التقديس عندما يكون زائفًا
منذ زمن ليس بالقريب يتداول في وسائل الإعلام وعلى ألسنة كثير من المتحدثين جملة يعاد تكرارها كثيرًا، حتى غدت عند كثير من الناس وكأنها من المسلمات التي لا تقبل نقدًا ولا نقضًا، يراد للناس أن ترفع القضاة تلك المنزلة العالية -التقديس- حتى إنهم ليرفعونهم إلى مكانة لا يرفعون إليها العلماء والفقهاء..
من معاني القدس الطهر والنأي والبعد عن الأقذار، والتقديس التطهير والتنزيه عن العيوب والنقائص، ومن ثم فإن التقديس تنزيه من تقدسه عن النقائص والعيوب، وليس أحد من مخلوقات الله تعالى منزه عن العيوب والنقائص سوى من اصطفاهم الله تعالى من الملائكة والنبيين والمرسلين، ومن لوازم التقديس الإكبار والتعظيم لمن يقدس فلا يعترض على كلامه أو أحكامه، ومن عداهم من خلق الله تعالى يجوز عليه النقص، ويحدث منه ما يمكن أن يلام عليه ولو كان من الصديقين أو الصالحين أو الشهداء، هذه أمور ينبغي أن تكون معلومة للناس ولا يختلفون بشأنها..
لكن منذ زمن ليس بالقريب يتداول في وسائل الإعلام وعلى ألسنة كثير من المتحدثين جملة يعاد تكرارها كثيرًا، حتى غدت عند كثير من الناس وكأنها من المسلمات التي لا تقبل نقدًا ولا نقضًا، يراد للناس أن ترفع القضاة تلك المنزلة العالية حتى إنهم ليرفعونهم إلى مكانة لا يرفعون إليها العلماء والفقهاء، رغم أنهم يحكمون بالقانون الوضعي الذي هو مضاد لحكم الشرع المطهر، فلو أراد أحد أن يعترض على مسلك لبعض القضاة تراه يحتاط لذلك حيطة شديدة ويسوق من عبارات التعظيم والإكبار، والتبجيل للقضاء الذي يصفونه أنه قضاء نزيه وقضاء شامخ إلى غير ذلك من الصفات، حتى يخيل للمتلقي أن الحديث ليس عن بشر عاديين، بل وكأنه حديث عن أنبياء أو صحابة.
والمسلم ليس ضد تقدير الناس وإعطائهم ما يستحقون نظير أفعالهم وأقوالهم، لكن المسلم يقف ضد الغلو الذي يرفع الناس إلى منازل ليست لهم، وهذا رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عبد الله ونبيه ورسوله يأبى أن يغلو الناس فيه فعند ما قال له بعض الناس: "يا سيدنا، وابن سيدنا، ويا خيرنا، وابن خيرنا"، ومع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم وخير ولد آدم حقًا وصدقًا لا امتراء في ذلك، لكنه لعله لحظ من ذلك بادرة غلو فلم يقبل ما قالوه وإنما رد عليهم بقوله: «يا أيها الناس، قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، ورسول الله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق ما رفعني الله» (عمدة التفسير:611/1)، وقال أيضا: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبده ورسوله» (مسند أحمد:94/1).
لو تجاوزنا قضية حكم القضاة بالقانون الوضعي -وما كان لنا أن نتجاوز ذلك- فإن القضاة بشر يصيبون ويخطئون ويعصون، ومن ثم فلا يقبل هذا الذي يروج له من محاولة إضفاء القداسة على ما يصدر من أحكام وقبوله وعدم الاعتراض عليه، وذلك من خلال النظر في ثلاثة أمور:
1- الذي لا يتعقب حكمه ولا يعترض عليه هو الله تعالى كما قال تعالى: {..وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ..} [الرعد:41]، والمعقب هو الذي يكر على الشيء فيبطله، فالحكم الذي لا يمكن أن يتعقبه أحد هو حكم الله تعالى، لأن حكمه هو الحق الذي لا يأتيه الباطل.
2- قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار: فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» (الصحيح المسند:181)، والأنواع الثلاثة موجودة في دنيا القضاة القاضي بالحق والقاضي الجائر والقاضي الجاهل.
3- ما هو معلوم وثابت يقينًا من وجود قضاة فسدة مرتشين.
فإذا كان ذلك كله موجودًا استحال أن ينظر إلى أحكام القضاة كلهم دون استثناء، ذلك النظر الذي يروج له حتى يسوغ كل ما يصدر عنهم، ولا يملك المسلم الاعتراض عليه فلا يكون أمامه إلا التسليم، حتى لو قامت الدلائل أو ظهرت القرائن أن ما حكم به ليس حقًا ولا صوابًا وإنما رضخ فيه القضاة إلى إغراء دنيوي، أو إرهاب سلطوي.
أما إذا كانت القضية المعروضة قضية اجتهادية، وكان القاضي من أهل الاجتهاد فإنه لا يسوغ الاعتراض على حكمه إذا بذل جهده واستفرغ وسعه، واجتهد حتى لو لم يكن صاحب المصلحة، مقتنعًا بصواب الحكم إلا إذا ظهرت أمارات تدل على الريبة فيما صدر من حكم، فلمن كان الحكم ضده أن يعترض على الحكم أمام محكمة أعلى درجة في هذه الحالة، وأما جعل الحكم باتًا ومنع صاحب المصلحة من الاعتراض عليه فإن ذلك من علامات الريبة التي تلقي في الروع أن نية التزوير متوفرة، ومن أجل ذلك احتاطوا بمنع حق النقض للحكم الصادر.
- التصنيف: