وقفات منهجية تربوية - (12) الوقفة التاسعة: حرص الصحابة رضي الله عنهم على وحدة الصف وجمع الكلمة

منذ 2014-04-14

فلننظر ولنسمع ما الذي حدث في السقيفة، وكيف عالج الصّديق رضي الله عنه تلك الوقعة بعلم وبصيرة. وقد ورد الخبر مطولا في صحيح البخاري، وخلاصته:

أن الصحابة رضي الله عنهم لما تحققوا من موت النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة، فعلم بخبرهم بعض المهاجرين رضي الله تعالى عن الجميع، وعلموا أن الأنصار اجتمعوا في السقيفة لأجل الكلام في شأن الخلافة، ومن يخلف الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم. فذهب أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ومعهم بعض المهاجرين إلى السقيفة حتى يرفعوا هذا الخلاف، ويجمعوا الكلمة، والتأخير في هذا الأمر أو المخالفة فيه يزيده شقة وتناحرًا وشماتة الأعداء الذين اشرأبت أعناقهم من المنافقين والمرتدين للنيل من الإسلام والمسلمين، لكن انظر كيف كان حرص الصحابة رضي الله عنهم على جمع الكلمة ورأب الصدع بصورة مُثلى، فاستعادوا هيبتهم ورجعوا من الخلاف وحموا بيضة الإسلام وقادوا سفينة الإسلام.

إذًا ذهبوا إلى السقيفة، قال عمر: "فلما دخلنا السقيفة قام خطيب الأنصار فخطب فذكر بعض ما للأنصار من المناقب والمآثر. وكنت قد زورت في نفسي مقالًا..." (التزوير في لسان العرب بمعنى التهيئة؛ يعني هيأت وأعددت وجهزت مقالة). يقول: "أريد أن أطرحها بين يدي أبي بكر رضي الله عنه. فلما فرغ الخطيب أردت أن أقوم، فلحظني الصديق رضي الله عنه بعينه وكنت أداري منه بعض الحد، فجلست هيبةً له".

وانظر رعاك الله إلى هذا الأدب المتأصل عند الصحابة رضي الله عنهم أن مواطن الفتن لها الكبار، وكلما حضر الكبير سكت من دونه، ولا يتكلم في مواطن الفتن والنوازل إلا كبار أهل العلم، وكل زمان بحسبه.

قال عمر: "فقام الصّديق رضي الله عنه فو الله ما ترك كلمة كنت قد زورتها إلا قال مثلها أو أحسن منها في بديهيته. ثم قال: يا معشر الأنصار...".

ونستفيد من هذا التعبير أنه إذا ما كان الطرف الآخر المخالف لك معروفًا بصدق الديانة وسلامة الصدر، فخالفك، فله مكانته وله فضله، ومن الظلم والجهل أن تنسى فضله ومكانته بمجرد أن خالفك في أمر أو مسألة. بل الواجب الشرعي والوازع الفطري والعقلي يحثك على أن تبادر ببيان الحق له.

فقام أبو بكر الصّديق رضي الله عنه فأقر خطيب الأنصار على ما ذكر من مناقبهم ومآثرهم ثم ثنى بذكر ما لم يذكره مما لهم من السبق والفضل والتزكية الإلهية والنبوية، وهذا حق لهم ولا ينازع فيه أحد،، وكأن الصّديق رضي الله عنه استحضر فيما يبدو فعل النبي صلى الله عليه وسلم في يوم حنين في قسمة الغنائم فقد أعطى قريشًا وترك الأنصار ولم يعطهم شيئًا، فكأن بعض الأنصار وجد في نفسه شيئًا، فبلغ الخبر النبي صلى الله عليه وسلم فجمعهم وذكر لهم بعض ما من الله به عليهم بسببه من الهداية، وتأليف القلوب، ثم ذكر أشياء عددها لهم من المناقب والفضائل التي اختصوا بها. ثم بين لهم لماذا أعطى غيرهم؟ لتأليف قلوبهم للإيمان:

«لَوْ شِئْتُمْ قُلْتُمْ جِئْتَنَا كَذَا وَكَذَا أَتَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رِحَالِكُمْ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أُثْرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ» (متفق عليه). فذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضائلهم حتى بكوا؛ فالصّديق رضي الله عنه اتبع نهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الأنصار في هذا الموقف؛ فقرر للأنصار فضلهم، وهذا لا شك فيه من فقه أبي بكر، وينبغي أن يستحضر هذا الأسلوب مع المخالفين المشهود لهم بالصدق والديانة- كل داعية مصلح.

قال أبو بكر رضي الله عنه لهم: "ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهل له، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبًا ودارًا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم". فأقرّ ما ذكروه ثم ذكر لهم الحكم الشرعي؛ وهو أن الخلافة في قريش ولقد سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم.

قال عمر: "فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة، وهو جالس بيننا، قال: ولم يكن في كلمته أبغض إليّ من هذا"، ثم قال: "والله أن أُقدّم فتُضرب عنقي أحبُ إليّ من أن أتقدم أو أتأمر على قوم فيهم أبو بكر".

وفي بعض الروايات أنه قال لهم: والله تعالى يقول: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] فسمانا الله الصادقين، فكونوا معنا. فأذعن الصحابة جميعًا بما قال.

وشاهد المقال: أن الصّديق عالج خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وخبر موضع دفنه وخبر الخلافة بالعلم الشرعي وسار بسفينة الأمة إلي بر الأمان.

فائدة: أن ما يقع من الخلاف على قسمين:

خلاف تنوع وخلاف تضاد، ولعل كثيرًا من الخلاف من قسم خلاف التنوع، لكن الشيطان في أوقات الفتن يوسع دائرة الخلاف ويعمي الأبصار ويصم الآذان عن سماع قول الحق. فمجرد التعصب لقول والانتصار له وتبنيه دون النظر والبحث والسؤال في الأقوال الأخرى، وأن يجعل الفرد نفسه هو المصيب وغيره هو المخطئ؛ فإنه بهذا الأسلوب يفرق الكلمة ويهدم البنيان.

 

ملخص من كتاب: وقفات منهجية تربوية دعوية من سير الصحابة.

  • 1
  • 0
  • 5,695
المقال السابق
(11) الوقفة الثامنة: أدب الإيثار عند الكبار من أصحاب العلم والخبرة
المقال التالي
(13) الوقفة العاشرة: البعد عن حب التصدر والشهرة

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً