تفسير الفاتحة

منذ 2014-04-18

سورة الفاتحة في عظمها ومكانتها وفضلها ينبغي أن يكثر العبد من قراءتها ويتدبر في معانيها وأسرارها عاملاً بها، حتى ينال ثواب القراءة والعمل معاً.


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن سورة كسورة الفاتحة في عظمها ومكانتها وفضلها ينبغي أن يكثر العبد من قراءتها ويتدبر في معانيها وأسرارها عاملاً بها، حتى ينال ثواب القراءة والعمل معاً.. متعنا الله بحفظ كتابه وفهمه والعمل به.


ونذكر أولاً فضائل الفاتحة:
1. روى الإمام أحمد والبخاري -رحمهما الله- وغيرهما عن أبي سعيد بن المعلَّى -رضي اللّه عنه- قال‏:‏ ‏كنت أصلّي فدعاني رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- فلم أجبه حتى صلّيت، قال‏:‏ فأتيته، فقال‏:‏ «ما منعك أن تأتيني‏؟‏» قال‏:‏ قلت يا رسول اللّه إني كنت أصلي، قال‏:‏ «ألم يقل اللّه -تعالى-‏:‏ ‏{‏الحمد للّه رب العالمين}‏ هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».


2. عن عبد الله بن جابر -رضي الله عنه- قال: انتهيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد أهراق الماء، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فلم يرد عليَّ، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فلم يردّ عليّ، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فلم يرد عليّ، قال: فانطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمشي وأنا خلفه حتى دخل رحله، ودخلت أنا المسجد فجلست كئيبًا حزينًا، فخرج عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد تطهر فقال: «عليك السلام ورحمة الله وبركاته، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وعليك السلام ورحمة الله» ثم قال: «ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بأخير سورة في القرآن؟» قلت: بلى يا رسول الله، قال: اقرأ: «الحمد لله رب العالمين، حتى تختمها» (رواه الإمام أحمد -رحمه الله- وقال ابن كثير: هذا إسناد جيد)(1).


3. وعن أبي سعيد الخدري -رضي اللّه عنه- قال‏:‏ ‏كنّا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت‏:‏ إنَّ سيّد الحي سليم أي لديغ، وإنَّ نفرنا غُيِّب فهل منكم راق‏؟‏ فقام معها رجل ما كنا نأْبِنُه برقية فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبنًا، فلما رجع قلنا له‏:‏ أكنت تحسن رقية‏؟‏ أو كنت ترقي‏؟‏ قال‏:‏ لا، ما رقيتُ إلاّ بأم الكتاب، قلنا‏:‏ لا تحدثوا شيئًا حتى نأتي ونسأل رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي -صلى اللّه عليه وسلم- فقال‏:‏ «وما كان يدريه أنها رُقْية‏؟‏ اقسموا واضربوا لي بسهم» ‏ ‏(رواه البخاري ومسلم وأبو داود) وفي بعض روايات مسلم أن أبا سعيد الخدري هو الذي رقى ذلك السليم (وهو اللديغ) سمي بذلك تفاؤلاً بالشفاء والسلامة.


4. روى مسلم والنسائي -واللفظ له- عن ابن عباس -رضي اللّه عنهما- قال‏:‏ بينا رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم- وعنده جبرائيل، إذ سمع نقيضًا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال‏:‏ "هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال‏:‏ فنزل منه ملك، فأتى النبي -صلى اللّه عليه وسلم- فقال‏:‏أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌ قبلك‏:‏ فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ حرفاً منها إلا أوتيته‏".

 

أسماء سورة الفاتحة وأوصافها:
ورد في الفاتحة أسماء عديدة موافقة لمعان متعلقة بها، وسنذكر الاسم مع سبب التسمية به:
1. الفاتحة: لأنها فاتحة القرآن خطًا ورسمًا، وبها تفتح القراءة في الصلوات.
2. أم الكتاب: وهذا قول الجمهور، وكره قوم تسميتها بذلك، والصحيح الجواز لما رواه الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «{الحمد لله رب العالمين} أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني» (رواه أبو داود وصححه الألباني).
3. الحمد لله رب العالمين: للحديث المتقدم.
4. السبع المثاني: لما تقدم.
5. الحمد: لأنها مفتتحة به، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة لمن لم يقرأ بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها» (قال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه الألباني).
6. الصلاة: لحديث «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين...» (رواه مسلم وغيره). وسميت الفاتحة صلاة لأنها ركن فيها..


وأما أوصافها فقد وصفت الفاتحة أيضًا بأوصاف منها ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم ومنها ما جاء عن بعض السلف من غير دليل ومن ذلك:
1. الرقية: لحديث أبي سعيد المتقدم في رقية سيد الحي الذي شفي بقراءتها فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما يدريك أنها رقية؟».
2. أساس القرآن: ذكره الشعبي عن ابن عباس وقال: "وأساسها بسم الله الرحمن الرحيم".
3. الواقية: سماها بذلك سفيان بن عيينة؛ لأنها تقي العبد من الشرور.
4. الكافية: سماها بذلك يحيى بن أبي كثير؛ لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها، كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة: «أم القرآن عوض عن غيرها، وليس من غيرها عوض عنها» (تحفة المحتاج: [1/291]).
5. الكنز: ذكره الزمخشري.

 

الشروع في ذكر معاني كلمات الفاتحة جملةً وتفصيلاً:
قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم} لا نتوسع في ذكر الخلاف بين علماء المسلمين سلفًا وخلفًا في ذكر: هل البسملة آية من الفاتحة أم لا؟ وهل هي آية من كل سورة أم لا؟! بعد اتفاقهم على أنها بعض آية في سورة النمل في قوله -تعالى-: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة النمل:30]، ونحن نذكرها على اعتبار أنها آية من هذه السورة.


فقوله: (بسم) الباء حرف جر و(اسم) اسم مجرور، وحذفت الألف لالتقاء الساكنين، وتحذف الألف في البسملة: إذا كتبت كاملة، وأما إذا لم تكتب كاملة فلا تحذف تقول (باسم الله) والجار والمجرور لا بد له من متعلق، وقد قدر العلماء هذا المتعلق اسمًا وبعضهم جعله فعلاً.. وهو مقدر  بحسب المقام، ففي السورة هنا نقدره (أقرأ أو قراءتي باسم الله). وعند دخول البيت يقدر (دخولي أو أدخل باسم) وهكذا.. وهو لا ينطق به، وفي هذا دليل واضح على فصاحة وبلاغة كلام الله من أول كلمة نبدأ بها؛ لأن كل مقام يستحب فيه ذكر الله، فلهذا قدر المتعلق، ليكون حسب المقام والمقصد.
(الله) علمٌ على الربّ -تبارك وتعالى- يقال إنه الاسم الأعظم؛ ولا يصح، وقد ورد في تعيين الاسم الأعظم غير حديث صحيح، إلا أن هذا الاسم من أجل أسمائه سبحانه إذ تنسب إليه جميع أسمائه وصفاته جل شأنه كما قال تعالى‏:‏ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22] الآيات، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له، وهذا الاسم لم يسم به غير الله -تعالى-، ولهذا اختلف في اشتقاقه من فَعَل يفعل، فذهب من ذهب من النحاة إلى أنه اسم جامد ليس له اشتقاق، وقيل هو مشتق من أَلَه يأله إلاهةً وتألهاً. وهو أرجح وقد ذهب إليه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
{الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}: هما وصفان لله -تعالى- واسمان من أسمائه الحسنى، مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، ورحمان أشد مبالغة من رحيم، فرحمن: صيغته (فعلان) ورحيم (فعيل) كما تقول رجل كسلان أي بلغ منتهى الكسل و(شبعان) منتهى الشبع، وقولك (كريم) أي منتهى الكرم.. وهكذا..


واختلف العلماء في المراد من جمعهما في محل واحد هنا:
فقيل: (الرحمن): صفة ذات تدل عليه، و(الرحيم) صفة فعل متعلقة بعباده.
فقيل: (الرحمن): اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله –تعالى-، و(الرحيم) إنما هو من جهة المؤمنين، ذكر هذا أبو علي الفارسي.
وقيل: هما بمعنى واحد، كندمان ونديم، قاله أبو عبيد القاسم بن سلام.
وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدها أرق من الآخر، أي أكثر رحمة.
وقيل: الرحمن ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا، وللمؤمنين في الآخرة، والرحيم ذو الرحمة للمؤمنين يوم القيامة(2).


قوله تعالى: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية بخلاف الشكر فلا يكون إلا على الصفات المتعدية ويكون بالجنان واللسان والأركان.
قال ابن جرير: (الحمد لله) ثناء أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه، فكأنه قال: قولوا: (الحمد لله).
{رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الشنقيطي: لم يبين هنا ما العالمون، وبين ذلك في موضع آخر بقوله:{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ . قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ} [سورة الشعراء:23-24]، قال بعض العلماء: اشتقاق العالم من العلامة؛ لأن وجود العالم علامة لا شك فيها على وجود خالقه متصفًا بصفات الكمال والجلال قال -تعالى-:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} [سورة آل عمران:190]، والآية في اللغة: العلامة(3).

فرب العالمين أي خالقه ومالكه والمتصرف فيه، فلا يخرج أحد عن مشيئته، وهو القاهر فوق عباده.


{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قد تقدم بيانهما في تفسير البسملة.


{مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أي الجزاء والحساب على الأعمال، وقد بينه الله في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ . ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ . يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار:17-19]، أي في يوم الحساب والجزاء لا ينفع أحد أحدًا بحسنة؛ لأن كل واحد يقول يومئذ (نفسي نفسي) فهو يوم عظيم، ولهذا جاء في الآية الأخرى قوله -تعالى-: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [سورة غافر:16]، وقد جاء في الحديث عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر يقول: «يأخذ الجبار سماواته وأرضيه بيده- وقبض يده فجعل يقبضها ويبسطها- ثم يقول: أنا الجبار، أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟» قال: ويتمايل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن يمينه وعن شماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم! (رواه مسلم).. وكلمة الدين تطلق على الطاعة كقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [سورة آل عمران:19]، وتطلق على الجزاء كما هي هنا..


{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}  في هذه الآية بيان معنى (لا إله إلا الله) وذلك في قوله: (إياك نعبد) فإن تقديم المعمول (إياك) على العامل (نعبد) يدل على الحصر والقصر، وهذا ما تقرر في علم الأصول والمعاني. فالله  -تعالى- حصر العبادة وجعلها مختصة به؛ لأنه خالق الخلق ومليكهم والمتصرف فيهم، فكان هو المستحق للطاعة والخضوع.
فمعنى (لا إله إلا الله)... مركب من أمرين: نفي وإثبات، فالنفي: خلع جميع المعبودات غير الله -تعالى- في جميع أنواع العبادات، والإثبات: إفراد رب السماوات والأرض وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه المشروع، وقد أشار إلى النفي من لا إله إلا الله بتقديم المعمول الذي هو (إياك) الذي يفيد الحصر، وأشار إلى الإثبات منها بقوله (نعبد) وقد بين معناها المشار إليه ههنا مفصلاً في آيات أخر كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} [البقرة:21]. وصرح بالنفي في آخر الآيات: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} وكقوله: {أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [سورة النحل:36]، فصرح بالإثبات بقوله: (اعبدوا الله) وبالنفي بقوله: (واجتنبوا الطاغوت) وكقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} [سورة البقرة:256]، فالنفي (يكفر بالطاغوت) والإثبات (ويؤمن بالله)(4) وآيات كثيرة أخرى.
وقوله (وإياك نستعين) أي نطلب منك -يا الله- العون على طاعتك، وعلى أمورنا كلها، ولا نطلبه من أحد سواك، لأن الأمر كله بيدك وحدك لا يملك أحد منه معك مثقال ذرة.


تعليل: إنما قدم الله -تعالى- قوله (إياك نعبد) على (إياك نستعين) لأن العبادة له هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والأصل أن يقدم ما هو الأهم فالأهم، والله أعلم.(5)
وقال الشنقيطي -رحمه الله-: وإتيانه بقوله: (وإياك نستعين) بعد قوله: (إياك نعبد) فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة؛ لأن غيره ليس بيده الأمر، وهذا المعنى المشار إليه ههنا جاء مبينًا واضحًا في آيات أخر كقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [سورة هود:123]، وقوله: {فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [التوبة:129] الآية. وقوله: {رَّ‌بُّ الْمَشْرِ‌قِ وَالْمَغْرِ‌بِ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:9] وقوله:{قُلْ هُوَ الرَّ‌حْمَـٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك:29] إلى غير ذلك من الآيات(6).

 

وقوله تعالى:{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} أي أرشدنا ووفقنا إلى الطريق الحق الواضح المستقيم الذي ليس فيه اعوجاج ولا انحراف..
اختلف العلماء في المراد بـ (الصراط المستقيم) مع أن أقوالهم كلها ترجع إلى أنه طاعة الله ورسوله، لكن نذكر ذلك للفائدة:
1. أنه كتاب الله: ذكر عن علي بن أبي طالب، وورد فيه حديث مرفوع فيه الحارث الأعور وهو ضعيف.
2. الإسلام: قول ابن عباس وجابر وروي عن ابن مسعود أيضًا، وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
3. أنه الحق: قول مجاهد.. وهو شامل ولا منافاة بينه وبين ما سبق.
4. النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحباه من بعده، قاله أبو العالية والحسن البصري.

 

قال ابن كثير: "وكل هذه الأقوال صحيحة وهي متلازمة، فإن من اتبع النبي -صلى الله عليه وسلم- واقتدى باللذين من بعده أبي بكر وعمر فقد اتبع الحق، ومن اتبع الحق فقد اتبع الإسلام، ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن وهو كتاب الله، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضًا"(7).
وقد ورد حديث عظيم، إسناده حسن صحيح كما قال ابن كثير -رحمه الله- عن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ضرب الله مثلاً صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران فيها أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا، ولا تعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم» (رواه أحمد وابن أبي حاتم والترمذي والنسائي، وقال ابن كثير: حسن صحيح).


قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} أي اهدنا يا رب صراط من أنعمت عليهم بالإيمان والقرب منك والتوفيق لطاعتك ومرضاتك، وقد بين الله في سورة النساء من هؤلاء المنعم عليهم فقال -عز وجل-: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [سورة النساء:69].

 

وقوله:{غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} قال جماهير علماء التفسير: إن المقصود بـ (المغضوب عليهم) اليهود و(الضالين) النصارى.. لأن اليهود علموا الحق ولم يعملوا به فغضب الله عليهم، والنصارى عبدوا الله على جهل فضلوا عن الحق. وقد جاء الخبر بذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث عدي بن حاتم..
قال الشنقيطي: واليهود والنصارى وإن كانوا ضالين جميعًا مغضوبًا عليهم جميعًا، فإن الغضب إنما خص به اليهود وإن شاركهم النصارى فيه؛ لأنهم يعرفون الحق وينكرونه، ويأتون الباطل عمدًا؛ فكان الغضب أخص صفاتهم، والنصارى جهلة لا يعرفون الحق، فكان الضلال أخص صفاتهم، وعلى هذا فقد بين أن المغضوب عليهم، اليهود قوله فيهم {وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ} [آل عمران:112]، وقوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة:60]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا} [الأعراف:152]، وقد بين أن الضالين النصارى قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} [سورة المائدة:77](8). والمقصود: أن الله يرشد المؤمنين إلى هذا الدعاء العظيم، بالهداية إلى طريق الحق الذي سلكه أولئك الأخيار من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وسؤال الله أن يجنبهم طريق اليهود الذين علموا ولم يعملوا فاستحقوا غضب الله، وطريق النصارى الذين عبدوا الله على جهل وضلال فاستحقوا الضلال عن الحق، وعلى هذا فمن علم ولم يعمل ففيه شبه باليهود، ومن عبد الله على جهل ففيه شبه بالنصارى، والخروج من هذا المأزق الكبير هو حل سهل وبسيط: أن نعلم ونتعلم وأن نعمل بعلمنا.. نسأل الله التوفيق...

 

فوائد من الفاتحة:
وبعد الكلام عن معاني آيات هذه السورة نذكر بعض الفوائد المتعلقة بها:
1. حمد الله وشكره في كل حال وحين، وهذه السورة يكررها العبد في الصلاة المفروضة في اليوم والليلة سبع عشرة مرة، إلى جانب السنن.. مما يدل على أهمية ما فيها، ومنه حمد الله وشكره وسؤاله الهداية والعون على الحياة كلها.
2. بيان معنى لا إله إلا الله، وأنه نفي لكل ما يعبد من دون الله، وإثبات العبودية لله، وذلك واضح من الحصر في قوله (إياك نعبد).
3. لا تجوز الاستعانة والاستغاثة إلا بالله الواحد الأحد، وإذا استغاث الإنسان أو استعان بإخوانه الأحياء، فيما يقدرون عليه مما هو معقول وواقع، فإن ذلك من قبيل قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، وقوله عن موسى عليه السلام: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15]، وذلك في حدود الطاقة البشرية، أما أن يستعان أو يستغاث بالأموات أو بالقبور والأحجار، أو الجن أو الملائكة، فيما يخرج عن هذا، وكذا الاستغاثة بالغائب من البشر، فهذا من الشرك الصراح.
4. سؤال الله الهداية والتوفيق إلى الطاعة والثبات عليها؛ فعن النواس ابن سمعان الكلابي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه» وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك، قال: والميزان بيد الرحمن يرفع أقواماً ويخفض آخرين إلى يوم القيامة» (رواه ابن ماجه وغيره وصححه الألباني).
5. بيان معنى: (أنعمت عليهم) فقد بينتها الآية في سورة النساء.
6. الحذر من أفعال اليهود في العلم بلا عمل، والحذر من فعل النصارى، العبادة بدون علم..
7. ثبت استحباب قول (آمين) بعد الفاتحة، وقد ثبتت بذلك أحاديث كثيرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحاح والمسانيد والسنن ذكرها ابن كثير.(9)


هذا والحمد لله رب العالمين...

________________________

(1) تفسير ابن كثير: [1/12]. ط/ دار المعرفة/ السادسة 1413هـ.
(2) يشكل على هذا القول حديث رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما. وهو حديث وارد عن عدة من الصحابة، وقد صححه الحاكم وجوده المنذري، وقواه البيهقي وحسنه الألباني.
(3) أضواء البيان: [1/33]. ط/ مكتبة ابن تيمية.
(4) المصدر نفسه.. بتصرف.
(5) ذكره ابن كثير: [1/28].
(6) أضواء البيان: [1/35].

(7) ابن كثير: [1/30].
(8) أضواء البيان: [1/37].
(9) التفسير: [1/33].

المصدر: موقع إمام المسجد
  • 36
  • 0
  • 83,028

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً