محرِّرة المرأة (أم عُمارة) رضي الله عنها 3/3
لقد علمت تلك المجاهدة أنَّ أعمقَ الجذور وأكثرها امتدادًا وفعالية لن تخرج بدايةً عن نطاقِ الأسرة الصَّغيرة، التي تَعُدُّ التكليفَ الأقرب والأولى لكلِّ أمٍّ وزوجة تدعو بدعوة الحق. فمَدُّ جذورٍ تربوية ودَعوِيَّة خارجَ الأسرة بدايةً وقبل النظر في حالِ الأبناء يُعَدُّ ضَرْبًا من السفاهة، بل الجحود لهذا الدور التربوي الخطير.
حركة الجهاد الأسري:
إنْ كانت المرأةُ هي شِقَّ المجتمع، فإنَّ تربيتَها للأبناء هو ما جَعلها تُمَثِّل الدَّوْر الكامل فيه، وليس نصفه فقط في بناء الأمم، هذا ما سَعَت إليه المجاهدة أمُّ عمارة - رضي الله عنها - فالجهادُ كان لديها عقيدة يتوجب نَحوها الترتيب والتخطيط والتنمية، وليست مُجرد عاطفة جاشت في لحظاتٍ قصيرة، ثُمَّ انتثرت في مهب الريح.
لقد أدركت أنَّ رِسَالَتَها في الحياة ستكون قاصِرَة، وسَطحية أيضًا إنْ صبغت نفسَها بها دون أبنائها، إذًا فلا بد أنْ تَمتَدَّ هذه الرسالة؛ لتُشكِّل جُذورًا أعمق من ذاتها الآنِية.
ولقد علمت تلك المجاهدة أنَّ أعمقَ هذه الجذور وأكثرها امتدادًا وفعالية - لن تخرج بدايةً عن نطاقِ الأسرة الصَّغيرة، التي تَعُدُّ التكليفَ الأقرب والأولى لكلِّ أمٍّ وزوجة تدعو بدعوة الحق.
فمَدُّ جذورٍ تربوية ودَعوِيَّة خارجَ الأسرة بدايةً وقبل النظر في حالِ الأبناء -يُعَدُّ ضَرْبًا من السفاهة، بل الجحود لهذا الدور التربوي الخطير؛ لذا سَعَتْ أمُّ عمارة - رضي الله عنها - في تربية هذه المبادئ الشجاعة نفسها في أبنائها أولاً.
ونُلاحظ ذلك جليًّا في حديثها لأبنائها في غزوة أُحُد، فلَمْ تَكتفِ مُعلِّمةُ الأجيال أمُّ عُمارة - رضي الله عنها - بالذَّبِّ عن نبيِّ الملحمة بنفسها، ولكن كان ابناها حَولَها يذبُّان عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
كما أنَّ شجاعَتَها وعطاءَها تَجاوزا حدودهما الخاصَّة؛ ليَعُمَّا مساحاتٍ أكبرَ ومَشاعِرَ أخص وأعمق، فلربما تتمنى الأم المرضَ لنفسها، لكنَّها لا تطيقُ ذلك على ولدها، ولربما تفدي ولدَها برُوحها؛ لتبقى ثَمَرةُ جُهدها باقية، وليبقى رَيْعان صباه غضًّا حيًّا، وليكون حاضره ومستقبله أولى من نَفَسٍ تتنَفَّسه، لكنَّ الافتداءَ يكون من نَوعٍ مُختلف، حين يكون الشراءُ مُختلفًا، إنَّه شراءُ فَرْسَخٍ في الجنة بجوار النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
انهض بُنَيَّ فضارب القوم:
بهذه الجملة لخصت لنا أمُّ عُمارة - رضي الله عنها - مَنهجًا للتربية، فالتربيةُ قد تكون بالقُدوة، وقد تكون برَفْعِ العزيمة والهِمَّة في نفوس الأبناء، فها هي الغزالة، لا تراها تستسلم حتى تُسانِد صغيرَها المرة بعد الأخرى، يَخفق فتسانده وتحضه على الوقوف والسير, وها هو الطير تراه يفتعل الحِيَلَ حتى يُحاكيه صغيرُه في الطيران، وتلك أم عمارة - رضي الله عنها - لم تكسرها جراحُ العدو، ولَم يُسكتها طعناته، تراها قائلة لابنها عبدالله بن زيد وقد جُرِحَ في عَضُدِه الأيسر: "انهض بُنَيَّ فضارب القوم".
انهضْ بُنَيَّ، لا أرى فيك مَكروهًا، فلا تنظر لجراحي، بل انظر لكفاحي.
انهض بُنَيَّ، فإنَّ فِدائي لك بتعليمك مواطن الصبر، ومعاني الجهاد.
انهض بني، فإنَّ فراقنا الحقيقي ليس فراق الدنيا.
وجمعنا السرمدي ليس هنا، ولكن في دار الخلد.
"فجعل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ومن يطيق ما تطيقين يا أُمَّ عُمارة))".
ولا أدري هل أراد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنْ يتعجب من قُوَّة جَلَدِها على جراحها، وصَبْرها على جراح ولدها، أو أنَّ التعجُّبَ حَقًّا قد كان من جَميل معاني الفداء والتضحية وقوة الإرادة، التي تجسدت في هذه المرأة؟!
تلاحم الفكر الأسري:
لقد كان زوجُ أم عمارة وربيب ابنيها، وكذلك الولدان في ساحة المعركة، بل لقد شاركوا جميعًا في حماية النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإنَّ هذه الأم، وتلك الزوج لم تَجد ابنيها وزوجها معها في ميدان المعركة صدفة، لكنَّه لقاءٌ قد رتبته تربيةٌ قويمة سبقت هذا الموقف العفوي، جعلتهم يقفون موقفًا متلاحِمًا ومنسجمًا، ويثبتون ثباتًا يُظْهِر لنا مَعانِيَ جديدة في تربية الولد، بَدْءًا من حُبِّ الله - عزَّ وجلَّ - وابتغاء نُصرته، وانتهاءً بطاعة الوالدين.
فهنيئًا لكم - أهلَ بيتٍ - تَبَسُّم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لكم، حينَ قال: ((بارك الله عليكم من أهل البيت، مقامُ أُمِّك خيرٌ من مَقام فلان وفلان، رحمكم الله أهلَ البيت، ومَقام ربيبكَ - يعني زوج أمه - خير من مَقام فلان وفلان، رحمكم الله أهل البيت)). (الطبقات الكبرى).
حينها لَم تكتفِ هذه البطلة بمباركة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فطُموحها لا حدودَ له، وبضاعَتُها لَم تزل تتذكرها، وتذكر أين تريد بيعها؟ "قالت: ادعُ الله أنْ نرافِقَكَ في الجنة، فقال: ((اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة))، فقالت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا"؛ الطبقات الكبرى.
لم ترتحِ المرأةُ الصَّحابية أمُّ عُمارة - رضي الله عنها - بهذه الكلمات، ولم تعتذر عن جُرحها؛ لتهدأَ سريرتها الجهادية، فتراها تشهد من بعد أُحد: الحديبيةَ، وخيبر، والقضيةَ، والفتحَ، وحُنَيْنًا.
وتستمر حركةُ الجهاد الأُسَرى داخلَ هذه الأسرة العزيزة، فما كان للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يختار حبيبَ بن زيد ابن السيدة أمِّ عمارة - رضي الله عنهم أجمعين - لإرساله إلى الطاغية مسيلمة الكذاب الحنفي جُذافًا، لقد اختاره - صلَّى الله عليه وسلَّم - لِمَا عرفه من هذا البيت من الشجاعة والقوة والبأس، وهذا دَليلُ ما عُرِفَ عنهم من تلاحُم الفِكْر الأُسَرِي، وانسجام السرائر؛ ذلك حين يَتَّصِف الابن بما اتَّصف به الأب أو الأم، فلَمَّا ذهب إليه، أبلى بَلاءَ الأَشِدَّاء الأُبَاة، حين ينكل بهم الغادرون؛ "فكان مسيلمة إذا قال له: أتشهد أنَّ محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، وإذا قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: أنا أصم لا أسمع، ففعل ذلك مِرارًا، فقطعه مسيلمة عضوًا عضوًا، فمات شهيدًا - رضي الله عنه"؛ أخرجه أبو عمر، وأبو نعيم، وأبو موسى؛ "أسد الغابة في معرفة الصحابة، باب الحاء والباء".
ويَزداد خَطُّ المسيرة الأسرية تلاحُمًا وتطابُقًا حين يُصِرُّ أخوه عبدالله بن زيد على مُجابهة عَدُوِّ الله مسيلمة الكذاب بعد مَقتل أخيه حبيب، فيشد فتيلَ المعركة هو وأمُّه - رضي الله عنها - ذَهابًا إلى اليمامة.
حينها لَم تترَدَّد العَجوز الصَّامِدَة أم عُمارة في القدوم مع ابنها إلى ساحَةِ الوَغى، ولَم تتنازلْ عن مَبدئها في الحياة بعد وفاة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلقد كانت مَعركة اليمامة في عهد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ولم تعجزها جراحاتُ السنين والمشاهد، ولَم تُثنِ عزمَها أو تُخِفْها آلامُ الثَّكالَى، فمضت مع وَلَدِها الثاني، الذي أقسم أن يُنَكِّلَ بِمُسَيْلمة ويُرِيَه ما لَمْ يستطِعْ حبيبٌ أنْ يُرِيَه؛ ليطعنَه الطَّعَناتِ الأخيرة، ويشارك وحشيَّ بن حرب قِسْمَته في قَتْل أحد الكَذَّابِين على الله ورسوله.
"فأحَبَّ عبدالله بن زيد أن يأخذَ بثأر أخيه، فقَدَّر اللهُ - تعالى - أنْ شارك وَحْشِيًّا في قتل مسيلمة، رماه وحشي بالحربة، وضربه عبدالله بن زيد بالسيف، فقتله" اهـ؛ "أسد الغابة، حرف العين".
ويمتد التلاحم في الأسرة الكبيرة:
إنَّ هذه المسيرة الحافلة لَم يكن احتفاؤها داخلَ أسرة الصَّحابية الصغيرة فحسب، بل لقد كانت عشيرتها - كما علمنا من نسبها - من الأنصار من بني النجار، وأي جهاد وبأس بعدهم يُحكى؟ ثم هؤلاء إخوتها - رضي الله عنهم - من المجاهدين الصابرين، فشقيقها الأول كان بدريًّا، وهو "عبدالله بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار، الأنصاري الخزرجي النجاري، ثم المازني.
شهد بدرًا، وكان على غنائم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومَ بدر، وشَهِدَ المشاهدَ كلَّها مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكان على خُمُس النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثلاثين بالمدينة، وصلى عليه عثمان - رضي الله عنه" اهـ؛ أسد الغابة.
"قال الطبري وغيره: كان على ثقل غنائم بدر، وذكره موسى بن عقبة أيضًا في البدرِيِّين" اهـ؛ "الإصابة" لابن حجر.
وشَقيقها الثَّاني هو أحد البَكَّائين، الذين فاضت أعيُنهم من الدَّمْعِ حَزَنًا على فراق الوَغى يومَ تبوك، إنَّه أبو ليلى عبدالرحمن بن كعب - رضي الله عنه.
ولقد جُبِلَ قلبُه على حُبِّ الغزو والشهادة، ولقد كان آلامُ حِرْمانه من المعركة بقَدْرِ آلام الحيِّ حين يُحرم من الحياة، فمعناها عنده هو "فِراقُ كلتا الحُسْنيَيْنِ"، فأي فراق هذا على قلبه؟ إنَّها حساسية الضمير، التي لا تهدأ إلا بالبذل، ولقد نزل بجلالِ صدق هذه المشاعر خَبَرُ السماء؛ لتخشعَ له الجبال وتقشعر منه الأبدان.
قال الله - تعالى -: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 91 - 93].
يقول ابنُ كثير: "والمقصود ذكر البَكَّائين الذين جاؤوا إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليحملهم حتى يَصحبوه في غَزوته هذه، فلَمْ يَجدوا عنده من الظَّهْرِ ما يَحملهم عليه، فرجعوا وهم يبكون تأسُّفًا على ما فاتَهم من الجهاد في سبيل الله، والنفقة فيه.
قال ابن إسحاق: وكانوا سبعةَ نفر من الأنصار وغيرهم.
فمن بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير، وعُلْبَة بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عبدالرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة، وعبدالله بن المغفل الْمُزني، وبعض الناس يقولون: بل هو عبدالله بن عمرو المزني، وهرمي بن عبدالله أخو بني واقف، وعرباض بن سارية الفزاري.
قال ابن إسحاق: فبلغني أنَّ ابنَ يامين بن عمير بن كعب النضري لَقِيَ أبا ليلى، وعبدالله بن مغفل، وهما يبكيان.
فقال: ما يُبكيكما؟
قالا: جِئنا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليحملنا، فلم نَجد عنده ما يَحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه، فأعطاهما ناضحًا له، فارتحلاه، وزودهما شيئًا من تَمر، فخرجا مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم؛ "البداية والنهاية" لابن كثير، ج5، فصل فيمن تَخلَّف مَعذورًا من البَكَّائين وغيرهم.
فرَضِيَ الله عنهم أجمعين، ورضي الله عن "أم عمارة المبايعة بالعقبة، المحاربة عن الرجال والشيبة، كانت ذاتَ جِدٍّ واجتهاد، وصَومٍ ونسك واعتماد"؛ حلية الأولياء، ج2، ذكر نساء الصحابيات.
رحاب حسّان
- التصنيف:
- المصدر: