالحاسب، ثم يستثمرها، وقد دفعها إليه راضياً بذلك فكان إذناً بالتصرف؛ فهذه الأموال في حقيقتها قرض وليست وديعة[20].

2- أن المصرف يملك المال في الحساب الجاري، ويتصرف فيه فيكون قرضاً، وليس إيداعاً، إذ في عقد الإيداع لا يملك الوديع الوديعة، وليس له أن يتصرف فيها، والعبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ والمباني، وتسميتها وديعة إنما هو على سبيل المجاز لا الحقيقة لعدم توفر حقيقة الوديعة فيها[21].

3- أن المصرف يعد ضامناً لأموال الحساب الجاري برد مثلها، ولو كانت هذه الأموال وديعة بالمعنى الحقيقي لما ضمنها المصرف، والمديونية والضمان ينافيان الأمانة، بل لو شرط رب الوديعة على الوديع ضمان الوديعة لم يصح الشرط ؛ لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، وكذلك لو قال الوديع: أنا ضامن للوديعة لم يضمن ما تلف بغير تعد أو تفريط؛ لأن ضمان الأمانات غير صحيح، وهذا على خلاف المعمول به في المصارف قول على أن مال الحساب الجاري قرض وليس وديعة[22].
 
4- من المعلوم أن المصرف لا يأخذ أموال الحسابات الجارية كأمانة يحتفظ بعيها لترد إلى أصحابها، وإنما يستهلكها ويستثمرها في أعماله، ومن عرف أعمال البنوك علم أنها تستهلك نسبة كبيرة من هذه الحسابات، وتلتزم برد مثلها، وهذا واضح في أموال الحسابات الجارية التي تدفع بعض المصارف عليها فوائد ربوية، فما كان المصرف ليدفع هذه الفوائد مقابل الاحتفاظ بالأمانات وردها إلى أصحابها فقط[23].

أدلة القول الثاني:

[1]- أن أموال الحساب الجاري عبارة عن مبالغ توضع لدى المصرف ويسحب منها في الوقت الذي يختاره المودع، وذلك كل ما يطلب في الوديعة الحقيقية، ولا توجد أي شائبة في ذلك[24].

ونوقش هذا الاستدلال بعدم التسليم؛ وذلك لأن الوديعة وإن كان المقصود ردها عند الطلب، إلا أنه يقصد بها أيضاً عدم التصرف فيها، وأموال الحسابات الجارية يتصرف فيها المصرف بمجرد استلامها ثم يرد بدلها، وهذا ينطبق على القرض بمعناه الشرعي لا على الوديعة[25].

[2]- أن المصرف لا يتسلم هذه الوديعة على أنها قرض، بدليل أنه يتقاضى أجرة -عمولة- على حفظ الوديعة تحت الطلب، بعكس الوديعة لأجل التي يدفع هو عليها فائدة[26].

ونوقش بأن الأجور التي يأخذها المصرف من صاحب الحساب الجاري لا يُسلم على أنها في مقابل الحفظ، بل هي في مقابل الخدمات التي يقدمها المصرف لصاحب الحساب؛ كإصدار دفتر الشيكات، وبطاقة السحب الآلي، وكشوف الحساب وغيرها من الخدمات، مع أن الواقع أن أغلب المصارف لا تأخذ أجوراً في مقابل فتح الحساب.

[3]- أن المصرف يتعامل بحذر شديد عند استعمال أموال الحسابات الجارية والتصرف فيها، ثم يبادر بردها فوراً عند طلبها مما يدل على أنها وديعة[27].

نوقش بأن هذا التصرف من المصرف لا يغير من حقيقة العقد، والواقع أن المصرف يتصرف في مال الحساب الجاري بخلاف ما ذُكر حيث يقوم بخلطها بماله ومال العملاء الآخرين بمجرد استلامها، ثم يتصرف فيها كما لو كانت ملكه.

وأما كونه يبادر بردها عند طلبها فهذا لا ينفي كونها قرضاً؛ لأن المقرض له طلب بدل القرض في الحال مطلقا[28]؛ لأن القرض يثبت في الذمة حالاً فكان له طلبه كسائر الديون الحالة، ولأنه سبب يوجب رد المثل أو القيمة فكان حالاً[29].

وكذلك فإن المبادرة بردها عند طلبها فيه حفاظ على سمعة المصرف، وتحفيز للتعامل معه، وفي هذا التعامل فوائد ترجع إلى المصرف، كما هو معلوم.

[4]- أن المودع عندما يدفع المال في الحساب الجاري للمصرف لا يقصد أبداً أن يقرض المصرف، ولا أن يشاركه في الأرباح العائدة للمصرف من استغلال لمال المودع ومال غيره، وإنما مقصوده -أي المودع- حفظ ماله ثم طلبه عند الحاجة إليه وهذا مقتضى عقد الوديعة؛ فلا يسمى فعله إقراضاً[30].

نوقش بأن كون المودع لا يقصد إقراض المصرف لا يؤثر في حقيقة العقد؛ لأن عامة المتعاملين مع المصارف لا يدركون الفرق بين معنى القرض ومعنى الوديعة، ولا يستحضرون الفروق بينهما، فهم لا تهمهم المصطلحات بقدر ما تهمهم النتائج والغايات، والحاصل أن المتعاملين مع المصارف بوضع أموالهم في الحسابات الجارية يريدون حفظ أموالهم مع ضمانها من المصرف، وهذا في حقيقته قرض لا وديعة، ومن المعلوم كذلك أن المصرف لا يقبل حفظ هذه الأموال إلا لأجل التصرف فيها، وهذا هو معنى القرض، والقاعدة أن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني[31].

الترجيح:

الذي يترجح -والعلم عند الله تعالى- أن الأموال التي يضعها أصحابها في حساب جارٍ لدى المصرف الأقرب أنها قرض وليست وديعة، وذلك للأسباب الآتية:

1- أن تعريف القرض وأحكامه متمشية مع هذه المسألة؛ فقد عرف القرض بأنه "عبارة عن دفع مال إلى الغير؛ لينتفع به ويرد بدله"[32]، ومال الحساب الجاري يدفعه صاحبه إلى المصرف، لينتفع به ويرد بدله.

2- أن صاحب الحساب الجاري يعلم أن المصرف الذي يتلقى ماله لن يحتفظ له بهذا المال ساكناً مستقراً في صناديقه ليعيده بعينه عند الطلب، بل إنه سوف يختلط بغيره من الأموال وبأموال المصرف، كما أن المصرف سوف يستعمل هذه الأموال في أعماله واستثماراته، وهذا يعني أن المصرف لن يعيد عين المال، بل يعيد مثله عند الطلب، وهذه الأموال في حقيقتها قروض لا ودائع[33].
 
3- أن صاحب المال إذا وضعه في حساب جارٍ لا يقصد مجرد الحفظ فقط، بل يريد الحفظ والضمان معاً، بدليل أنه لا يقوم على الإيداع ما لم يكن المال مضموناً، وكذلك المصرف لا يقبل هذه الأموال لحفظها فقط، بل للانتفاع بها مع ضمانها، وهذه حقيقة القرض.

4- في القرض يضمن المقترض، وفي الوديعة يضمن المودع -ما لم يكن المودع مفرطاً- وكل منهما ضامن لأنه مالك، وعلى هذا فالوديعة في العرف المصرفي القائم قرض في الشرع الإسلامي[34].

5- أن القاعدة الفقهية المشهورة نصت على أن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وتسمية هذا العقد بين صاحب المال والمصرف وديعة لا يغير من حقيقة العقد وأنه قرض، وإنما سمي وديعة أو إيداعاً لأسباب منها[35]:

أ- أن هذه الكلمة استعملت بمعناها اللغوي؛ فإنها فعيلة من "ودع يدع: بمعنى أنها متروكة عند المودع، وهو المصرف هنا بغض النظر عن كونها أمانة أو مضمونة.

ب- لأن تأريخها بدأت بشكل ودائع وتطورت خلال تجارب المصارف واتساع أعمالها إلى قروض؛ فظلت محتفظة من الناحية اللفظية باسم الودائع، وإن فقدت المضمون الفقهي لهذا المصطلح، وعليه فاستخدام لفظ "ودائع" بدلاً من "قروض" إنما كان صحيحاً في مرحلة تأريخية من مراحل التطور المصرفي، حيث كان الناس يودعون نقودهم عند الصائغ أو الصيرفي مقابل أجر يتقاضاه، لكن عندما بدأ هؤلاء الصيارفة باستغلال هذه الأموال وبإقراضها إلى غيرهم أو استغلالها، لم تعد هذه العمليات ودائع، وكان ينبغي منذ ذلك الوقت هجر هذه التسمية وتركها لعمليات أخرى (كإيداع الأشياء الثمينة) والانتقال إلى التسمية الحقيقية قروض.

وإذا أغفلت البنوك الروية هذا فحري بالمصارف الإسلامية أن تتنبه لهذا، وألا تقلد البنوك الربوية في هذه التسمية وغيرها، سواء كان ذلك في المقاصد والمعاني، أم في الألفاظ والمباني.

ــــــــــــــــــــــــ

المراجع والهوامش:

[1]- (الحساب في اللغة مأخوذ من الفعل حسب، والحاء والسين والياء أصول أربعة، أحدها: العدّ، وثانيها: الكفاية. والحسابُ والحِسابة: عدك الشيء، وحسب الشيء يحسبه بالضم حسباً وحساباً وحسابة: عدّه. ونقل ابن منظور عن الأزهري قوله: وإنما سمي الحساب في المعاملات حساباً؛ لأنه يُعلم به ما فيه كفاية ليس فيه زيادة على المقدار ولا نقصان. ينظر: معجم مقاييس اللغة، ص: [244]، لسان العرب: [3/161]، وأما لفظ [الجاري] فقد قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة، ص: [195]: "الجيم والراء والياء أصل واحد، وهو انسياق الشيء، يقال: جرى الماء يجري جرية وجرياً وجرياناً. وفي المعجم الوسيط، ص: [171]: "والحساب الجاري -في الاقتصاد- اتفاق بين شخصين بينهما معاملات مستمرة. مج").

[2]- (الودائع المصرفية، د. حسين كامل فهمي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي: [9/1/689]).

[3]- (أحكام الودائع المصرفية، محمد تقي العثماني، مجلة المجمع: [9/1/792]).

[4]- (المصارف والأعمال المصرفية في الشريعة الإسلامية والقانون، د. غريب الجمال، ص: [36]).

[5]- (الودائع المصرفية النقدية، واستثمارها في الإسلام، د. حسن عبد الله الأمين، ص: [209]).

[6]- (ينظر: المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق، د. عبد الرزاق الهيتي، ص: [258-259]).

[7]- (ينظر: المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق، ص: [245]).

[8]- (ينظر: بنوك تجارية بدون ربا، د. محمد بن عبد الله الشيباني، ص: [74]).

[9]- (ينظر: الحسابات والودائع المصرفية، د. محمد علي القري [مجلة المجمع: [9/1/ 720-721]، الربا والمعاملات المصرفية... د. عمر المترك، ص: [346]، البنوك الإسلامية، عائشة الشرقاوي المالقي، ص: [228]، المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق، للهيتي، ص: [245]).

[10]- (ينظر: بنوك الودائع، كمال الدين صدقي، ص: [104]، الودائع المصرفية النقدية، حسن الأمين، ص: [211]).

[11]- (ينظر: الحسابات والودائع المصرفية، د. محمد علي القري، مجلة المجمع: [9/1/720]).

[12]- (ينظر: النظام المصرفي الإسلامي، د. محمد أحمد سراج، ص: [87]).

[13]- (ينظر: بنوك الودائع، كمال الدين صدقي، ص: [105]، الحسابات والودائع المصرفية، د. محمد علي القري، مجلة المجمع: [9/1/724]، الودائع المصرفية النقدية، حسن الأمين، ص: [216]، الربا والمعاملات المصرفية، ص: [349]، الترشيد الشرعي للبنوك القائمة، جهاد عبد الله أبو عويمر، ص: [164-166]).

[14]- (ينظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي [9/1/730]، [777]، [802]، [838]، [883]، [888]، [890]، 906]، حكم ودائع البنوك وشهادات الاستثمار في الفقه الإسلامي، د. علي السالوس، ص: [52-55] بحوث في المعاملات المصرفية، د. رفيق يونس المصري، ص: [203]، موقف الشريعة الإسلامية من المصارف المعاصرة، د. عبد الله العبادي، ص: [198-199]، المصارف والأعمال المصرفية في الشريعة الإسلامية والقانون، د. غريب الجمال، ص: [59]، الشامل في معاملات وعمليات المصارف الإسلامية، د. محمود عبد الكريم الرشيد، ص: [159-160]، الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية، د. عمر المترك، ص: [346]، النظام المصرفي الإسلامي، د. محمد أحمد سراج، ص: [93]، الودائع المصرفية، أحمد بن حسن الحسني، المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي، د. محمد عثمان شبير [ص222].

[15]- (قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي، الدورات 1-10، القرارات 1-97، ص: [196]، مجلة المجمع، العدد التاسع، الجزء الأول، ص: [931]).

[16]- (وممن قال بهذا القول: الدكتور: حسن عبد الله الأمين في كتابه [الودائع المصرفية النقدية، ص: [233]، والدكتور عيسى عبده -مستشار سابق لبنك دبي الإسلامي- في كتابه: العقود الشرعية الحاكمة للمعاملات المالية المعاصرة، ص: [113]، نقلاً عن: د. رفيق المصري في كتابه: بحوث في المعاملات المصرفية، ص: [193]، والدكتور عبد الرزاق الهيتي في كتابه: المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق، ص: [261]، والدكتور أحمد عبيد الكبيسي في بحثه المقدم لمجمع الفقه الإسلامي مجلة المجمع: [9/1/755]).

[17]- (نصت المادة: [53] من النظام الأساسي للبنك الذي تأسس عام 1395-1975م على أن البنك يقبل نوعين من الودائع:

1- ودائع بدون تفويض بالاستثمار: وتأخذ صورة الحسابات الجارية ودفاتر الادخار المعمول بها في النظم المصرفية المعاصرة، وهذه تأخذ حكم "الوديعة" المعتمدة في الشريعة الإسلامية. ينظر: بحوث في المصارف الإسلامية، د. رفيق المصري، ص: [190]).

[18]- (ينظر: مجلة المجمع، ص: [9/1/ 694-700]).

[19]- (ينظر: حكم ودائع البنوك، للسالوس، ص: [51]، الحسابات الجارية، د. مسعود الثبيتي، مجلة المجمع، ص: [835]).

[20]- (ينظر: بحوث في المصارف الإسلامية، ص: [201]).

[21]- (ينظر: حكم ودائع البنوك، ص: [61]، النظام المصرفي الإسلامي، د. محمد سراج، ص: [93]، مجلة المجمع، ص: [730]).

[22]- (ينظر: الودائع المصرفية، للحسني، ص: [105]، حكم ودائع البنوك، ص: [52]، النظام المصرفي الإسلامي، ص: [88]، الربا والمعاملات المصرفية، للمترك، ص: [347]، مجلة المجمع، ص: [883]).

[23]- (ينظر: حكم ودائع البنوك، ص: [52]، بحوث في المصارف الإسلامية، ص: [201]).

[24]- (ينظر: الودائع المصرفية، للأمين، ص: [233]).

[25]- (ينظر: المنفعة في القرض، ص: [304]).

[26]- (ينظر: الودائع المصرفية، ص: [233]).

[27]- (ينظر: الودائع المصرفية، ص: [234]).

[28]- (ينظر: الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف: [12/332]، كشاف القناع: [3/314]).

[29]- (ينظر: كشاف القناع، ص: [3/314]).

[30]- (ينظر: الودائع المصرفية، ص: [233-234]).

[31]- (ينظر: مجلة المجمع، ص: [795]).

[32]- (الإنصاف: [12/323]).

[33]- (ينظر: بحوث في المصارف الإسلامية، ص: [201-202]).

[34]- (ينظر: بحوث في المصارف الإسلامية، ص: [203]).

[35]- (ينظر: أحكام الودائع المصرفية، محمد تقي العثماني، مجلة المجمع: [9/1/794]، الربا والمعاملات المصرفية، د. عمر المترك، ص: [348]، مجلة المجمع: [9/1/782] بحوث في المصارف الإسلامية، ص: [204]).

 

الشيخ الدكتور حسين بن معلوي الشهراني


 

المصدر: الدرر السنية
  • 2
  • 0
  • 26,359

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً