الطفل الفقير
إن نفسية الأطفال نفسية لطيفة نقية شفافة، لينة سريعة التأثر بما يحيط بها، تتربى على ما تنمو عليه، وتتشكل حسبما تتقولب فيه، وبحسب معطيات النمو وطبيعة القالب يكون مبناها وتتكون أوصافها..
اتفق الحكماء والعلماء أن المال ليس سببًا للسعادة، وأن السعادة سببها راحة البال الذي لا يوجد بغير هدف صالح، وأن أعظم هدف في الحياة هو عبودية الله الرحمن سبحانه، فالعبودية هي سر السعادة، وسر راحة البال، وسر مروءة الأخلاق، بل وسر كل جميل في هذه الحياة.
وكم رأينا من فقير سعيد، بينما أغنياء كثر غير سعداء، بل كم رأينا من أغنياء وصلوا بمالهم قمة الغنى المادي يصبحون يوميًا لا يلوون على شيء سوى رغبتهم في أن يتخلصوا بأنفسهم من حياتهم إلى مصير هم يقولون: "إنه مجهول"، ونحن نقول لهم إنه مصير بائس، بل إنك ترى الإبداع يكثر نبته بين الفقراء ويقل عند الأغنياء، والشجاعة والنباهة والفضيلة تجد لها بين متواضعي الحال مرتعًا بينما يضيق مسراها ومغداها بين القصور وواسع الدور.
الأطفال في هذه القضية لا يختلفون عن الكبار كثيرًا، فأرجو ألا تعدني أيها القارىء مبالغًا إذا قلت إن حظ الطفل الفقير في غالب الأحوال خير من قرينه الغني، على الرغم أن البادي غير ذلك بالكلية، لكن كيف أخلص إلى تلك الفرضية المستغربة بينما يرى الناس أطفال الأغنياء يرتعون في مترف العيش، ويتنعمون بمختلف النعم، فإذا أرادوا اللعب وجدوا عشرات الألعاب، وإذا أرادوا الرتع والتريض وجدوا أفسح الملاعب والنوادي، وإذا أرادوا الطعام أو الشراب تلذذوا بما لذ وطاب، بينما قرناؤهم الفقراء يعُد آباؤهم عليهم الدراهم عدًا، ويمنعونهم من معظم ما يرتجون من المشتريات، ويضيقون عليهم في رغباتهم في الطعام والشراب، والألعاب نتيجة قصر ذات اليد وضعف ذات الإمكانية.
والجواب على هذا الذي قد يستغربه القارىء العزيز يكمن في تدبر أكثر عمقًا للقضية، وتفهم أكثر حكمة لطبائع الحياة، فمن ذا الذي يستطيع أن يقرر أن كثرة الألعاب في صالح التربية، أو أن تلبية كل الطلبات هي في مصلحة البناء النفسي للأبناء، أو أن لذيذ الطعام والشراب دافع لمستقيم الأخلاق؟!
إن نفسية الأطفال نفسية لطيفة نقية شفافة، لينة سريعة التأثر بما يحيط بها، تتربى على ما تنمو عليه، وتتشكل حسبما تتقولب فيه، وبحسب معطيات النمو وطبيعة القالب يكون مبناها وتتكون أوصافها، فالطفل الذي يجد أمامه مبتغاه بمجرد الطلب سينشأ معتمدًا على ذلك، معتادًا على تلبية كل طلباته ورغباته، ولن يعوقه عائق إذا ما اشتد عوده وتمرس عقله، وإذا دارت عليه دورة الأيام دورة سلبية ففقد بعض ماله أو بعض رهطه وصحبه سيبحث عن إجابة طلبات نفسه على أي حساب كان من سيىء الأخلاق أو كريه المبادىء.
والطفل الذي يتربى ناعم اليد مترف العيش سيكبر غير عابىء بالفقراء، غير مكترث لمعاناتهم، غير آبه بمعنى كد العيش والعطاء في الحياة للآخرين، والطفل الذي ينشأ مستجاب المطالب، يعيش في رغد دائم، لن يتعلم المشاركة في العمل، ولن يتفهم أثر الآخرين في الحياة، وسينظر للأغيار كونهم وسائل لمراداته فحسب.
لا شك أن ها هنا محورًا هامًا يجب أن نؤكد عليه في حديثنا، وهو أن للحرمان أيضًا أثرًا سلبيًا على نفس الأطفال، وللشعور بالدونية أثر غير مرغوب فيه، وأنه ينشىء النفس تواقة لكل جديد غير قانعة بما في يدها..
والحل في ذلك أن يقوم الوالدان -سواء أكانوا أغنياء أو فقراء- بواجب التربية على التوازن والوسطية والاعتدال، فيعلمون أبناءهم معنى تحمل المسئولية، ولا يكثرون المال في أيديهم مهما كانوا أغنياء، ويمتنعون عن تلبية كثير من طلباتهم ورغباتهم رجاء أن ينشأوا على تحمل المسئولية، متفهمين معنى الرجولة والصلابة.
كما أن على الآباء الفقراء أن ينتبهوا لتعليم أبنائهم القناعة والرضا بما قسم الله لهم، وببناء القيم والمبادىء في قلوبهم، وترسيخ معنى العفاف عما في يد الآخرين، ومعنى غنى النفس، ومعنى التوكل على الله والأخذ بالأسباب وغير ذلك.
إن تركة يتركها الأب كفاضل الأخلاق وطيب الصفات لتثقل بمليارات الدينارات في ميزان الحق والصواب، وميراثًا من العقل والأدب والرجولة والمروءة، والاعتماد على الذات، والعزة والكرامة لهي الثروة الحقيقية التي يجب أن يتركها الآباء الحكماء لأبنائهم، فيتركونهم واثقين في حسن خطاهم، ويفارقونهم تاركين الصلاح ينبت، والثواب ينمو مهما رحلوا عن الحياة.
خالد روشه
- التصنيف:
- المصدر: