الرسل والرسالة

منذ 2014-04-17

هذه مسائل متعلقة بالرسالة والرسل كتبها فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله، وهي تشتمل على الفرق بين النبي والرسول، وإمكان الوحي والرسالة، وحاجة البشر إلى الرسالة

الحمد لله والصلاة على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد فهذه مسائل متعلقة بالرسالة والرسل كتبها فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله وهي تشتمل على الفرق بين النبي والرسول، وإمكان الوحي والرسالة، وحاجة البشر إلى الرسالة. نسأل الله أن ينفع بها، وإليك هذه المسائل:

المسألة الأولى: الفرق بين النبي والرسول وبيان النسبة بينهما:

النبي: مشتق من النبأ، بمعنى: الخبر، فإذا كان المراد أنه يخبر أمته بما أوحى الله إليه، فهو فعيل، بمعنى: فاعل، وإن كان المراد أن الله يخبره بما يوحي إليه، فهو فعيل، بمعنى: مفعول، ويصحّ أن يكون مأخوذًا من النَّبأ (بالهمزة وسكون الباء)، أو النبوة، أو النباوة (بالواو)، وكلها بمعنى: الارتفاع والظهور، وذلك لرفعة قدر النبي، وظهور شأنه، وعلو منزلته.

والفرق بين النبي والرسول:

أن الرسول من بعثه الله إلى قوم، وأنزل عليه كتابًا، أو لم ينزل عليه كتابًا لكن أوحى إليه بحكم لم يكن في شريعة من قبله؛ والنبي: من أمره الله أن يدعو إلى شريعة سابقة دون أن ينزل عليه كتابًا، أو يوحي إليه بحكم جديد ناسخ أو غير ناسخ، وعلى ذلك، فكل رسول نبي، ولا عكس، وقيل: هما مترادفان، والأول أصح.


المسألة الثانية: إمكان الوحي والرسالة:

الوحي لغة: الإعلام في خفاء بإشارة، أو كتابة، أو إلهام، ثم مناجاة أو نحو ذلك. وشرعًا: هو إعلام الله نبيه بحكم شرعي، ونحوه، بواسطة، أو بغير واسطة. ولا يبعد في نظر العقل، ولا يستحيل في تقدير الفكر، أن يختص واهب النعم، ومفيض الخير بعض عباده: بسعة في الفكر، ورحابة في الصدر، وكمال صبر، وحسن قيادة، وسلامة في الأخلاق، ليُعدّهم بذلك لتحمل أعباء الرسالة، ويكشف لهم عما أخفاه عن غيرهم، ويوحي إليهم بما فيه سعادة الخلق، وصلاح الكون، رحمة للعالمين، وإعذارًا إلى الكافرين، وإقامة الحجة على الناس أجمعين، فإنه سبحانه بيده ملكوت كل شيء، وهو الفاعل المختار، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى، وهو على كل شيء قدير.

وآية ذلك أنَّا نشاهد أن الله سبحانه خلق عباده على طرائق شتى في أفكارهم، ومذاهب متباينة في مداركهم، فمنهم من سما عقله، واتسعت مداركه، واطلع من الكون على كثير من أسراره، حتى وصل به ثاقب فكره، وانتهت به تجاربه إلى أن اخترع للناس ما رفع أولو الألباب من أجله رؤوسهم إليه، إعجابًا به، وشهادة له بالمهارة، وأنكره عليه صغار العقول حتى عدّوه شعوذة، وكهانة، أو ضربًا من ضروب السحر، ولا يزالون كذلك حتى يستبين لهم بعد طول العهد، ومر الأزمان ما كان قد خفي عليهم، فيذعنوا له، ويوقنوا بما كانوا به يكذبون، ومنهم من ضعف عقله، وضاقت مداركه، فعميت عليه الحقائق، واشتبه عليه الواضح، فأنكر البدهيات، ورد الآيات البينات، بل منهم من انتهى به انحراف مزاجه، واضطره تفكيره، إلى أن أنكر ما تدركه الحواس كطوائف السونسطائية (السنوسطائية ثلاث فرق الأولى: العنادية وهي التي تنكر حقائق الأشياء الحسية والعقلية وتكذب حواسها وعقلها فيما تشاهد. أو تدرك وتراه وهما وخيالًا. الثانية: اللا أدرية: وهي التي تشك في حقائق الأشياء وتتردد فيها فتقول: لا أدري ألها وجود أم لا؟ الثالثة: العندية: وهي التي ترى أن ليس للأشياء حقيقة ثابتة في نفسها، بل تتبع إدراك من أدركها وعقيدة من خطرات بباله، وهذه المذاهب باطلة بضرورة الحس والعقل والقائلون بها قد سقطوا عن رتبة البحث والمناظرة).

وكما ثبت ذلك التفاوت بين الناس في العقول بضرورة النظر، وبديهة العقل، ثبت التفاوت بينهم -أيضًا- في قوة الأبدان وضعفها، وسعة الأرزاق وضيقها، ونيل المناصب العالية، والاستيلاء على زمام الأمور، وقيادة الشعب، والحرمان من ذلك، إما للعجز أو القصور، ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا وإما لحكمة أخرى يعلمها مدبر الكائنات؛ وربما كشف عن كثير منها الغطاء لمن تدبر القرآن، وعرف سيرة الأنبياء، وتاريخ الأمم، وما جرى عليها من أحداث.

فمن شاهد ما مضت به سنة الله في عباده من التفاوت بينهم في مداركهم، وقواهم وإرادتهم، وغير ذلك من أحوالهم، لم يسعه إلا أن يستسلم للأمر الواقع، ويستيقن بأن لله أن ينبئ من يشاء من خلقه، ويصطفي من أراد من عباده.
{رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّـهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:165]، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّـهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68]، {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَـٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ . أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:31-32].

إن الحوار الذي دار بين الرسل وأممهم يدل على أنهم لم يكونوا ينكرون الرسالة، ولم يكونوا يستبعدون حاجتهم إلى هداية من الله عن طريق روح طيبة يختارها الله لوحيه، أو نفس طاهرة يصطفيها لتبليغ شرعه، لكنهم استبعدوا أن يكون ذلك الرسول من البشر، وظنوا خطأ أنه إنما يكون من الملائكة، زعمًا منهم أن البشرية تنافي الرسالة، فمهما صفت روح الإنسان، وسمت نفسه، واتسعت مداركه، فهو في نظرهم أقل من أن يكون أهلًا لأن يوحي الله إليه، وأحقر من أن يختاره الله لتحمل أعباء رسالته.

ومن نظر في الكتب المنزلة، وتصفح ما رواه علماء الأخبار، اتضح له ما ذُكر من إمكان الوحي، وحاجة الناس إليه. قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ . أَن لَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّـهَ ۖ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ . فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:25-27]، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ . فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ . أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر:23-25]، وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ . إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ . قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَـٰنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس:13-15]، وقال تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللَّـهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام من الآية:91]، وقال تعالى: { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّـهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ . قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ ۚ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [إبراهيم:10-11]، وقال تعالى: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ . لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ۗ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَـٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ۖ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ . قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنبياء:2-4] إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على إنكار الأمم لم يكن لأصل الرسالة ولا لحاجتهم إليها، إنما كان لبعث رسول من جنسهم.

ولو قال قائل: إن أئمة الكفر، وزعماء الضلالة كانوا يوقنون بإمكان أن يرسل الله رسولًا من البشر غير أنهم جحدوا ذلك بألسنتهم حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، وتمويهًا على الطغام من الناس، وخداعًا لضعفاء العقول وتلبيسًا عليهم خشية أن يسارعوا إلى مقتضى الفطرة، ويستجيبوا لداعي الدين، ومتابعة المرسلين، لو قال قائل ذلك ما كان بعيدًا عن الحقيقة، ولا مجافيًا للصواب! بل بدت منهم البوادر التي تؤيد ذلك، وتصدقه وسبق إلى لسانهم ما يرشد البصير إلى ما انطوت عليه نفوسهم من الحسد والاستكبار أن يؤتى الرسل ما أوتوا دونهم، وينالوا من الفضيلة، وقيادة الأمم إلى الإصلاح ما لم ينل هؤلاء.

قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّـهِ ۘ اللَّـهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام من الآية:124]، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَـٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، وقال تعالى: {وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ . أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَـٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ . فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:51-53]. وليس بدعًا أن يختار الله نبيًا من البشر، أو يبعث في الناس رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، بل ذلك هو مقتضى الحكمة، وموجب العقل، فإن الله سبحانه قد مضت سنته في خلقه بأن يكونوا أنواعًا مختلفة على طرائق شتى، وطبائع متباينة، لكل نوع غرائزه وميوله، أو خواصه ومميزاته التي تقضي بالأنس، والتآلف بين أفراده، وتساعد على التفاهم والتعاون بين الجماعات، ليقوم الوجود، وينتظم الكون، فكان اختيار الرسول من الأمة أقرب إلى أخذها عنه، وأدعى إلى فهمها منه، وتعاونها معه، لمزيد التناسب، ولمكان الإلف بين أفراد النوع الواحد.

ولو كان عُمَّار الأرض من الملائكة لاقتضت الحكمة أن يبعث إليهم ملكًا رسولًا، وقد أرشد الله إلى ذلك في رده على من استنكر أن يرسل إلى البشر رسولًا منهم، قال الله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّـهُ بَشَرًا رَّسُولًا . قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا} [الإسراء:94-95]. ولكن شاء الله أن يكون الخليفة في الأرض من البشر، فاقتضت حكمته أن يكون رسوله إليهم من جنسهم، بل اقتضت حكمته ما هو أخص من ذلك، وأقرب إلى الوصول للغاية، وتحصيل المقصود من الرسالة، فكتب على نفسه أن يرسل كل رسول بلسان قومه.

قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّـهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:4]، ولو قدر أن الله أجاب الكفار على ما اقترحوا من إرسال ملك إليهم لأرسل سبحانه المَلَك في صورة رجل، ليتمكنوا من أخذ التشريع عنه، والاقتداء به فيما يأتي ويذر، ويخوض معهم في ميادين الحجاج والجهاد، وبذلك يعود الأمر سيرته الأولى. كما لو أرسل سبحانه رسولًا من البشر، ويقعون في لبس وحيرة، جزاءً وفاقًا. قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ۖ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ . وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:8-9].

ومن نظر في آيات القرآن، وعرف تاريخ الأمم، تبين له أن سنة الله في عباده أن يرسل إليهم رسلًا من أنفسهم. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:43-44]، وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاق} [الفرقان من الآية:20].

المسألة الثالثة: في حاجة البشر إلى الرسالة الأفعال الاختيارية:

منها ما تُحمد عقباه فيجمل بالعاقل فعله، والحرص عليه، ولو ناله في سبيل تحصيله حرج ومشقة، وأصابه في عاجل أمره كثير من الآلام. ومنها ما تسوء مغبته، فيجدر بالعاقل أن يتماسك دونه، وأن يتنكب طريقه، خشية شره، وطلبًا للسلامة من ضره، وإن كان فيه ما فيه من الملذات العاجلة التي تغري الإنسان بفعله، أو تخدعه عما فيه سلامة نفسه.

غير أن عقله قد يقصر في كثير من شئونه، عن التمييز بين حسن الأفعال وقبيحها، ونافعها وضارها، فلابد من معين يساعده على ما قصر عن إدراكه، وقد يعجز عن العلم بما يجب عليه علمه، لأنه ليس في محيط عقله، ولا دائرة فكره، مع ما في علمه به من صلاحه وسعادته، وذلك: كمعرفته بالله، واليوم الآخر، والملائكة تفصيلًا، فكان في ضرورة إلى من يهديه الطريق في أصول دينه، وقد يتردد في أمر إما لعارض هوى وشهوة أو لتزاحم الدواعي واختلافها، فيحتاج إلى من ينقذه من الحيرة، ويكشف له حجاب الضلالة بنور الهداية، فبان بذلك حاجة الناس إلى رسول يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويكملهم بمعرفة ما قصرت عنه أفهامهم، ويوقفهم على حقيقة ما عجزوا عنه، ويدفع عنهم الألم والحيرة، ومضرة الشكوك.

أضف إلى ذلك أن تفاوت العقول والمدارك، وتباين الأفكار، واختلاف الأغراض، والمنازع، ينشأ عنه تضارب الآراء وتناقض المذاهب، وذلك يفضي إلى سفك الدماء، ونهب الأموال، والاعتداء على الأعراض، وانتهاك الحرمات، وبالجملة ينتهي إلى تخريب، وتدمير لا إلى تنظيم، وحسن تدبير، ولا يرتفع ذلك إلا برسول يأتي بفصل الخطاب، ويقيم الحجة، ويوضح المحجة، فاقتضت حكمة الله أن يرسل رسله رحمة بعباده، وإقامة للعدل بينهم، وتبصيرًا لما يجب عليهم من حقوق خالقهم، وإعانة لهم على أنفسهم، وإعذارًا إليهم، فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله. من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب. فقد ثبت أن سعد بن عبادة قال: لو رأيت رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح (أي بحده لا بصفحته)، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «تعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين ولا أحد أحب إليه المدح من الله، ومن أجل ذلك وعد الله بالجنة» رواه البخاري.

ومما تقدم يعلم أن إرسال الله للرسل مما يدخل في عموم قدرته، فضلًا منه ورحمة، والله عليم حكيم، وهذا هو القول الوسط، والمذهب الحق.

وقد أفرط المعتزلة فقالوا: إن بعثة الرسل واجبة على الله تعالى إبانة للحق، وإقامة للعدل، ورعاية للأصلح. وهذا مبني على ما ذهبوا إليه من القول بالتحسين والتقبيح العقليين، وهو أصل فاسد. وتطرف البراهمة (البراهمة: قيل: إنهم جماعة من حكماء الهند تبعوا فيلسوفًا يسمى برهام فنسبوا إليه. وقيل: إنهم طائفة عبدت صنمًا يسمى (برهم) فنسبت إليه. والقصد بيان مذهبهم في الرسالة والرد عليه بما يدفع شبهتهم، مع أن بعضهم قد اعترف برسالة آدم وآخرين منهم اعترفوا برسالة إبراهيم عليهما السلام).

 فأحالوا أن يصطفي الله نبيًا، ويبعث من عباده رسولًا، وزعموا أن إرسالهم عبث، إما لعدم الحاجة إليهم اعتمادًا على العقل في التمييز بين المفاسد والمصالح، واكتفاء بإدراكه ما يحتاج إليه العباد في المعاش والمعاد، وإما لاستغناء الله عن عباده، وعدم حاجته إلى أعمالهم، خيرًا كانت أم شرًا، إذ هو سبحانه لا ينتفع بطاعتهم، ولا يتضرر بمعصيتهم، وقد سبق بيان عدم كفاية العقل في إدراك المصالح والمفاسد. وحاجة العالم إلى الرسالة مع غنى الله عن أعمال الخلق، فليس إرسالهم عبثًا بل هو مقتضى الحكمة.

عبد الرزاق عفيفي

من كبار العلماء بمصر والحجاز توفي رحمه الله عام 1415 هـ .

  • 9
  • 1
  • 13,321

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً