رواحل تحيي الأمة (2)
مفهوم الرواحل ودورهم :
ورد لفظ الرواحل في قوله صلى الله عليه وسلم الناس كابل مائة لا تجد فيها راحلة [8]، ومعني الحديث في أحسن الأقوال في تعريف معني (الراحلة) أن معناه المرضي الأحوال من الناس الكامل الأوصاف الحسن المنظر القوي على الأحمال والأسفار سميت راحلة لأنها ترحل إي يجعل عليها الرحل فهي فاعلة بمعنى مفعولة كعيشة راضية أي مرضية ونظائره [9].
ولفظ الراحلة مفرد الرواحل وهو الذي يصفه الدكتور محمد أمين المصري رحمه الله تعالي بأنه ذلك ( الفرد) النشط الحي القوي الذي يأخذ على عاتقه المسؤولية ويعمل وفق طاقاته وإمكانيته في سبيل إحياء الأمة، ذلك الفرد الذي تصبح الفكرة همّه:تقيمه وتقعده ويحلم بها في منامه وينطلق في سبيلها في يقظته، الذي إن لم تكن لديه الوسائل الفعالة سعي في إيجادها ولو كان أمراُ مستحيلاُ، فهو يعيش من أجل عقيدته ويرضي بكل أذي في سبيلها ويبذل كل غال ورخيص [10].
وإذا كنا قد ذكرنا هنا الفرد والدور الفردي وذلك لأن الأمة تحتاج إلى أشخاص يحملون زمام المبادرة بأنفسهم غير منتظرين أن يسلك الطريق سواهم .. وذلك في كل مجال من شأنه رفعة الأمة وعزتها وإخراجها من هذا النفق المظلم الذي تسير فيه. وهؤلاء المبادرون قلة قليلة وعملة نادرة في مجموع الأمة وذلك كان وصفهم بالرواحل كما جاء في الحديث، وتعد المبادرة الفردية سفينة النجاة في حالة انحطاط الأمة، وتربيتُها لدى الناس جزء من المنهجية الصحيحة في بناء الإيجابية ، وقد أتت النصوص الشرعية كتاباً وسنة بالحث على المسابقة على أعمال الخير والتنافس فيها والمسابقة إليها ، وهذا النوع من المبادرة هو ما لا ينتظر المرء غيره في الإقدام على الطاعة ، بل يتقدم هو لذلك جاعلاً نفسه قدوة للناس وإماماً
والله تعالى يقول على لسان نبيه إبراهيم الخليل: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً} [الفرقان : 74] أي : قدوة يحتذى بفعاله ، وقد علمتنا التجربة أن معظم الناس يحبون الخير ويقدرون فاعليه ، وهم على استعداد للمشاركة في مشاريعه ؛ لكن المشكلة الكبرى هي أن المستعدين فيهم لخطو الخطوة الأولى ووضع أول لبنة قلة قليلة ، وهذه القلة هي ملح المجتمع وبركته ، إنهم أناس يحبون الخير ويثقون في أنفسهم ويحبون خدمة الآخرين ، وهم إلى ذلك مستعدون لتحمل نتائج مبادراتهم وما قد تجره إليهم من مشكلات ومتاعب .[11]
وإذا كنا قد أشرنا إلى هؤلاء الأفراد حيث أنهم يشكلون العنصر الأول في بناء كل أمة ، وتوفر الصلات بين هؤلاء الأفراد الشرط الأول لقيام هذه الأمة برسالتها وتقديمها لعطائها الحضاري [12].
ولكن لكي يكتمل البناء والعمل الصحيح لابد وأن ينتظم هؤلاء الأفراد في إطار فريق العمل الذي هو الدعامة الأساسية في حمل رسالة الأمة، وذلك لأن العمل الجماعي من أهم ضمانات النجاح وتحقيق الأهداف ، ذلك أن إضافة كل فرد في الأمة إلى غيره إضافة كيفية لا كمية، ولن يتحقق ذلك إلا بتجسيد هذا العمل الجماعي في صورة مؤسسات متخصصة، ويتكون لدينا مجموعتان من خلال فريق العمل : [مجموعة فكرية ومجموعة تطبيقية ].
فأما المجموعة الفكرية (فكر الحركة) فمهمتها ابتكار الاستراتيجيات اللازمة في جميع ميادين العمل وتطوير هذه الاستراتيجيات حسب متطلبات الزمان والمكان .
وأما المجموعة التطبيقية (حركة الفكر) فتكون مهمتها تنفيذ الجزء المتعلق بميدانها من الاستراتيجيات التي أفرزتها المجموعة الفكرية،وينبغي أن يسود بين فريق العمل الدعوي الروح التنافسية الشريفة وهي التي نطلق عليها روح الفريق وعملها هو توحيد الأفكار والممارسات العملية من أجل تحقيق رسالة الأمة ، ومن هنا كانت الأمة التي تسير خطوات أفرادها بروح الفريق ويسود أعمالهم التعاون والتكامل ، هي الأمة الجديرة بالريادة البشرية، ومن هنا فلابد لمنهج التربية الإسلامية أن يعمل تنمية الصفات التي تحقق التفاعل بين أفراد الأمة مثل صفة الأخوة ، والشورى ، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر والعطاء المتبادل والقدرة على تكوين تجمعات حضارية يكون الولاء فيها للأمة الإسلامية ، قبل أن يكون للتجمع أو الحزب؟!
ولا شك أن تنمية هذه الصفات تحتاج إلى برامج تربوية تركز على الائتلاف والعمل الجماعي ، وتنهي العزلة عن المجتمع ، وتربي الأفراد على أساس من الحرية ضمن النظام ، والمبادرة مع الانضباط ، والتنفيذ وليس الجدل وتفجير الطاقات وليس تبرير العجز ، وروح الفريق وليس روح القطيع [13].
والآن وفي نهاية هذا المبحث لابد من ذكر معالم هامة في منهج الإحياء الإسلامي ألا وهي :
لابد في طريق الإحياء الإسلامي من الطريق الطويل الشاق البطيء الثمرة (لإحياء الأمة) التي تسند حكم الإسلام حين تقوم وتظل تسنده لكي يستمر في الوجود بعد أن تقوم.
ويتم إحياء الأمة بدعوة التوحيد الواضحة على ما كان عليه القرون الثلاثة الأولى قبل تشعب الأهواء واختلاط العقائد ،وذلك عبر مراحل نوجزها إجمالاً وهي:
- (الانتصار للتوحيد) بتصحيح مفهوم العقيدة ، وتخليصها مما شابها.
- (ملء الفراغ الديني) بدعوة الناس إلى أن يقيموا حياتهم على قاعدة الإسلام.
- (إحياء التوجه الإسلامي) بالانطلاق بهذا المفهوم انطلاقاً جاداً يتربى خلاله الأفراد على الأخلاق الإسلامية ، وخط سير الإسلام في التعامل مع كل المعسكرات والمجتمعات البشرية ، والعقبات التي كانت في طريقه ولا تزال تتزايد بشدة من معسكرات الأعداء.
فلابد من (صفوة) تحمل الحق ، و(أمة) تحمي هذا الحق .
(أمة) قامت على مرتكزات عقائدية ثابتة ؛ فصار لها ولاء ثابت ، وهوية ثابتة ، وشخصية ثابتة ، وتوجه ثابت.
وهذه (الأمة) بتلك المواصفات هي التي تغلق - بعون الله - الطريق على عودة الانقلابيين من زعماء النخبة العسكرية في المستقبل ، وبالتالي تخرج من التبعية للغرب ، بل وتقتل طموح الغرب في هزيمة المسلمين.
ولكي تصل الدعوة الإسلامية إلى (إحياء الأمة) فإنه من الضروري أن تقوم بترتيب أولويات أعمالها، وتراعي هذا الترتيب في دعوة الناس، وفي تنظيم مراحل علاج المواقع الفاسدة، والبناء للواقع الإسلامي الصالح،
وذلك من خلال ما تتبناه من أفكار،ومنهاج للتربية، وأسلوب في العمل.. على النحو التالي:
1- الأفكار:- لا بد أن تكون ملكاً للأمة، وليست حكراً على النخبة أو الصفوة، ومن ثم: فلا بد أن تكون باللغة التي تفهمها جماهير الأمة، وتقوم على حل مشكلات الواقع، ورسم خطة المستقبل الأفضل.. فإنها إن كـانـــت كذلك تحوّلت ـ بإذن الله ـ إلى تيار عام كاسح، يغيّر بجهاده المستمر أسس الجاهلية الفكرية والخلقية والثقافية السائدة في كثير من أحوال الأمة.
2- منهاج التربية:- تربية كل فرد على الشعور بأنه (هو) المسئول عن تغيير واقع الأمــــــة الإسلامية وليس (غيره).. وأنه يمتلك القدرة على هذا التغيير إذا سعى إليه بروح الائتلاف مع الأمة، والارتـبــاط بجذورها، وعدم العزلة عنها أو مفارقتها.. ولذلك: فإنه لا بد أن يخالط الناس ويصبر على أذاهم؛ لأن ذلك أرضى لله، وأنفع لعباده.
ولا شك أن هذا المنهاج التربوي سيُخْرِج ـ بإذن الله ـ دعاة إلى الحق يأخذون بيد كل فرد في الأمة إلى الله، ولا يحصرون أنفسهم بين الجدران، بل يتغلغلون في أوساط الأمة لتبسيط دعوتهم ودرء ما ألحقه بها الطواغيت والمبطلون.
3- أسـلــوب العمل:- توسيع دائرة العمل للإسلام إلى أبعد حد ممكن، عبر إقامة شبكة متكاملة من الـــروابط والعلاقات، ومد جسور التواصل مع مختلف طبقات الأمة، بحيث تصبح العلاقة بـيـن (الصفوة) و(عامة) الأمة هي علاقة إيجابية تقوم على الحب المتبادل وتكامل الطاقات لخدمة الإسلام، ولا شك أن هذا يتطلب من العاملين للإسلام (امتلاك القدرة على فقه الـتـعــامــــل مـــع المجتمعات، والانفتاح المتزن أكثر، وفـتــح منافذ جديدة للدعوة، وامتلاك قدر أكبر من المرونة، مع الإبصار الكامل والدقيق والأمين للأهداف، والتقدير للإمكانيات.. ولا يعني هذا بحال من الأحوال أن يكون دعاة الإسلام دمــاً جـديـــداً فـي قوة الباطل، أو أن يوظف الإسلاميون لغير الأهداف الإسلامية، وإنما يعني: النزول إلى الساحة، وفهم واقع الناس؛ حتى يجيء الأخذ بيدهم ثمرة لهذا الفهم، ذلك أن الناس هم محل الدعوة، وهم جديرون بالشفقة والإنقاذ).
فلابد من إعداد كل فرد في الأمة - إن استطعنا - إعداداً عقائدياً ونفسياً وتربوياً بحيث يراعي هذا الإعداد فرز (أُولي الألباب) لميادين القيادة وتوظيف الطاقات تبعاً لقدراتها العقلية واتجاهاتها النفسية واستعداداتها العملية بعيداً عن مؤثرات العلاقات والروابط الشخصية ومقاييس العصبية والإقليمية والطبقية ][14 ].
وفي نهاية هذا المبحث لا أملك إلا الدعاء إلى الله والإبتهال إليه بأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم.
---------------------------------
[8و9] صحيح مسلم رقم [ 2547].
[10] (المسؤولية) د.محمد أمين المصري ص38-39 دار الصفوة للطباعة والنشر).
[11] المبادرات الذاتية وتنميتها محمد بن سعد الخالدي مجلة البيان عدد 130 صفحة 26 بتصرف.
[12] الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة ،فصل (روح الفريق والمبادرات الذاتية) دكتور محمد محمد بدري بتصرف .
[13-14] معالم في طريق التغيير وأنظر الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة دكتور محمد محمد بدري بتصرف .
محمد المصري
معلم وباحث إسلامي مهتم بالقضايا التربوية والاجتماعية ،وله عديد من الدراسات في مجال الشريعة والعقيدة والتربية الإسلامية.
- التصنيف:
- المصدر: